القديس رومانوس المرنم
من بدائع القديس رومانوس الحمصي المرنم هذه الترنيمة الخالدة في تقريظ والدة الاله
“إن المولود قبل كوكب الصبح من الآب بلا أم،تجسد اليوم على الأرض منك بلا أب. لذلك الكوكب يبشر المجوس بولادتكِ التي لا توصف، وملائكة مع الرعاة يسبحونكِ، أيتها الممتلئة نعمة. إن الكرمة أفرعت عنقوداً بدون فلاحة،وحملته في أحضانها كعلى غصن، وقالت: “أنت ثمرتي، أنت حياتي”. أنا ما عرفت كيف حبلت وكيف وافيتَ مني وبقيتُ عذراء. تركتَ أحشائي كما وجدتَها وحفظتَها سالمة. لذا تفرح الخليقة كلها بي وتهتف: أيتها الممتلئة نعمة.”
السيرة الذاتية(1)
لا نعرف الكثير عن القدّيس رومانوس، ولكننا نعرف انه ولد في مدينة حمص، رأى النّور فيها في آواخر القرن الخامس، وبالتحديد في سنة ٤٨٥ مسيحية. درس الآداب اليونانيّة المنتشرة قي ذلك العصر في معظم البلدان المكوِّنة للأمبراطوريّة الروميّة. درس الفنون، وخاصّة الموسيقى، وتعمّق في دقائقها، فأطاعت له الأنغامُ و النّبرات، وسمحت له أن يبرعَ في إتقانها، ولُقّب بالمرنّم لأنّه كان يؤلّف القصائد الدينيّة وينشدُها في الكنائس خاصّةً في كاتدرائية آجيّا صوفيّا في القسطنطينية.
كان يطالع في خلواتِه الكتاب المقدّس ويتأمّل في سموّ الإنجيل ومعانيه. أعجبته التّعاليم المسيحيّة، فاعتنق المسيحية بعد أنْ كان ذا أصولٍ يهودية.
في بيروت
جاء إلى بيروت، وهو في ربيع العمر، لمتابعة دروسه، وكانت بيروت مركزَ الحضارة والفنون. هناك سمع صوتاً داخليّاً يدعوه أن “تعال اتبعني”، فلبّى رومانوس الصّوت، ودخل طريق الكنيسة واعتمدَ، ثمّ دخل سِلك إكليروس بيروت، وأوقف حياته وفنّه في خدمة المسيح، ورسم شمّاساً إنجيليّاً في كنيسة القيامة الّتي كانت أكبرَ الكنائس الروميّة في مدينة بيروت وابهاها وعلى اساساتها اقيمت كاتدرائية بيروت الحالية.
حضرَ سنة ٥٣٦ المجمعَ اّلذي عقده البطريرك ميناس ضدّ أنثيموس القائل بمذهب الطّبيعة الواحدة.
تبوّأ يوستينياوس الكبير عرشَ الأمبراطوريّة الروميّة سنة ٥٢٧، وشيّد في سنة٥٣٢ كنيسة آجيّا صوفيّا الّتي دُشّنت سنة ٥٣٧، وكان رومانوس أحد كبار المرنّمين المشاركين في التّدشين.
في القسطنطينية
في سنة 551 مسيحية ، ضربت مدينة بيروت زلازلُ قويّة هدمت معظم المنازل والمعاهد والكنائس. منها كانت كنيسة القيامة ومدرسة الحقوق الشهيرة. لذلك، غادر رومانوس بيروت، وقد تفتّحت عبقريّتُه، وكان قد أعجَبَ الناسَ بأنغامه وأناشيده، ورحل إلى القسطنطينيّة العاصمة الرومية، واستقرّ في كنيسة كيروس للرّهبان ورسم كاهناً.
في عهد الامبراطور يوستنيانوس الاول، نظم رومانوس قصائده المشهورة والمعروفة بالقنداق، الّتي ما زالت تُرنّم وتُنشد في كنائسنا، وهي أكبر شاهد على عبقريّته وخيالِه الواسع وصوتِه الصّادح.
توفّي في سنة ٥٧٥ مسيحية، ورفعته الكنيسة إلى مصاف القدّيسين.
ويقولُ الدكتور عادل قادري بأنَّ الفضلَ بتعرُّفِه على القديس رومانوس المرنم يعود إلى إثنين :(2)
٠ الأب نقولا قادري، وهو راهب باسيلي شويري عشق شعر رومانوس، ترجم العديد من قصائده وكان عالماً هلينيّاً من طرازٍ جلل، يتقن الّلغة اليونانيّة القديمة. كان كثيرَ التّواضع. وبالرّغم من أنّه قريب له، لم يخبرْه بمّا قامَ به من ترجمة وما كان ينشرُه في المجلّات الدينيّة مثل المسرّة و المشرق والرّسالة المخلصيّة. وللأرشمندريت بولس نزها الفضلُ في جمع مخطوطات الأب قادري، وقد أصدرها في كتاب يليق برومانوس المرنّم ونيقولاوس المترجم.
