المتروبوليت أبيفانيوس زائد
راعي ابرشية عكار وتوابعها…
1982-1890
مقدمة
قلة من هم الذين لعبوا دوراً في التاريخ فوثق اسماءهم وأفعالهم، في كرسينا الانطاكي المقدس… العديد من هؤلاء الأفذاذ وخاصة في العصر الحديث وبدون ادنى شك كان منهم علمنا خلال فترة طويلة من عمر مطرانيته منذ 1925 الى 1982
ابيفانيوس زائد مطران بشخصية قيادية فذة لعبت شخصيته دوراً مثيراً للعجب في كرسينا الانطاكي المقدس في اندفاعته، وطموحاته، حققت ايجابية كبيرة عنه عند البعض من المعاصرين والمؤرخين والدارسين،وعند البعض الآخر اوقعت مضار كبيرة لفترة طويلة…
نحن في تدوينتنا هذه آثرنا فقط، أن نفي هذه الشخصية المتميزة بكل شيء حقها، لجهة مواصفات صاحبها الروحية والوطنية ومواهبه الفنية في المجالات كافة…
ولسنا هنا في صدد البحث في مايراه البعض من السلبيات، فلهذه الشخصية المثيرة للعجب مكانتها التي لاتُقَّدَّر، ليس لعدم مقدرة منا في ذلك، ونحن نمتلك كل المعلومات، مايتيح لنا ذلك بسهولة، ولكننا لا نؤثر ذلك، ونتركها لمن يريد الدخول في العمق اكثر…ولتبقى دراسته في مجال الدراسات الاكاديمية الخاصة التي ليست للنشر…
مع قناعتنا المطلقة ان مايراه احدنا سلبية يراه غيره منتهى الايجابية، والعكس صحيح…
البطاقة التعريفية
هو خليل بن موسى زائد، وبالتالي هو الولدهو الولد الوحيد لموسى يوسف زائد، وورده الخوري سليمان، ولد في دير عطية في الرابع من آب عام 1890
وقد أخذ عن والده التقوى والوفاء، وعن امه النشاط والذكاء، وترعرع بين اترابه يتغنى بذكر قريته ويتفاخر بمحاسنها وقد تركت في نفسه اطيب الأثر في الشعر والادب كما سيتجلى لاحقاً
بلدته دير عطية
ديرعطية كانت وقتها مجرد قرية صغيرة من قرى القلمون الغربي، وتبعد عن مدينة دمشق باتجاه الشمال نحو80كم، وهي قرية جميلة من قرى جبال القلمون الواقعة شرقي سلسلة جبال لبنان الشرقية، والمؤلف قسماً منها، والممتد من البريج شمال قارة الى الدريج جنوب صيدنايا
ويرتفع عن سطح البحر من الألف الى الثلاثة آلاف متر. نقي السماء، جاف الهواء، عذب الماء، كان وقتها لايقل عدد سكانه عن المائة الف نسمة، وقد صارت مرتفعاته وشعابه وثناياه عارية جرداء، باستثناء بعض الاشجار، لكثرة الرعي الجائر من قطعان الغنم والماعز، أما أرض المنطقة فصفراء ملحة يكثر فيها الأشنان والحرمل والغضا والقيصوم والخزامى، وتتولد فيها بنات أوبر اي الكمأة، حينما يرويها المطر في الخريف والربيع…
المنطقة يقصدها المصطافون درءاً للحرارة المرتفعة، وطالما تغنى بها الشعراء حيث قال الشاعر
” إذا هاجت الرمضاء ذكراك برَّدت……… حشاي كأني بين قارة والنبك
اما علمنا الشاعر فقال في وصف بلدته ديرعطية
وماؤك ماء صدَّا من تصدّى………..لشرب زلاله عزّ الفطام
معظم بلدات وقرى القلمون تجري المياه من ينابيعها العميقة، بواسطة الأقنية القديمة الممتدة من الأراضي القريبة او البعيدة، للشرب والري وتوجد ايضاً ينابيع كثيرة، تتدفق من الصخر، كما هي في قاره، ودير عطية، والنبك، ويبرود، ومعلولا، وصيدنايا…
اما في ديرعطية فكان فيها نهر صغير ينبع من شمال النبك ويتخلل أراضيها بين الحور والصفصاف والاشجار المثمرة على اختلافها
قال فيه الشاعر المطران ابيفانيوس منذ حداثته
” يروي أرضها نهر صغير…………..تطيب على جوانبه المدام”، وموضوع كتاباته، ومنطلق عواطفه وأشعاره الأولى.
هذه القرية وماجاورها من المشاهد الجميلة، ملأت مخيلة الفتى، فكانت مجلى أمانيه لذلك يُروى عن علمنا قوله انه عندما خرج من بلدته الى الدراسة في البلمند كان يحفظ المئات من الاشعار المختلفة وبقي يرددها حتى انتقاله الى الاخدار الالهية…
ونعود لنؤكد ان بيئة قريته والمنطقة اسهمت في تكوين شخصية علمنا.
دراسته
تلقى تعليمه الأولي في المدرسة الارثوذكسية في ديرعطية، التي كانت قد طورتها الجمعية البطريركية
الفلسطينية الروسية الارثوذكسية كبقية مدارس الجمعية في بلاد الشام، وكانت ديرعطية ومنطقة القلمون تتبع برمتها الى ابرشية سلفكياس ( زحلة وبعلبك والبقاع، وصيدنايا ومحيطها معرة صيدنايا ومعرونة، ومعلولا محيطها ودير عطية والنبك ويبرود وقارة، والزبداني وبلودان ووادي بردى وتولت البطريركية في دمشق ادارة هذه المدارس في دمشق وابرشيتها.
درس الابتدائية في مدرسة البلدة الارثوذكسية، وكانت تعنى بتعليم الاولاد مبادىء الايمان المسيحي الارثوذكسي، واللغة العربية النقية، والحساب، وحفظ المنتخبات من الاشعار الأدبية والحكمية، عدا مختصر الكتاب المقدس ن وتفسير الخدمة الالهية، والتراتيل والأناشيد الكنسية…
رحلته الى دمشق وحياته الاكليريكية الأولى
في اول يوم من ايلول 1904 سافر الفتى خليل ابن 14 سنة صحبة والده الى دمشق سالكين طريق النبك ويبرود ومعلولا وصيدنايا على ظهر دابة – حسب العادة- فوصلا معلولا مساءواجتازا الفج وعلى مايبدو انهما امضيا الليلة في دير القديسة تقلا البطريركي.
