جمهورية أرتساخ الارمنية (ناغورني كاراباخ)
استعر الصراع الدامي، منذ العقد الاخير من القرن 20 بين أرمينيا وأذربيجان الأقوى، والمدعومة من تركيا حول اقليم ناغورني كاراباخ او جمهورية ارتساخ المعلنة من جانب واحد المدعومة من شقيقتها أرمينيا بحرب اقل مايمكن وصفها بأنه حرب وجودية للأرمن واثبات حقهم في أرضهم المنتزعة دوماً منهم.
التسمية
جمهورية أرتساخ، أو ناغورني كاراباخ، وناغورني كلمة روسية تعني الجبال. أما كارا باخ أو قره باغ فتعني الحديقة السوداء او حديقة الجبال السوداء.
أما أرتساخ فتتألف من “آر” نسبة الى آرا إله الشمس عند الأرمن القدماء، و”ساخ” هي الغابة أو الكرمة، إذا هي “كرمة الإله آرا”.
الموقع
تقع هذه الجمهورية في مرتفعات كاراباخ أو “قره باغ” جنوب القوقاز، وتبعد نحو 170 كم عن عاصمة أذربيجان “باكو”، وهي قريبة جداً من الحدود الأرمنية.
مرتفعات ناغورني كاراباخ منعزلة تحدها شمالاً وشرقاً أذربيجان، وغرباً أرمينيا وجنوباً ايران.
وهي جمهورية أُعلنت من قبل قيادة الاقليم وبرلمانه وجمهورية أرمينيا 1994، وهي جمهورية غير معترف عليها دولياً الا من جمهورية أرمينيا وعملياً هي تابعة ذاتياً لأرمينيا بشكل او بآخر. وهي بالأساس كانت تابعة لأرمينيا الشرقية، ولكن ستالين اقتطعها منها، وألحقها بأذربيجان لتطبيق الحالة الاممية على الشعوب السوفيتية وسلخ الصبغة القومية الأرمنية عنها.
السكان
معظم السكان، ارمن ينتمون الى الكنيسة الارمنية الارثوذكسية، اضافة الى وجود بعض الطوائف المسيحية الاخرى الاثوذكسية الشرقية والبروتستانتية، مع اقلية من المسلمين الشيعة واليهود.
ولما كانت أكثرية السكان مسيحية أرمنية، الأمر الذي جعل المنطقة معرضة للصراع بين أذربيجان وأرمينيا، خاصة بعد اعلان الأرمن استقلال اقليمهم عن اذربيجان العام 1994 ودعمتهم في ذلك شقيقتهم جمهورية ارمينيا.
وفيما بين 1988 و1994 شنت اذربيجان حرباً طاحنة مدمرة على الاقليم، ولكن الارمن انتصروا على الاذريين، وتم اعلان اقليم ناغورني كاراباخ جمهورية ارتساخ الارمنية. وسكنت الجبهة، واستقر الاقليم لصالح الأرمن، بالرغم من وقوع حالات خرق إطلاق النار طيلة ثلاثة عقود تقريباً قدم فيها الطرفان الارمني والاذري الكثير من الضحايا وخاصة بين المدنيين الأرمن.
مؤخرا دارت رحى حرب طاحنة غير متكافئة بالرجال والسلاح، بدأتها اذربيجان المتفوقة عسكريا صباح يوم 27 ايلول 2020 باشتباكات على طول خط التماس في مرتفعات كاراباخ بدعم هائل من تركيا التي تدخلت في الحرب بقواتها ومدفعيتها الثقيلة وصواريخها البعيدة المدى والصواريخ وطائرات الدرون، وكان هذا التدخل الكامل بهدف مد نفوذ تركيا في محاولة منها لاعلان الجامعة الطورانية التي رسمت امتدادها من غرب الصين الى هضبة الاناضول وقبرص، ولاضعاف دور روسيا المحوري في حديقتها الخلفية ودعمها للأرمن. بينما الجيش الارمني الداعم لقوات الدفاع الذاتي في ارتساخ والتحاق الكثير من من أرمن الشتات وخاصة من سورية ولبنان كمتطوعين، وكانت المعنويات الارمنية هي السلاح الأمضى لتحقيق النصر على تركيا وربيبتها اذربيجان، لكن القوة العسكرية التركية- الأذرية المستخدمة بشكل همجي في عاصمة الاقليم وبقية المناطق المدنية، اوقعت خسائر هائلة بين صفوف الارمن اضافة الى وعورة المنطقة والحرب الصعبة بها، امام التفوق العددي والنوعي والاستراتيجي التركي الأذري.