٠ سعيد عقل الذي كتبَ في “لبنان إن حكى” مقالاً عنوانه “يرفع الأرض إلى السّماء”،وفيه يكشف للقارىء أنّ صاحب مدائح والدة الإله ما هو إلّا رومانوس المرنّم، وقد عرف ذلك من الأب قادري الّذي اكتشفَ وهو يترجمُ إحدى القصائد أنّ حروف إسم رومانوس هي مبثوثة في مستهلِّ الكلمات الأولى من مقطوعاتِ نشيدِ المدائح.
وعن سؤالٍ حول ما تركَ رومانوس من آثار، يقول الدكتور قادري “بأنَّ قصائدَه فاقت الألف قصيدة أو نشيد، ولم تصل كلّها إلينا: فقط ٨٩ قصيدة تمّت ترجمتُها إلى العديد من الّلغات، وكان للأب قادري الفضلُ في ترجمة بعضها إلى العربيّة”.
في القرنين السّابع والثّامن في حروب الايقونات، حُرِم الأرثوذكسيون كتبَهم وأناشيدهم الدّينيّة لمدّة لا تقلّ عن ٧٥ سنة. خلال هذه الفترة، فلقد سيطرت هرطقة محاربيّ الأيقونات على الكنيسة الارثوذكسية، واندثرت فيها أناشيد رومانوس. نقّب الكاردينال الفرنسيّ Pitra (1812- 1889) عن هذه القصائد، وله الفضل في جمع المتبقيّ منها الّتي غدت منهلاً لروّاد الشّعر الغنائي.
القصيدة عند رومانوس المرنم
تتألفُ القصيدة عند رومانوس من نحو ٣٠٠ بيت من الشّعر، وقد تصلُ إلى ٧٠٠ بيت، وهي تتركّبُ من مقطوعاتٍ (strophes) يزيد عددها على ١٥ مقطوعة، غالباً ما تكون أربعاً وعشرين وأحياناً ثلاثين مقطوعة. يبدأ النّشيدُ بمقدمّة تنتهي بلازمةٍ، وهذه الّلازمة تتكرّرُ في آخر كل مقطوعة، ممّا يعطي للسّامعين حين إنشادِ القنداقِ الشّعورَ بالغبطة ولذّةِ سماع الّلازمة. تدورُ مواضيع الأناشيد حول الأعياد المسيحيّة السيديّة، وكلّها مأخوذة من العهدين القديم والجديد.
ما هو القنداق؟
جمعُه القناديق، وهو إسمٌ مشتقٌّ من اليونانيّة kontakia، وهي تشير الى العصا الصّغيرة (kontos= bâton) الّتي كانت تُلفُّ عليها أسفار المخطوطات الليتورجيّة. طوّرَ رومانوس القنداقَ وبلغَ به الذّروةَ في الإبداع والروعة والإحساس والتواصل مع الموسيقى والإيقاع والتمثيل والحوار المسرحي. صيغَ كلُّ ذلك بلغّةٍ واضحةٍ سهلة ِالمنال قريبةٍ من فهم السّامعين.
يقول الكاردينال Pitra إنَّ “القصيدةَ عند رومانوس هي وليدةُ تأمّلٍ عميقٍ في أسرار الدّيانة والكتاب المقدّس، فهو يستخلصُ العقائد المسيحيّة وينظُمها أناشيدَ شعريّة موسيقيّة حافلةً بخيالٍ وروعةٍ وجمالٍ نقيٍّ قلّما عرفها الشّعراء الأقدمون”.
يعتبرُ سعيد عقل في كتاب “لبنان إن حكى” أنّ “المدائح هي أجمل شعر أطلعَه قلمٌ”. صاحبُ المدائح هو شاعرُ الفرح، “رفع من الفرح كاتدرائيةَ شعرٍ تكادُ تحاكي “آجيا صوفيا” تحملُها على جناحَين”. “كلُّ ذلك إكراماً للّتي،على تواضعِها، قالت ذات يوم :ها منذ الآن تمجّدني كلّ الأمم”. أمّا البابا بنديكتوس السّادس عشر، وفي محاضرةٍ ألقاها في ٢١ أيار سنة ٢٠٠٨، فإعتبر أن رومانوس هو “لاهوتيٌّ، شاعرٌ وملحّنٌ. الإيمان عنده هو حبٌّ، لذا يبتدعُ الشّعرَ ويخلقُ الموسيقى. الإيمان هو فرحٌ، لذا فإنه يخلقُ الجّمال”.