في صباح اليوم الثاني واصلا السفر نحو دمشق عن طريق صيدنايا والمعرة، وقي المساء وصلا الى دمشق، وكانت دمشق المدينة القديمة المحاطة بأسوارها التي بهرت الفتى خليل، وبعد يومين اي في صباح السبت ذهب ووالده الى المريمية للاشتراك في الصلاة، فوقف مع المرتلين، وتلا فصل الرسائل اليومي، بصوته الشجي الرخيم، فلفت اليه انتباه مثلث الرحمات البطريرك ملاتيوس الدوماني الدمشقي (1898-1906) الذي كان في الهيكل يسمع القداس الالهي، فطلب من أحد الكهنة ان يحضر اليه بهذا الفتى ووالده في الصرح البطريركي لمقابلته، فلما حضرا ولثما انامله، قال غبطته للفتى خليل بعدما سمع منه أناشيد كنسية:
” هل تريد يابني أن تذهب وتتعلم في مدرسة البلمند الأكليريكية(1) التي فتحتها وتصير بعد ذلك مطراناً؟ فأجابه الفتى خليل: نعم اريد.فقال غبطته لأبيه: “ادرس ياولدي هذه الفكرة مع اسرتك وأحضر الصبي في آخر هذا الشهر اذا وافقتم على سفره.”
وهكذا كان، فالصبي أراد الاذعان لمشيئة البطريرك ملاتيوس، رغم بكاء امه التي صعب عليها كثيراً أن تفارقه، فسافر مع رفاقه المبتدئين الى دير البلمند، ودخل المدرسة الاكليريكية. وبعد نصف سنة أُلبس الثوب الأسود، وكان من المتفوقين بين أقرانه في العلوم الدينية والادبية وفي الموسيقى والشعر.
بعد انتقال البطريرك ملاتيوس إلى الأخدار السماوية عام 1906 بالسكتة الدماغية، عاد الفتى المبتدىء خليل الى دمشق / الدار البطريركية والتحق بخدمة البطريرك غريغوريوس الرابع حتى العام 1909، وتنفيذا لتوجيه غبطته بقي يتردد نحو نصف سنة على زحلة بأمر غبطته، و ليساعد مطران سلفكياس ( وكانت القلمون تتبع لأبرشيته) المتروبوليت جرمانوس شحادة في بعض الشؤون.
دراسته
إذن تلقى خليل تعليمه الأولي في المدرسة الارثوذكسية في البلدة التابعة لكنيسة بلدة ديرعطية، التي كانت قد طورتها الجمعية البطريركية الفلسطينية الروسية الارثوذكسية كبقية مدارس الجمعية في بلاد الشام، وكانت ديرعطية ومنطقة القلمون تتبع برمتها الى ابرشية سلفكياس (زحلة وبعلبك والبقاع، وصيدنايا ومحيطها معرة صيدنايا ومعرونة، ومعلولا محيطها ودير عطية والنبك ويبرود وقارة، والزبداني وبلودان ووادي بردى) وتولت البطريركية في دمشق إدارة هذه المدارس في دمشق وأبرشيتها.
ثم تابع تعليمه في مدرسة الآسية البطريركية في دمشق، ثم التحق بالمدرسة الاكليركية في دير البلمند قرب طرابلس.
سفره الى روسيا للدراسة
في عام 1909 أرسله البطريرك غريغوريوس حداد إلى روسيا دير القديس سرجيوس “زاغورسك” قرب موسكو والمحتوي على اكاديمية موسكو الروحية، ليدرس التصوير الكنسي وغيره فتعلم الروسية، وأحرز شهادة التصوير الكنسي، وبعد سنة ونصف عاد الى سورية ليشاهد اهله ويرجع بعدها الى موسكو، للدخول في مدرستها الفنية العليا
شموسيته
في تلك الفترة كان البطريرك غريغوريوس في قرية الكفير، فكلف مطران سلفكياس جرمانوس ان يرسمه شماساً انجيلياً فتم ذلك في 24/أيلول / 1911 يوم عيد القديسة تقلا ودعي أبيفانيوس اي ظاهر.
سفرته الثانية الى موسكو
سافر ثانية إلى موسكو لدراسة الفنون الجميلة في الأكاديمية العليا بأمر من غبطته، وكلفه خدمة الأمطوش الأنطاكي كشماس، ومساعداً لرئيسه الارشمندريت أنطونيوس مبيض، فنجح في امتحان القبول في هذه المدرسة، وكان الثالث من الطلاب الثمانية والعشرين المقرر يقبولهم في تلك السنة، من المتقدمين الكثيرين للامتحانات، فنجح وتفوق بكل دروسه في مدرسة النقش والنحت والتصوير العليا في موسكو، واشترك في المعرض السنوي للمدرسة، وبيعت لوحاته، فسر بالشهرة والفائدة، ولم يعد في حاجة كالسابق للأشياء الضرورية، ويحتار من أين يتدبر أمر المال اللازم لشرائها، اذ صار في إمكانه ذلك.
في دمشق مجدداً
في اول صيف عام 1914 عاد إلى سورية للاستراحة والاستجمام، ومشاهدة الأهل والأصدقاء، وتصوير ما امكنه من المناظر الجميلة، ليبيعها هناك، ومن ثم العودة إلى روسيا، بيد أن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون عودته.
اثناء وجوده في الوطن، وعدم تمكنه من العودة الى روسيا، بقي هو في البطريركية بدمشق بخدمة البطريرك غريغوريوس الرابع، وكان يوفده الى حيث ثمة حاجة الى وجوده حتى انه اوفده (2)الى دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي وساعد رئيسه ورهبانه ومنهم المبتدىْ ايوب سميا(3) من مكافحة جائحة الجراد المخيفة التي ضربت سورية عامة ومنطقة وادي النصارى واراضي الدير ولم يبق الجراد لا أخضر ولا يابس، حتى انه ملأ بيوت السكان وغرف الدير، حيث اشار عليهم ان يتم حفر حفر كبيرة في كل مكان لمكافحة الجراد وطمره اعتماداً على خبرته في بلدته ديرعطية، في نشأته حداثته، وما اكتسبه بعدها خلال وجوده في روسيا.
في دمشق ودير الحميراء وفي كل مكان اُوفد اليه، انكب على الدراسة وتصوير الايقونات، وبقي في حركة دائبة وفق رغبة غبطته الى أن حطت الحرب أوزارها في عام 1918.
