تاريخ الأسطورة و الأديان/ قصّة المِعراج في الزردشتية
قصّة المِعراج في الزردشتية وتأثير الديانات الزردشتية والمانوية والمزدكية الفارسية على الديانات الإبراهيمية…
كتب د. سام مايكلز Dr. Sam Michaels
مِعراج زرادشت وأرتاويراف على ظهور بغال طائرة إلى السماء:
دونت كتب الزراداشتية حوالي القرن التاسع قبل الميلاد أي منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة، وأول من آمن بزراداشت بعد “نزول الوحي” عليه كانت زوجته هافويه وإبن عمه ميتوماه (أصبحا خديجة بنت خويلد وابن عمها القس ورقة بن نوفل في الرواية الفارسية الإسلامية و قد خلّدت النّقوش الحجرية و كتب الزرادشتيون قصة مِعراج زرادشت منذ ذلك الزمن البعيد، وقالت لنا أن (النبي) زرادشت صعد إلى السماء بواسطة طائر كبير يشبه إلى حد ما الثور الآشوري المُجَنّح حيث كان لزرادِشت موعد مع الإله (أهورا مزدا) أي (إله النُّور والحِكمة المُضيئة) لكي يعلمه الحكمة و يمده بالشرائع.
رافق زرادِشت من السماء الأولى إلى السماء السابعة ملاك عظيم (يصبح جبريل في الاسراء والمعراج). وقد استأذن زرادشت إله النور بمشاهدة جهنم، وأذِنَ الإله له بذلك، فرأى فيها المدعو (أهرِمَن أو أهريمان) أي (إبليس)! .. ثم مر الزمان لعدة أجيال على مِعراج زرادشت أخذت خلالها ديانة زرادشت في بلاد الفرس بالإنحطاط والتّقهقر، ورغب المجوس (أتباع هذه الديانة) بإحيائها في قلوب الناس، فانتخبوا شاباً من أتباع الزردشتية كان إسمه أرتاويراف وأرسلوا روحه إلى السماء. وقع على جسد أرتاويراف سُبات، وكان الهدف من سفره إلى السماء أن يطَّلع على كل شيء فيها، وأن يأتيهم بنبأٍ منها. عرج هذا الشاب إلى السماء بقيادة و إرشاد رئيس من رؤساء الملائكة يدعى سروش، فجال من طبقة إلى أخرى من طبقات السماء. وترقّى بالتدريج إلى أعلى فأعلى، و لمّا اطّلع على كل شيء أمره (أهورا مزدا) الإله الصالح ( وهو سند وعضد مذهب زرادشت) أن يرجع إلى الأرض، ويُخبِر أتباع الديانة الزرادشتية بما شاهده. و قد دُوِّنت هذه الأشياء بحذافيرها و كل ما جرى له أثناء مِعراجه هو الآخر بعد زرادشت، وقبل مِعراج محمد نبي الإسلام.
في كتاب “أرتاويراف نامِك” قال فيه: “قدمت القدم الأولى حتى ارتقيت إلى طبقة النّجوم في حومت، ورأيت أرواح أولئك المقدسين الذين ينبعث منهم النّور، كما من كوكب ساطع. ويوجد عرش ومقعد بهي باهر رفيع زاهي جداً، ثم استفهمت من سروش المقدس، ومن الملاك آذر ما هذا المكان؟ ومن هم هؤلاء الأشخاص؟ وما قصدهم من قولهم طبقة الكواكب فهي الحياض الأول أو الأدنى من فردوس الزرادشتية، وأن آذر إسمه يُطلق اليوم على دولة آذر بيجان) هو الملاك الذي له الرئاسة على النار، و”سروش” هو ملاك الطاعة وهو أحد المقدسين المؤبَدين، أي الملائكة المقرَّبين لديانة زرادشت، وهو الذي أرشد أرتاويراف في جميع أنحاء السماء و أطرافها المتنوعة إلى طبقة القمر، وهي الطبقة الثانية، التي تليها طبقة الشمس، وهي الطبقة الثالثة في السماوات”.