سرَّ تعلُّقِ رومانوس بوالدة الإله،
حين أقام رومانوس في كنيسة والدة الله “Theotokos” في حيّ كيروس القسطنطيني، وقعَ الحدثُ المِحوريُّ في حياته : يخبرُنا السّنكسار عن ظهور والدة الإله له في الحلم وحصولِه على الموهبة الشّعرية والصّوت الشجيّ، فلقد حضَّتهُ مريم على ابتلاع ورقة ملفوفة وقالت له : “ما بالكَ صامت ألا انهض وانشد مع الأرواح ترانيم السماء”. ولمّا أفاق من رقادِه العجيب، أحسّ بالوحي يهبطُ عليه ويحرّكُ شفتَيه ويلمسُ قلبَه بنغماتٍ ملؤها الشّعر وصفوتُها الموسيقى وروعتُها نقاءُ الإلهام، وكان ذلك في ليلة عيد الميلاد حيث أنشد:
“اليوم البتول تلد الفائق الجّوهر
والأرض تقرب المغارة لغير المقترب إليه
الملائكة مع الرّعاة يمجّدون
والمجوس مع الكوكب في الطّريق يسيرون
لأنّه من أجلنا ولد طفلاً جديداً
الإلهُ الّذي قبل الدّهور.”
استغفار رومانوس في اناشيده
“ضارعتُ الإبنَ الشّاطر بأعمالي الزّائفة، ومثله أنطرح أمامك ملتمساً الغفران يا رب، فلا تعرض عنّي يا ربّ، يا سيّد الدّهور.”
الخاتمة
ü رومانوس أبن المشرق الروميّ ابن حمص الذي به تفتخر والذي إنتقلَ من حمص الى بيروت فالقسطنطينية العاصمة.
ü أغنى رومانوس الكنيسة الجامعة بشعره وموسيقاه التي عمَّت المسكونة المسيحية.
ü يشهدُ عملُ رومانوس بأنَّ المسيحية ليست فقط إيماناً وصلاةً بل هي أيضاً أدبٌ وفنٌّ يمجّدان الخالق.
ü تعلَّقَ رومانوس تعلُّقاً خاصاً بوالدة الإله، وأنشدَ لها المدائح الشعرية التي تُتلى في أسابيع الصوم الكبير.
وهل ثمة عجيبة اكبر حدثت خلال سهرانيّة عيد الميلاد المجيد، في كنيسة بلاشيرن في القسطنطينية، أن ظهرت له والدة الإله وفي يدها دِرْجُ الروحانية ناولته إياه ليأكله فطفق يمجد والدة الاله باعذب الاشعار والنغمات.
وحالما ذاقهُ ملأت حلاوةٌ فائقةٌ فمَهُ فصعد على المنبر وراح يرتل بصوت ملائكي النشيد المعروف بالقنداق لوالدة الإله:
“اليوم البتول تلدُ الفائقَ الجوهر، والأرض تقرِّب المغارة لِمنْ هو غَيرُ مقترب إليه. الملائكة مع الرعاةُ يُمجدون، والمجوس مع الكَوكب في الطريق يَسيرون، لأنه قد وُلِد مِن أجلنا صبي جديد، الإله الذي قبل الدهور.”
ومنذ ذلك الحين تدفّقت موهبة الروح القدس فيه ولم تفارقْهُ. فنَظَمَ عدداً هائلاً من الأناشيد التي شملت معظم أعياد السنة الليتورجية.
-رومانس هو مبدع الأناشيد المعروفة بالقنداق نسبةً إلى العصا التي يُربَط فيها الدَرج أو المخطوط. وتشير هذه التسمية إلى الدرج التي أعطته والدة الإله للقدّيس ليتناوله.
والقنداق مجموعة مما يسمّى بالأبيات يتراوح عددها بين العشرين والأربعة والعشرين بيتًا، يتضمن كل بيت فيها عددًا مِن الطروباريات.
يقال إنّ القدّيس رومانس أنتج ألفًا مِن هذه القناديق، لم يبقَ منها اليوم إلا ثمانون.
وِمِن القناديق المنسوبة إليه مديح والدة الإله الذي اعتادت الكنيسة إنشاده، خلال فترة الصوم الكبير مِن السنة.
يُذْكَر أن القدّيس رومانس هو أوّل من اعتاد أن يضع حرف ( T باليونانيّة قبل اسمه، والحرف يشير إلى كلمة (Tapinos) التي تعني الحقير أو الذليل.
هذه العلامة ذاتها اعتمدها الأساقفة فيما بعد فجاءت بشكل صليب صغير.
في صلاة المساء الخاصة بعيده، ترتّل له الكنيسة الأنشودة المعبّرة التالية:
“يا أبانا المكرّم رومانوس، لقد صرت مَبدأ للخير وعلّة للخلاص، ولمّا وضعت أناشيدك الملائكيّة، أَثْبَتَّ، في الحقيقة، قداسة سيرتك. فابتهل إلى المسيح الإله أن يحفظ المرتلين لك مِن التجارب والأخطار.”
المراجع
1- السنكسار سير القديسين
2- الحلقة الثامنة من الشبكة الثالثة لبرنامج تراث من نور، الدكتور عادل قادري تحدث عن سيرةِ القديس العظيم رومانوس المعروف بالمرنِّم وعلى أعماله الأدبية والموسيقية الكبيرة