وكان خلال هذه المدة يتحين فرصة مناسبة، ليعاود سفره، ويحقق آماله، إلا ان الثورة الشيوعية التي اندلعت عام 1917 حالت دون بلوغه غايته المنشودة، فبقي في الوطن في حاشية البطريرك غريغوريوس، فرقاه الى رتبة “ارشيدياكون” رئيس شمامسة الكرسي الأنطاكي، وأخذ يعلم الأدب العربي والرسم واللغة في المدارس الارثوذكسية في دمشق بمحلة الميدان، وادار مدرسة القديس حنانيا الرسول في الميدان. فنبغ ذكره وذاعت شهرته والف “جمعية الرابطة الأدبية في دمشق”، بالاشتراك مع نخبة من كبار أدباء بلاد الشام، وهم خليل مردم بك وقد ترأس المجمع العلمي العربي فيما بعد، وعبد الله النجار، وشفيق المعلوف، وحليم دموس، ولبيب الرياشي، وماري عجمي، ونجيب الريس، ومحمد الشريفي، وعبد الرحمن الشهبندر، ومصطفى الشهابي، وفخري البارودي وغيرهم.
عضوية المجمع العلمي العربي ( مجمع اللغة العربية)
وفي عام 1924 انتخبه المجمع العلمي العربي، برئاسة العلامة محمد كردعلي رئيس “ديوان المعارف”، عضوا في لجنة الفن والترجمة، فنظم كثيراً من الأناشيد للمدارس والنادي الارثوذكسي برئاسة الأديب توفيق قندلفت، وغيرها من الأناشيد الوطنية المعروفة، مثل:
“يابني قومي صعوداً” و” سورية يامهد السلام” و” بروحي الشام أفديها” و” ظبية الأنس اليَّ” و” نفديك سورية يابهجة الشرق” و ” زينة الانسان علم”و….
وقد استحوذ على اعجاب امير الشعراءأحمد شوقي حينما تعرف عليه في بيت خليل مردم بك فقال عنه:” لعله الأخطل”…
مطرانيته على حمص
وفق الشهادات الشفهية، زار البطريرك غريغوريوس الرابع مدينة حمص في عام 1924(4) زيارة رعوية لتفقد أحوال رعيتها بعد انتقال مطرانها المؤبد الذكر اثناسيوس عطا الله (الموصوف بالقديس) الى الاخدار السماويةعام 1923وكان معه في حاشيته الارشيدياكون ابيفانيوس، فأعجب الحمصيون بصوته وأدائه الملفت بالترتيل، وهم يعشقون فن الترتيل والموشحات والاصوات الجميلة كالحلبيين، فبدأوا بالطلب من غبطته ان يقيم عليهم ابيفانيوس مطراناً لحمص خلفاً لمطرانهم القديس.
استمهلهم للدراسة تارة، وتارة بقوله ان مرشحهم صغير السن ونزق، لكنهم اصروا عليه حتى انهم جاؤوا من حمص وفق قوله ب(40) باصاً كبيراً عدا بعض السيارات الصغيرة (رغم قلتها في ذاك الوقت) وكان بينهم اعضاء المجلس الملي الأرثوذكسي الحمصي، وحتى من اصغر الطبقات في المجتمع الارثوذكسي الحمصي، وتتالت الوفود وضمت كل الفعاليات الحمصية وكلها تطالب بإلحاحٍ البطريركَ والمجمعَ المقدس بالشماس ابيفانيوس مطراناً عليهم، واستعصوا سلمياً في دار البطريركية بدمشق مصّرين عليه منتخباً وحيدا لا يرشحون غيره على مطرانية حمص.
عندها لم يجد البطريرك غريغوريوس بداً من تنفيذ رغبة أهل حمص، وانتخبه المجمع الانطاكي المقدس في 28/آب عام 1925 مطراناً على أبرشية حمص.
حالت “الثورة السورية الكبرى 1925- 1927” دون شرطونيته فتأخرت الى يوم الخميس اول العام 1926، وتمت المراسم في “الكاتدرائية المريمية” بوضع أيدي البطريرك غريغوريوس وباسيليوس الدبس مطران عكار، والكسندروس طحان مطران طرابلس، وحضور رسمي سوري وافرنسي من الحكومتين الوطنية والمنتدبة وكبار اعضاءالمفوضية الفرنسية العليا، وجماهير الشعب وخاصة الشعب الحمصي.
دخوله حمص
كان الحضور الارثوذكسي الحمصي ذاته لجهة الضخامة ذاتها من الذين الحوا عليه مطراناً، ومن الذين حضروا رسامته وتنصيبه في مريمية الشام، وهم الذين واكبوه الى حمص بعد يومين من رسامته، وقد دخلها دخول الفاتحين، بمظاهرات فرح صاخبة من مدخل حمص الى أحياء حمص القديمة، وبستان الديوان حيث دار المطرانية وكاتدرائية حمص، بالشموع والصليب والمراوح والمباخر، وصلى صلاة االشكر في “كاتدرائية الاربعين شهيداً” برفقة موفدي غبطته من مطارنة عكار وطرابلس… والاكليروس، واكليروس الطوائف الأخرى هناك شكر للشعب الحفاوة وأعلن لهم شعاره المثلث: “الصليب والكنيسة والوطن.” وشرح لهم خطة عمله فتعلقوا به أكثر فأكثر.
وقد وصفته الآنسة الفرنسية بوللو في كتابها عن الشرق ما ترجمته: “إن المطران الجديد وسيم الطلعة يشبه الصور التي إلى جانب باب الهيكل” تقصد في ذلك ايقونات الايقو نسطاس.
منذ اللحظات الاولى لمطرانيته شمر عن ساعد الجد، وأضاف إلى أعمال سَلفه المطران اثناسيوس عطا الله المبرورة إحداثات وتحديثات وإصلاحات وإضافات شملت الأوقاف والمدرسة ودار المطرانية، ثم اشترى بمساعدة الرعية خان الحميدية وجدده، وبنى المنازل فوقه، وبنى الميتم في الحميدية …الخ
أكمل كنيسة القديس أنطونيوس في حي باب السباع، وأصلح الايقونسطاس في كنيسة القديس جاورجيوس في محلة الحميدية وجدد مدخل دارها.
وبتوجيهه بُنيت كنائس المشرفة والوريدة وقطينة التي بنى داراً للكاهن قربها، وأكمل كنيسة الدوير، وغير ذلك من الانجازات، وفق روايات الناس وشهاداتهم الشفهية.
أصبح بعد ذلك مطراناً على أبرشية اللاذقية لفترة مؤقتة بعد خلافات مع فريق من رعيته، ومع البطريرك الكسندروس، وأسس مادعاه “الكنيسة السورية المستقلة” التي وُجد لها انصارٌ كثر وخاصة في محلة الميدان بدمشق الذين تتلمذوا عليه في مدرستها…
وأخيراً تولى أبرشية عكارفي كانون الأول 1941 وبمرافقة من مطران بيروت ايليا الصليبي والاسقف فوتيوس خوري ووفود اللاذقية وحمص وعكار دخل الى حلبا مركز ابرشيته، والقى الارشمندريت توما المعلوف كلمة سيادته البليغة وفيها ابدى استعداده لخدمة ابرشيته ورعاياها، داعياً الرعايا الى الالتفاف حوله.