وبعد ستة اسابيع من القتال الضاري تم توقيع اتفاق وقف اطلاق النار بين ارمينيا واذربيجان بوساطة روسية حيث وصف رئيس ارمينيا نيقول باشينيان الاتفاق ب”المؤلم جداً”…
مع نشر قوات حفظ سلام روسية بين الفريقين…
وكانت النتيجة خسارة أرتساخ وسط سخط عارم في ارمينيا وظاهرات دامية، وتهجير الارمن من ارتساخ ولجوئهم الى ارمينيا وقد خسروا كل شيء بعد ثلاثة عقود من اعادة بناء اقليمهم التاريخي واستقرار من صناعة وزراعة واعادة بناء الكنائس والاديرة والمؤسسات.
أرتساخ المسيحية
أرتساخ منطقة غنية بتراثها المسيحي فهي بفضل موقعها القريب من أرمينيا اعتنقت المسيحية باكراً، وكما نعلم فأرمينيا هي أول دولة اقتبلت المسيحية كدين رسمي عام 301مسيحية.
أبرشية ارتساخ
هي إحدى أكبر أبرشيات الكنيسة الارثوذكسية الارمنية، أنشئت العام 1989 وتمتد سلطتها على جمهورية ارتساخ، ومقر الابرشية في مدينة شوشا.
وهي تحفل بارث عظيم مكون من نحو 4000 صرح تاريخي بينها اعداد كبيرة من الكنائس والاديار التاريخية العظيمة التي توثق للمسيحية الارمنية.
من كنائس الأبرشية
كنيسة فانكار من القرن 7، كنيسة القيامة 1621م، كنيسة القديس يوحنا المعمدان 1818، كنيسة القديس يوحنا المعمدان 1881، كنيسة المخلص 1888، كنيسة الصعود 1998، كنيسة الشهداء القديسين 2002، كنيسة والدة الاله 2002، كنيسة القديس انطونيوس 2009، كنيسة القديس جاورجيوس 2011، كنيسة والدة الاله2012، كنيسة القديس جاورجيوس 2012.
من أديارها
دير أماراس
يقع هذا الدير قرب بلدة سوس، وكان مركزاً دينياً وثقافياً بارزاً خلال القرون الوسطى، وبحسب مؤرخي تلك الحقبة فوستوس بيوزند وموسى كاغانكافاتس فإن القديس غريغوريوس المنور(1)هو الذي بنى هذا الدير مطلع القرن 4. وأماراس هو المكان الذي دُفن فيه حفيد القديس غريغوريوس المنور اي القديس غريغوريوس338 م
في مطلع القرن الخامس ميسروب ماشتوتس، مخترع الأبجدية الأرمنية، أسس أول مدرسة استَخدََمتْ هذه الأبجدية.
في القرن 13 قصف تيمورلنك المغولي الدير ونهبه العام 1387.
دُمِّرَ الديرُ ثانية في القرن 16، إلا أنه خضع لإعادة بناء في الربع الثاني من القرن 17 وشيدت آنذاك الأسوار الدفاعية له.
هُجِرَ الدير لاحقاً، وفي النصف الأول من القرن 19 شّكَّلَ حصناً حدودياً للقوات الأمبراطورية الروسية.
استعادت الكنيسة الارمنية الدير العام 1848، وتبين أن الكنيسة اصيبت بأضرار جسيمة خلال اجتياح الروس لمنطقة القفقاس، ما استدعى بناء كنيسة جديدة على أنقاض الكنيسة المتداعية، وكرست على اسم القديس غريغوريوس العام 1858، ودفع تكاليفها أرمن مدينة شوشا.
دير غاندزاسار
يعود تاريخه الى القرن 13، وهو يقع على جبل ارتفاعه 1270م جنوب غرب فانك، من هنا تسميته جبل الكنز. كنيسته من اهم الكنائس في المنطقة واإحدى أجمل أنماط الهندسة الكنسية الأرمنية.
شيدها بين 1216 و1238 (حَسَنْ جلالُ الدولةْ) الأمير الأرمني على مقاطعة خشن(2)، وكرِّست في 22تموز 1240 في عيد تجلي الرب بحضور 700 كاهن.!
اشتهرت بزخرفتها الغنية التي استُعملتْ فيها الفضة والمعادن الاخرى.
أصبحَ الديرُ كرسياً للكنيسة الأرمنية في نهاية القرن 14. وفي القرن 16 غدا تابعاً لكاثوليكوسية إتشميازين.