انصرف الى العمل لإعمار أبرشيته الجديدة بدءاً من دار مطرانيته الفارغة من كل اللوازم، واستكمال أثاثها ولوازمها، إلى القيام بالإصلاحات الضرورية في البلدة من طرق ومركز هاتف، والعبارات الموصلة للمطرانية، ووسع محيط دار المطرانية وشَّجره بالاشجار المختلفة، وجدد القسم الغربي من المطرانية ثم القسم الشرقي …
وكذلك قام بالإصلاحات اللازمة في “دير مار الياس الريح في الصفصافة”، ورمَّم أبنيته المتداعية وغرس 3000 شجرة زيتون في أراضيه، وجدَّد سقف الكنيسة وبلطها وصنع أيقونسطاساً جديداً لها، وأنار الدير بالكهرباء، وحفر بئراً له لضخ المياه، ولسقاية اراضي الدير وجعله مقره الصيفي في القسم السوري من عكار.
كما أصلح الطابق العلوي الجنوبي واضاف اليه من الغرب رواقاً كبيراً وصب السقوف كلها بالاسمنت…
كذلك حرر أراضي دير مار ضومط في مقعبرة، ومسحها وقيدها في السجل العقاري وقفاً، واعاد بناء الدير بعدما هدمته أحداث الايام، وشق اليه طريقاً من الجنوب والشمال تسهيلا لأبناء القرى في زيارته للتبرك.
وقد وافته المنية في عام 1982 ودفن هناك في مدفن مطارنة عكار الذي أحدثه.
– شخصيته وصفاته
يتصف المطران ابيفانيوس / وكذلك أصدقاؤه وأتباعه يصفونه/ بالجرأة والحرية في مواقفه لدرجة يعتبرها البعض تهوراً، وكان لايثنيه شيء عن أهدافه الصحيحة بنظره.
فهو بالرغم من وداعته (وأنا أعرفه في شيخوخته والتقيته في مقره الصيفي دير مار الياس الريح في الصفصافة، في السنة التي انتقل فيها، ولمست هذه الوداعة وهي وداعة ابن الريف) ومواهبه الغزيرة في العلم والادب والموسيقى والتصوير ، عنيف، يأبى مايعتبره ضيماً ويكره التزلف والرياء والظلم.
يحب الانسانية ويتفاعل مع ناسها ويدعو الى التمسك بالعقيدة المسيحية التي تدعو إلى نبذ الاحقاد.
كان يحتقر المادة، ويُروى عنه انه كان يسعد في إطعام الجياع وإيواء البؤساء وافتقاد المرضى، وسد حاجة المحتاجين ونصرة المظلومين.
ومن الأدلة على محبته وتواضعه وتسامحه واخلاصه قوله
لا تحقدن على الصحابِ………… داو الضغينة بالعتابِ
فالحقد مجلبة الأذى……………. والعتب مجلبة التحابِ
وصفه لبيب الرياشي بقوله للوجيه الدمشقي القانوني حنا مالك وفي بيته:” في المطران ابيفانيوس قوتان متناقضتان: اللطف والوداعة الشديدة كالحمل، والقوة والبطش كالأسد”.
اتصف بقوة الذاكرة، فكان يحفظ أسماء الاعلام، وهيئات الاشخاص والتواريخ، كان ذو حنان شديد، يعطف على الصغار ويتألم للمظلومين حتى لو أدى ذلك الى نتائج سلبية كما في الانشقاقات التي قادها كالكنيسة السورية المستقلة، ودعم الانشقاقات كما في توليدو أوهايو ودوره في تصيّيرها أبرشية مستقلة عن نيويورك مع ماجرت على الكرسي من مشاكل.
كان قوي المطامع، شديد الطموح سلطته أفقية واسعة في الوظيفة والادارة، فلا يخشى كبر المسؤوليات واتساعها، ورث عن أمه الذكاء ، وعن أبيه الصدق والوفاء.
كان يفكر في ثلاثة موضوعات في آن واحد…
مرض مرتين مرضاً شديداً…
أجتاز في حياته حتى الستين من عمره أربعة أدوار وكان قد لمع نجمه وهو بعمر 28 سنة، وقد لازمته شهوة وسطوة الحكم طيلة عمره، اما الأدوار الأربعة ففي أولها شديد، وفي ثانيها لطيف مدارٍ وفي ثالثها قوي نافذ، وفي رابعها وديع حكيم.
كان طويل القامة، ممتلئ القوام، وسيم الطلعة، لطيفاً، حسن المعشر، ذا صوت رخيم وخاصة بأداء الأنغام البيزنطية، وكانت معارفه اللاهوتية واسعة ودقيقة وعجيبة، كما كان علماً من أعلام الموسيقى والشعر والأدب والفن، أجاد اللغة الروسية وألم باليونانية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية.
ابيفانيوس الشاعر
نظم الشعر منذ صباه، وقد اجتمع له ديوان حوى الكثير من القصائد في مختلف الأغراض مثل “الأناشيد الوطنية” والروحانيات، والوصف، والمديح، والمراثي، والتهاني، قال عنه أحمد شوقي” لعله الأخطل”، وذلك عندما عرفه عليه في منزل خليل مرد بك
الإنتاج الشعري
له ثلاثة دواوين جمعت شعره على مراحل والدواوين هي : ديوان المطران أبيفانيوس زائد: مطابع دار غندور – (ط 1) بيروت 1973 – المقدمة بقلم أديب ملحم البستاني، وحصاد الشيخوخة: شعر – مطابع الشركة الجديدة للطباعة – بيروت 1979.
زادالآخرة: مجموعة شعرية – مطابع جحا إخوان – بيروت 1981، المقدمة بقلم أديب ملحم البستاني
كما نالت قصائده شهرة واسعة، وبخاصة قصيدته التي وصف فيها قرى القلمون
قلمــــــون يا مجلي الربى…………….فوق والقرى البيضــــاء
يمتد من البريج إلى الدريج…………… مقابل الآكام والبطحاء
في باب الدين والتقوى، فله القصائد الممتعة، والمقطوعات الوجدانية المليئة بالموعظة والحكمة والعاطفة. وغير ذلك من الخواطر التي سطرها إبان مرضه في عام 1969 وكتبها على الصور ومنها هذه الابيات
آثرت حبك يايسوع………………… لأن فيه سعادتي
ولأن في حبي سواك……………… أذيتي وشكيتي
فعلى الصليب محبتي………………تحت الصليب بقيتي
وهذان البيتان
هيأت قبري قبل موتي عَّلَّني………….أرتاح فيه من شقاء الجسد
وربما يحتله غيري فما ……………..لنا هنا مدينة للأبد
من المؤكد ان قصيدته الروحية الرائعة ومطلعها:” ربي من غيرك اعبده” هي من اجمل قصائد الشعرية التي لفتت اليه انتباه فحول الشعراء منهم امير الشعراء احمد شوقي، والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب…
يقول في ابياتها الأولى
ربي من غيرك أعبده………………….واقدسه وامجده
ابداً يشتاق اليك القلب………………… لأن جمالك مورده
الروعة والحسن التقيا…………………فيما اوجدت وتوجده
….
….
ياسيد روحي يامولاي……………….. أيهمل عبداً سيده
مالي في غيرك من أمل……………… أو بابٍ آخر أقصده
ويختم بقوله
فالحدثُ حياةٌ فيك فأنت………………..حياة الكون وسرمده
هذه القصيدة الابتهالية الرائعة اقتنص الموسيقار محمد عبد الوهاب لحنها واوقعها على قصيدة مضناك جفاه مرقده لأمير الشعراء أحمد شوقي عام 1938.
كيف تم ذلك؟؟؟
كان عبد الوهاب يصطاف كل سنة، خلال أكثر من أربعة عقود في بلودان، ولكنه كان يخصص ماقبل ظهر ايام الآحاد ليزور الكاتدرائية المريمية ويستمع الى الالحان الرومية الرائعة في القداس الالهي…
وكان يُشاهد(5) جالساً في أحد المقاعد في الصفوف الأخيرة في الجانب الايمن للكاتدرائية، وبيده دفتر وقلم ويسجل مدوناته، وكان يستمع من المرتليّن الشهيرين ديمتري المر ، وابيفانيوس زائد والشماس اندراوس معيقل وآخرهم كان البروتوبسالتي ايليا سيمونيذس “الشهير بالرومي” وهو من الناجين من مجازر الاتراك بحق أبناء الكرسي الانطاكي في كيليكية، ويستمع الى الصوت الهادر للمرحوم مرتل اليسار توفيق الحداد فيطرب له فخامة صوت المرحوم المذكور كانت بعيدة عن اي وصف صوت عريض وعالي وحنون جداً…
له قصيدة “صلاة” وهي ابتهالية رائعة للرب لحنها على وزن بشرف سماعي بياتي وصار ينشدها ويطرب السامعين لها فتخرج الاصوات بالآه…
يقول فيها
رب أنصت لاسترحامي……………….وأضيء بجمالك قدامي
واصفح يارب عن آثامي
القرار
إسمع شكوى نفسي الظمأى…………… وابعث روحك القدوس
مجني انت وموئلي …………… ومرتعي ومنهلي
فأرسل لي روحك القدوسا
ليطهرني من آثامي
واذكر اننا في تموز عام 1982 كنا في رحلة رعوية الى طرطوس اعدَّ لها وقادها الصديق والقريب الأب الارشمندريت دامسكينوس منصور راعي كنيسة الصليب وزرنا ظهراً دير النبي الياس الريح في الصفصافة، وكان قدسه قد علمنا/ كونه كان يعلمنا الترتيل كجوقة جديدة للكنيسة/ علمَّنا قصيدة “ربي من غيرك اعبده” وهذه القصيدة وعنوانها “صلاة” ولم نكن نعرف صاحبهما وكنا نسمع باسمه، وقتها طار عقلنا من شدة الفرح لما عرفنا ان صاحبهما المطران ابيفانيوس كان في خلوته الروحية في هذا الدير، واخذنا الاب دامسكينوس اليه، وكان جالساً على كرسي خشبي قديم، يستظل تحت الرواق في الطبقة العلوية من الدير، قبَّلنا يده فرحب بنا بحرارة، وباركنا برسم الصليب على رؤوسنا، فوجئنا بعمره المتقدم وبصوته الضعيف المرتجف، ونحن كنا نسمع عن اقتداره وصلابته، فطلب منا الاب دامسكينوس ان ننشدهما لسيادته…
فما كان منه الا ان بكى تأثراً، وهو في هذا العمر الجليل، وأبكانا جميعاً وقال لأبينا دامسكينوس بكل التأثر: ” انا اشكرك على وفائك يا أبونا دامسكينوس” ثم تنحنح وقال: “اسمحوا لي أن أصحح لكم بعض اللحن…” وعلمنا هو اللحن الصحيح بصوته الضعيف، وهو يعتذر منا نحن اولاده على ضعف صوته” لا تؤاخذوني يااولادي على ضعف صوتي وبكى مجدداً” ولكنه كان يحمل بصمات الصوت الجميل القديم والأداء المتقن، وكان يرافق تعليمه لنا بالضرب براحة يده على ظاهر فخذه ككل معلمي الترتيل والانشاد ولا تزال الدموع تنزل من عينيه الضعيفتين…
مشهد لايمكنني أن أنساه…أبيفانيوس يبكي تأثراً من مجموعة شباب وصبايا رتلوا بعضاً من قصائده وألحانه…
ودعناه بقبلة يده، وهو جالس لعدم قدرته على الوقوف، بسبب العجز والشيخوخة الجليلة، فباركنا وقال: “تابعوا تعلم الترتيل يا اولادي مع ابونا دامسكينوس المعلم الشهير، مافي أحلى من الترتيل البيزنطي، الكل يحسد كنيستنا الرومية الانطاكية عليه، تابعوا يا اولادي انتم امل كنيستنا الانطاكية، افتخروا بكنيستكم والكنيسة تفتخر بكم الله يبارك حياتكم.” وكان يبكي…
وكانت سانحة عظيمة من سوانح الفرح، ان التقينا به وتعرفنا عليه ونلنا بركته لأنه
في تلك السنة انتقل الى الاخدار السماوية…
هذا هو المطران خالد الذكر ابيفانيوس زائد كما عرفته في آخر ايامه…اسكنه الله في جنته السماوية.