منذ نشأة الدير كان مركزاً للتعليم ونسخ المخطوطات وبحسب مصادر معاصرة في العام 1700 كانت سلطة بطريرك غانزاسار تمتد على 900 بلدة تقطنها مئات العائلات المؤلفة من التجار والفلاحين.
في القرنين 17 و18 غدا الدير مركزاً للتحرير الذي دعا اليه ملوك أرتساخ(3) الذين التفّوا حول الكاثوليكوس (يساي حسن جلاليان)، الذي كان موالياً للسلطات الروسية على المنطقة بعد معاهدة غوليستان. وفي العام 1836 ماعاد الدير مركزاً للكاثوليكوسية، وانتقل الكرسي الى شوشا، فهُجِرَ الدير، وتداعت الأبنية في اواخر القرن 19…
في العام 1930 أغلقت السلطات السوفياتية الأديرة والكنائس في قمعها للكنيسة والدين في الاتحاد السوفيتي زمن ستالين. ولكن في العام 1989 أعيد إنشاء أبرشية ارتساخ وعيّن رئيساً لها الارشمندريت بارغيف مارتيروسيان. وبفضل جهوده أعيد افتتاح الدير بعد ستة أشهر من الترميم، فكانت كنيسته هي الاولى التي افتتحت بعد سنوات من القمع.
بين 1988 و1994 خلال الحرب التي شنتها أذربيجان دُمِّرَ جزء كبير من الدير بهدف القضاء على التراث الارمني في كاراباخ. ولكن بعد الحرب أعيد الترميم مرة اخرى بفضل المحسن ليفون هيرابيتيان احد ابناء منطقة فانك. واستمرت الاعمال من سنة 2000 الى سنة 2002. وتتضمن أبنية الدير الكنيسة والقلالي ومقر الاسقف وغرفة الطعام والمدرسة ومدافن الاساقفة والكهنة والرهبان والنبلاء.
يعتبر الدير مثالا للهندسة الكنسية الارمنية التي اشتهرت بين القرنين 10 و13.
دير تزيتزرنافانك
كنيسة أرمنية من القرنين 5 و6، كانت سابقاً ديراً في مقاطعة كاشاتاغ يقع على بعد 5كم عن حدود مقاطعة سيونيك الأرمنية.
يروي التقليد ان رفات القديس جاورجيوس حُفِظَت فيها. سابقاً كان الدير ينتمي إلى أبرشية تاتيف، وذُكرَ على انه مركز ثقافي وديني مميز في القرن 13 بحسب المؤرخ ستيفانوس أوربليان والاسقف توفما فاندكستي العام 1655.
في العام 1613 رُممَ سورُ الدير وبنيت بوابة مقنطرة. اما الكتابة التي تسجل هذه المعلومة فاختفت بين 1989 و1992 خلال الحرب مع اذربيجان.وكانت الكنيسة مع الجرسية قد رممت العام 1779
واختفت ايضا الكتابة التي تسجل هذا الترميم في العام1967، وكانت الكنيسة قد بنيت على ثلاث مراحل.
في المرحلة الاولى كانت اولاً بازيليك مستطيلة من دون حنية، وشيدت بين القرنين 5 و6، ويرجح انها كانت هيكلاً وثنياً.
في المرحة الثانية أضيفت الحنية من دون نافذة وكان ذلك على الأرجح في القرن 6.
في المرحلة الثالثة استبدلت بأعمدة حجرية تلك الأعمدة الخشبية وذلك بين اواخر القرن 6 ومطلع القرن 10.
دير داديفانك
دير في كالباجار بُني بين القرنين 9 و13، شيده القديس، دادي تلميذ الرسول تداوس الذي بشر بالمسيحية في أرمينيا الشرقية خلال القرن الأول. ورد ذكر هذا الدير اول مرة في القرن 9.
في العام 1994 بعد انتهاء حرب كاراباخ الأولى أعيد افتتاح الدير. وفي العام 2004 بدأ ترميم الأبنية بفضل المحسنة أديل هوفيننيان، وانتهت الأعمال العام 2005. أما الكنيسة الصغيرة فرممها إديك أبراهيميان الأرمني من طهران.