قال في قصيدة ” قيامة المسيح”
قام المسيح فأيام الأسى انصرمت………..قام المسيح ولاحت راية الظفر
قام المخلص فالآمال باسمة…………..فكل شيء غدا في جدة العمر
وقال فيها للنسوة البشيرات
اسرعن حالاً وبشرن الجميع بأن ……….قام المسيح ومرت ساعة الكدر
واستبشروا ياتلاميذ المسيح فمن…………انجيله لاح نور الحق والفكر
بقصيدته الروحية وهي بعنوان “قام المسيح وداس بالموت الممات” يقول
ياقبر انك عاجز……………عن ضبط رب الكائنات
الموت يقوى انما …………….اقوى من الموت الحياة
في الفصح قد قام المسسسسسسسسسيح وداس بالموت الممات
في قصيدته الرائعة التي بعنوان:”انا واقف قدام بابك” يقول
انا واقف قدام بابك قارعاً…………فافتحه لي واقبل محباً مشفقاً
انا جائع عريان منهوك القوى……. اشقى لأجلك دائباً متصدقاً
فافتح لنقتسم العشاء سوية…………وتطيب نفسانا وننعم باللقا
وكان يعيش في صميم الحياة، ومن صميمها يستوحي أرق مافيها من معانٍ، وأسمى مافيها من مُثُلْ
تؤرقه غصة باكية، وزفرة كاوية…
يعيش مآسي سواه، وينقل لروحه عصارة منها…
يبتلع دموع غيره ويزدره غصته، ويطوي في الضلوع آهته…
إنه انسان…
أما الحكمة فهي إشعاع بديهي منظومة من حكم وأمثال…
مما قال علمنا
لاتقحم غيرك حتى………………….. لاتُرى مطروداً
ولا تبالغ في الجفا……………………فتغتدي مفقوداً
( ابن سيراخ 13: 13)
وجودك يالهي في فؤادي……………. يفوق خزائن الدنيا جميعا
……
إن الًسعادة في العطاء ونجدة ال………..بؤساء لا بعبادة الأموال
ومن قصائده الرائعة “ظبية الأنس” نقتطف منها
ظبيـــــة الأنس إليـــا ……………… بادري قبل الفـــوات
وانشري طيباً ذكيــــاً………………. منعشاً فيَّ الحيـــاة
أه هــــل أبقى شقياً …………………أم هل الماضي يعود
لســــــت والله نسياً ………………… أبداً تلك العهـــــــود
دائمـــاً كنت نجيـــــاً ………………. لك يــا نور العيــــون
وألاقيــــك خفيـــــــاً ………………. والــــورى لا يعلمون
ياليالي الأنس عودي………………. ثار في صدري الغرام
مـــا أنا لاه بعــــودي………………عنـك أو كأس المدام
وتعرض لموجة من الانتقاد لكونها قصيدة غزلية ولكنها انتشرت بعدما لحنها وغناها كبار مطربي ومطربات عصره السوريين.
آثاره الأدبية
للمطران ابيفانيوس مقالات كثيرة في الفنون والآداب
ترك المطران ابفانيوس زائد 23 مؤلفاً مطبوعاً منها
الديوان – قرابين الأغاني لطاغور مترجم – قيثارة الطبيعة – في الطريق إلى أورشليم – مختارات من الشعر الروسي- منهج الواعظ – نبذة في حقيقة الإنجيل وصحته – مقدمة لتفسير الإنجيل القديم للعالم اللاهوتي الروسي علادكوف – الأمالي الذهبية – مصباح الكاهن – آل داود – الخطيئة والموت – ما وراء القبر – بدعة تبرئة اليهود من دم المسيح – الروضة الروحية…
الأعمال الأخرى: – ترجم قصائد مختارة لطاغور، نشرت بعنوان” قرابين الأغاني” – 1921، وترجم مختارات من الشعر الروسي – 1971 (في جزأين)، وله مقالات جمعها في كتاب “الأمالي الذهبية” – بيروت 1972 – قالها في القديسين. ومقالات في الفنون والآداب نشرها في مجلة الكلمة في نيويورك، ومجلة النعمة في دمشق، وله عدة مؤلفات تتصل بوظيفته الكنسية. شعره شديد التنوع، يجاري التنوع المعرفي والثقافي، وانتقالات صاحبه بين البلدان، فيه الوصف، والرثاء، والمديح، وفيه سبحات الروح ونقد الأخلاق، وفيه الشعور الوطني والحسّ القومي، أما إيقاعاته فتخف حتى تصبح نشيدًا يغنّى، وتمتد حتى تكتسب رصانة تراثية وقوة في المعنى والمبنى.
وهناك العديد من المقالات الأدبية نشرها في الرابطة الأدبية.
وكان كاتب مقالة، وخطيبًا، وشاعرًا. كان تكوينه الثقافي: الأدب والفنون الجميلة والموسيقى يجعل من بيته منتدى ثقافيًا غنيًا بالإبداع والمناقشات التي يثيرها مريدوه، وقد انتخب عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق 1924
المطران ابيفانيوس مصوراً
بالعودة الى سيرته في موسكو، نتذكر أن علمنا نجح في نسخ الايقونات القديمة والجديدة، وتسلم الشهادة بذلك بعد سنة ونصف من دخوله الى دير القديس سرجيوس قرب موسكو، وصار في إمكانه أن ينقل كل أيقونة.
يومها أهدى مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع معلمه أيقونة الرب يسوع وعلى رأسه اكليل الشوك للمصور النابغة فاسنتيسوف، المشهور بمحافظته على النمط البيزنطي القديم في التعبيرعن الملامح التقية النقية، كما هو ماثل للعيان في أيقونات الكاتدرائية الرومية الشهيدة آجيا صوفيا في القسطنطينية وسواها من الكنائس والاديرة القديمة، وإعطاء هذه الايقونات التناسب في الأعضاء، والدقة في تصويرها.
كما أهدى الشماس أبيفانيوس الى المطران جرمانوس شحادة أيقونة كبيرة تمثل القديس نيقولاوس العجائبي، وهو ينقذ بعض الشهداء المسيحيين الراسغين في الأغلال، والمسلط عليهم سيف الجلاد الحاد.
وهذه الأيقونة موجودة على الجدار الجنوبي في كنيسة مارنقولا الأرثوذكسية في زحلة، تثير الرهبة والاعجاب، وكذلك أيقونة مباركة الرب يسوع للآولاد، وهي معلقة في دار المطرانية الأرثوذكسية في زحلة.
في تلك الأثناء ، أيضاً أهدى إلى الملك فيصل بن الحسين أيقونة الرب يسوع على شاطىء بحيرة طبريا العام 1920 هدية له بمناسبة مبايعته ملكاً على سورية.
وأهدى إلى الوجيه والمحسن الكبير الأمير ميشيل لطف الله من مصر صورة زياتية لدير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي من ريشته.
وكان قد صوربيده أيقونتي السيد والسيدة لكنيسة بلدة قطنا، ومثلهما لكنيسة السيدة في بلدته دير عطية، كما صور الأيقونات الست في أيقونسطاس “كنيسة مارميخائيل” التي بناها خلال مدة مطرانيته على اللاذقية حينما انشأ ماتسمى “الكنيسة المستقلة”.
له رسوم زياتية كثيرة جداً منها لوالديه، ولوالد مطران بيروت جراسيموس مسرة…
هذه الصور الفنية التي صورها بعد دخوله في مدرسة النقش والنحت والتصوير في موسكو، كانت كثيرة، وبينها لوحات رائعة للمشاهد والأمكنة الأثرية والمناظر الطبيعية في الديار السورية، رسمها ليعرضها في المتاحف الروسية بعد رجوعه الى موسكو لمتابعة الدراسة ولكن قيام الثورة الشيوعية عام 1917 حالت دون رجوعه. وبقيت عند الأنسباء والاصدقاء يحتفظون بها باعتزاز.
ان مسيرة علمنا الاكليريكية والوطنية حالت دون متابعته الرسم والتصوير ومزاولته هذا الفن الجميل، وعلمنا يمتاز في تصويره بالدقة، وجمال المخطوط، وبهاء الألوان واقتفاء الطبيعة، والتقيد بالواقعية والبعد عن الرمزية.
المطران أبيفانيوس الموسيقي
ان الفتى خليل موسى زائد، كان في مدرسة البلمند من المتفوقين في دروسه، وخاصة في الموسيقى الرومية والترتيل.
لذلك حينما وجهه مثلث الرحمات معلمه البطريرك غريغوريوس الرابع إلى موسكو ليتعلم الفنون الجميلة، أسند اليه أمر مساعدة رئيس الأمطوش الأنطاكي فيها الارشمندريت أنطونيوس مبيض، وصار يرتل فيه بصوته الشجي بالعربية واليونانية، فأسعد الروس المؤمنين جداً وطفقوا يتقربون منه ليعلمهم الالحان البيزنطية العذبة ويضمهم إلى جوقة كنيسة الأمطوش.
هو بادل الروس كل الحب وبقي يحب الروس والكنيسة الروسية الى آخر لحظات عمره.
ولما عاد من روسيا لزيارة الوطن والاهل، وتعذرت عودته، لبث في دمشق في الصرح البطريركي ومن حاشية غبطته، وأخذ يرتل في الكاتدرائية المريمية مع البروتوبسالتي متري المر والارشمندريت فيكتور ابو عسلي ( لاحقاً رئيس اساقفة بروكلن في نيويورك)، والشماس اندراوس معيقل الذي استقر لاحقاً في بيروت وتتلمذ عليه في هذا الفن الشماس اغناطيوس هزيم (البطريرك لاحقاً)، ونايف سابا، وهؤلاء أراخنة، أي، شيوخ هذا الفن الجميل ومن ذوي الأصوات النادرة، فصار الإقبال عظيماً على الطقوس الالهية في “مريمية الشام”، وفي “كنيسة القديس يوحنا الدمشقي”، المجاورة للآسية، و”كنيسة حنانيا الرسول” في الميدان.
وكان البروتوبسالتي المر معجب جداً بصوت الشماس أبيفانيوس ويفضله على غيره ويصحبه معه اينما ذهب للترتيل معه.
وكان الشماس أبيفانيوس يساعده في نظم الاناشيد الوطنية والأدبية، ويلفت نظره الى مراعاة أصول التجويد في الترتيل، ومَّدْ الصوت على الأحرف الساكنة، لا الصحيحة، حسب ماتقتضيه اللغة العربية، وقوانين الغناء والانشاد (6)، وقد نظم في تلك المدة تقاريظ الجناز على الوزن اليوناني لضبطها وسهولة إنشادها. وهي ذاتها التي ترتل حتى الآن في كنيستنا الانطاكية في ارجاء الكرسي الانطاكي بعدما عممها معلمه البروتوبسالتي متري المر، وابنه فؤاد في كنائسنا الانطاكية، وخاصة كنيسة رؤساء الملائكة في حي الظاهر في القاهرة حيث كان فؤاد يرتل، وقد سمعتها هناك اواخر القرن الماضي، وكذلك في كنائس الكرسي الاسكندري الارثوذكسي في مصر.
كما نظم أنشودة مديح لمعلمه البطريرك غريغوريوس بمناسبة عيده مطلعها
أشرقت شمس الأماني……………..وصفت كأس السرور
ونظم أنشودة للملك فيصل بمناسبة مبايعته ملكاً على سورية الكبرى، ولحنها المرتل ديمتري المر مطلعها
عاد والعود حميدُ……………….مجد سوريا القديم
وازدهى العرش الجديد………… بسنا ملك عظيم
تتجلى وطنيته الصلبة في النشيد السوري، الذي نظمه واهداه الى الملك فيصل عام 1920 بعد ان بايعه السوريون ملكاً ولحنه البروتو بسالتي متري المر وانشده يوسف العظمة مع قواته في بطاح ميسلون مع نشيد الجيش السوري والهب هذا النشيدان الحماسة في قلوب هؤلاء الابطال فاستشهدوا وهم يدافعون وينشدونهما…
وعلى إثر تجزئة سورية الى دويلات، وسلخ لواء الاسكندرون وانطاكية عن سورية من قبل الاتراك بمساعدة فرنسا والحلفاء، وفي عهد الاستعمار الفرنسي، اسستعر هذا النشيد السوري الاول بين الناس الغاضبين بتفكيك سورية واقامة لبنان وشرقي الاردن وفلسطين وتجزئة سورية الى دويلات وكان يرددها على الدوام وثمة شهادات شفهية تؤكد تصدره المظاهرات الغاضبة ضد الافرنسيين على هذه التجزئة…
ومن هذا النشيد قوله
“… ان سوريا فتاة………………حبها كل الأمل
وما لسوريا نجاة………………..إن غدت بضع دول
ليس للعضو حياة………………إن عن الجسم انفصل
بل ذبول وممات……………….واندثار في العجل…”
الى ان يقول
“…يارعاكِ اللهُ أرضاً……………قُدست آثارها
مجدها ما زال غضاً…………..وعزيزاً جارها
فانفحوها الحب محضاً…………وليعش أحرارها
لا أراها الله خفضاً……………ما شدت أطيارها”
وقصائده الوطنية من منظومات الصبا والشباب كثيرة نذكر منها
” بهجة الشرق “ومطلعها
” نفديك سوريا……………..يابهجة الشرق
ياجنة الدنيا………………. ونزهة الخلق…”
و” دمشق الشام” ومنها
بروحي الشام افديها…………..فلا أنسى ضواحيها
وجنات لقد فاحت……………أريجاً من أقاصيها
وازهاراً وأطياراً………….. تغني في روابيها…”
وفي المهجر انشد في الارجنتين بحفلة اقيمت على شرفه قصيدة منها
بني وطني بلادكم استقلت………….وأضحت تزدهي نجحاً ورشداً
مشى العمران فيها واستبانت………….معالمها وصار العيش رغداً
فزوروها لكي تتبينوها……………….وجوبوا ارضها سهلاً ونجداً
اما مواقفه الوطنية فهي اكثر من ان تعد وتحصى، لقد أسهم في الحركات التحررية العربية في أواخر عهد الاستعمار العثماني، وهو لما يزل فتياً، وفعل الشيء ذاته في عهد الانتداب الفرنسي وساند الثوار السوريين (كما كان توجه غبطة معلمه البطريرك غريغوريوس وخليفته البطريرك الكسندروس) وساعد ثوار الغوطة مساعدة فعالة بالسلاح والذخائر… ولم يقصر في التفاخر بنضالهم. وكما اسلفنا كان يقود المظاهرات ضد الوجود الفرنسي وقيامه بتجزئة سورية.