في آب 2017 حضر اختصاصيون من ايطاليا لاستكمال ماقاموا به سابقاً من ترميم الدير والجداريات، على على ان تنتهي الأعمال في العام 2020. لكن بسبب الحرب في هذه السنة والتي انتهت بوقف لاطلاق النار وانسحاب الارمن من داديفانك وتسليم المنطقة الى أذربيجان، قرر رئيس داديفانك نقل مقتنيات الدير الثمينة الى ارمينيا ومنها الاجراس والخاتشكارات(4)
الشعب الأرمني، أول أمة اعتنقت المسيحية، وقد واجه هذا الشعب قروناً من الاضطهاد وخطرَ الإبادة على يد الأعداء المجاورين. ولكن بإيمان ثابت بيسوع المسيح كانت قيامة هذ الشعب مرّة بعد مرّة. لكن للأسف، على مدى الزمن، خسر هذا الشعب الأبي عدداً لايحصى من الأماكن المقدسة، من كنائس وأديرة ومدافن وأوانٍ كنسية ومخطوطات ومحفوظات تشهد على عراقته، ومعها اختفى جزء كبير من التراث المسيحي العالمي.
واليوم إحدى آخر المناطق المهمة في تراث الأمة الأرمنية يتعرض للدمار. إنها أرتساخ التي عاش فيها الشعب الأرمني آلاف السنين، وهي تتلقى الضربة تلو الضربة، ويستشهد السكان الأبرياء من جرّاء القصف الاذربيجاني – التركي الهمجي، ويهاجر آخرون تاركين خلفهم إرثاً عظيماً مكوناً من نحو 4000 صرح تاريخي.
لذا من الواجب اطلاق نداء الى كل المحافل الدولية والمنظمات التي تُعنى بالثراث الثقافي الانساني لبذل اقصى الجهود في سبيل حماية هذا التراث العريق، لقد فعل معلموهم الاتراك الطورانيين وعملاؤهم كل ما امكنهم لتجريف الاديرة الأثرية في شمال سورية كما فعلوا في لواء الاسكندرون السليب وجرفوا كل التلال الأثرية وسرقوا كل الآثار واللقى وبالأخص المسيحية وسرقوها وباعوها.
ان القسم الذي بات تحتله اذربيجان من أرتساخ، بات يُخشى عليه من تدمير كنائسه وأدياره وأوابده أو تحويلها الى أماكن عامة كما فعلوا في كل مكان احتلوه في آسيا الصغرى الرومية وشمال قبرص اليونانية.
خاتمة
الكنيسة الرسولية الارمنية بحق هي كنيسة الشهداء بامتياز، وكأنه لم تكفها مجازر العام 1915 والحروب المتتالية مع اذربيجان والمغول والتتار والاتراك السلاجقة والعثمانيين.
افرحي وتهللي فأجرك عظيم في السماوات، فدماء الابرياء التي أُهرقت على مدى العصور ستشفع لك يوم القيامة.
حواشي البحث
1- القديس غريغوريوس المنور ولد نحو العام 257 وتوفي نحو العام 331 وهو قديس شفيع وأول رئيس رسمي للكنيسة الرسولية الارمنية. كان زعيماً دينياً يرجع اليه الفضل في تحويل ارمينيا من الوثنية الى المسيحية العام 301. وهكذا اصبحت أرمينيا الدولة الاولى التي اعتمدت المسيحية كدين رسمي لها.
يعتبر القديس غريغوريوس قديساً شفيعاً لأرمينيا، وهو قديس عند كنيستي الارمن الارثوذكس والكاثوليك ومعظم الكنائس المسيحية الارثوذكسية والارثوذكسية الشرقية والرومانية الكاثوليكية والانكليكانية وقد دخل في سنكسار كل كنيسة منها ويعيد له في يوم محدد من السنة.
2- بيت حسن جلاليان سلالة ارمنية حكمت منطقة خشن من العام 1214
3- كانت ارتساخ تتألف من خمس ممالك يرأسها حكام يطلق عليهم لقب ملك وكانوا من طبقة النبلاء.
4- حجر الخاتشكار والمعروف باسم حجر الصليب الأرمني هي منحوتة، وشاهدة تذكارية تصوّر شكل الصليب المسيحي، وكثير من الاحيان مع اضافة الزخارف مثل الزخارف النباتية وغيرها. يعتبر فن حجر خاتشكار من سمات الفن الارمني المسيحي القرطوسي.
مصادرالبحث
“أرتساخ تاريخ وتراث” تحقيق صيبعة، لولو مجلة النور لسان حال حركة الشبيبة الارثوذكسية ( العدد 5 السنة 76 / 2021)بيروت لبنان
زيتون، د. جوزيف ” تاريخ الارمن” و” افتخر بك ياجدي الارمني” موقعنا هنا
خريسوستوس، بابادوبولس ” تاريخ الكنيسة المسيحية” تعريب الاسقف استفانوس حداد، منشورات النور