اما قضية فلسطين فقد كانت منذ النكبة 1948 شغله الشاغل واحتلت حيزا كبيراً من تفكيره وتطلعاته، فكان لايترك سانحة الا ويوجه الجماهير العربية الى الجهاد لتظل قضيتهم الكبرى، نصب عيونهم.
لم يقصر في الخطب الحماسية نصرة للوطن ولقضية فلسطين في الوطن والمغترب منذ وعد بلفور وكان من المشاركين البارزين في المظاهرات العارمة ضد زيارة بلفور الى دمشق عام 1924، فكان يلهب النفوس والايدي للتصفيق، وكذلك كانت قصائده الشعرية الرائعة تثير النخوات وتطلق النسوة فيها الزغاريد…
كقوله للمغتربين في اميركا الجنوبية
يانازحين عن الديار لما جرى…………فيها قديماً من أذى وكساد
لكم التحية والسلام تضوعاً…………..من موطن حامي الأضالع صاد
وطن أراد الأجنبي تقسيمه…………..ليسوده وعدا عليه العادي
وطن يكيد له اليهود بمكرهم…………وبما لديهم من ضروب فساد
…
…
واخيراً يقول
يا ايها العرب الكرام تضافروا……..وقفوا لإسرائيل بالمرصاد
وعندما ضم اليهود القدس ثم احرقوا المسجد الأقصى 1967 و1968 قال
في الأمس ضموا القدس فابتسمت……….. لهم آمالهم وتهللوا واستبشروا
ياليت يدرك شرهم وغرورهم……………. من دافعوا عنهم ولم يتبصروا
أوسمته
حصل على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، ووسام الاستحقاق اللبناني من درجة كوماندور، ووسام الصليب من دولة اليونان بدرجة كوماندور، ووسام القديس فلاديمير من روسيه، ووسام اكاديمية موسكو الروحية المذهب لدى احرازه درجة الماجستير في اللاهوت سنة 1958 من روسيا بحضور البطريرك الانطاكي الكسندروس والروسي الكسي ومطارنة حمص وحوران واللاذقية وكانوا حينذاك في موسكو للاشتراك باسم الكرسي الانطاكي المقدس في الاحتفال بمرور اربعين سنة على تجديد البطريركية في روسية.
تلاميذه
وكان من تلاميذه إليان الشويري، كوستي زريق – فؤاد شباط – أنيس شباط – فوزي خباز – جورج خوري- ميشيل عفلق – إيليا سلوم. ومعظمهم من محلة الميدان وهم طليعة مثقفة دمشقية ارثوذكسية تتلمذوا على يديه.
أسس “جمعية الرابطة الأدبية” بالاشتراك مع نخبة من كبار أدباء سورية ولبنان أمثال: خليل مردم بك، عبدالله النجار شفيق المعلوف، حليم دموس، أحمد الكرمي، شفيق جبري، لبيب الرياشي، ماري عجمي، نجيب الريس، محمد الشريقي، عبد الرحمن الشهبندر، مصطفى الشهابي، فخري البارودي… وغيرهم
في عام 1924 انتخبه المجمع العلمي العربي عضواً في لجنة الفن والترجمة.
خاتمة
مواهب قلما تجتمع بهذه الكثرة والصقل والنقاء كما اجتمعت في المطران ابيفانيوس زائد، وكما قلت في مقدمتي انني لم اتوسع /كما يقتضي الواجب/ في ترجمتي لهذا العلم الخالد، فالتدوينة هنا معجمية اكثر منها موسوعية، والمجال مفتوح لهذه الموسوعية من خلال الباحثين والذين يعدون اطروحات الدراسات العليا…
وفي هذا دعوة لهم للعمل بذلك…
حواشي البحث
(1) افتتح البطريرك ملاتيوس مدرسة البلمند الاكليريكية منذ السنة الثانية لبطريركيته عام 1900 واسند الادارة الى الاديب غطاس بطرس قندلفت واحضر لها اساتذة لاهوتيين من اليونان وروسيا وضم اليها عدداً من التلاميذ النجباء
(2) الوثائق البطريركية / دير القديس جاورجيوس الحميراء
(3)الاب المؤرخ ايوب نجم سميا كاهن محلة القصاع من 1930 الى 1968 انظره في موقعنا هنا (اعلام ارثوذكسيون)
(4) شهادة شفهية من المرحوم ميخائيل حصني والد المرحوم الاسقف ديمتري حصني وهو من حمص وكان وعائلته يقيمون في حمص قبل انتقالهم الى دمشق كالكثير من العائلات الحمصية الارثوذكسية.
(5) شهادات شفهية وردت في برنامج في التلفزيون السوري عن الموسيقى في ثمانينات القرن 20 اعداد د. سعد الله آغا القلعة، ومعه الفنان صباح فخري والمنيني وسواهم…اضافة الى شهادات شفهية لكثيرين من المصلين منهم جدي فارس وابي جورج والسيد ديمتري هواويني… رحمهم الله…
(6) ديوان ابيفانيوس زائد
مراجع البحث
-المطران ابيفانيوس زائد بقلم اديب ملحم البستاني طبع في بيروت عام 1972
-
– كتاب رجال من القلمون ل تيسير محمد دياب
– القلمون جيوغرافيك
-
– شهادات شهية
-
– الموسوعة
-
– ديوان ابيفانيوس زائد تحرير اديب ملحم البستاني
-
– تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى
-
– بدعة تبرئة اليهود من دم المسيح