وهكذا أرشده إلى باقي السماوات. بعد هذا يرد في الفصل ال(11) من الكتاب: “وأخيراً قام رئيس الملائكة بهمن من عرشه المُرصّع بالذهب، فأخذني من يدي و أتى بي إلى حومت وحوخت وهورست بين أورمزد (أي أهورا مزدا) ورؤساء الملائكة وباقي المقدسين، وجوهر زردشت السامي العقل والإدراك، وسائرالأمناء و أئمة الدين. و لم أرَى أبهى منهم رِواء ولا أبصر منهم هيئة”.
و قال بهمن: “هذا أورمزد. ثم أني أردت أن أسلِّم عليه، فقال لي: السلام عليك يا أرتاويراف. مرحباً إنك أتيت من ذلك العالم الفاني إلى هذا المكان الباهي الزاهر”. ثم أمر سروش المقدس والملاك آذر قائلاً: “إحملا أرتاويراف وأرياه العرش وثواب الصالحين وعقاب الظالمين أيضاً. و أخيراً أمسكني سروش المقدس والملاك آذر من يدي وحملاني من مكان إلى آخر، فرأيت رؤساء الملائكة أولئك، ورأيت باقي الملائكة”.
ثم ذكر أن أرتاويراف شاهد الجنة و جهنم … ثم يرد في الفصل (101): “أخيراً أخذني سروش المقدس و الملاك آذر من يدي وأخرجاني من ذلك المحل المُظلِم المُخيف المُرجِف، وحملاني إلى محل البهاء ذلك، وإلى جمعية (أورمزد) ورؤساء الملائكة، فرغبت في تقديم السلام أمام أورمزد، فأظهر لي التّلطف قائلاً: يا أرتاويراف المقدس العبد الأمين، يا رسول عبدة أورمزد، إذهب إلى العالم المادي، وتكلّم بالحق للخلائق بحسب ما رأيت وعرفت، لأني أنا الذي هو أورمزد موجود هنا. من يتكلّم بالإستقامة و الحق أنا أسمعه وأعرفه، فكلّم أنت الحُكماء”. و لما قال أورمزد هكذا وقفت مبهوتاً لأني رأيت نوراً و لم أرَى جسماً، وسمعت صوتاً و عرفت أن هذا هو أورمزد (و هذا يُذكرنا بتكلم الرّب في الشجرة النورانية مع النبي موسى في القصة التوراتية – الإسلامية)
قصّة الإسراء و المعراج في الرواية الإسلامية
ورد النبأ عن إسراء شعب بني إسرائيل (أي السير أو الهجرة ليلاً) مع النبي موسى/ الملك الفارسي قمبيز قورش ذو القرنين في وصف ليلة الإسراء في القرآن في (سورة الإسراء 17: 1): {* سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير *}. أما قصة المِعراج فكما هو واضح فإن مصدرها هنا هو كتاب الأساطير الفارسية الآنِف الذكر: (أرتاويراف نامِك) المكتوب باللغة البهلوية (أي اللغة الفارسية الوسطى) خلال أيام حكم ملك الفرس (أردشير بابكان). و هناك قصة إسراء ومِعراج عند الهنود أيضاً واردة في كتاب يُدعى (إندره لوكاكمتم) ويعني عنوانه (السياحة إلى عالم إندره أو إندرا) قال فيه الهنود إن إندرا (الوارد في إسم الملك الهندة-إغريقي أشوكا الكبير/ أشوكا إندرا/ أسوكا اندرا/ أسوكاندرا/ الإسكندر الكبير) هو إله الجو، و ذُكروا فيه أن شخصاً إسمه أرجنة وصل إلى السماء، و شاهد قصر إندرا السماوي، وهو قصر في بستان، و فيه ينابيع أبدية تروي النباتات الخضراء النّضرة الزّاهية، وفي وسط ذلك البستان السماوي توجد شجرة تسمى (بكشجتي) أي شجرة الحياة. و يعتقد الزردشتية هم أيضاً بوجود شجرة تُسمى (حوابة) و معناها (مروية بماء رائِق فائِق)، تأتي المياه من الأنهار إلى الشجرة فتنبت هناك كل النباتات على اختلاف أنواعها…
اسئلة محقة
كل هذه الروايات و القصص متشابهة عند الفُرس و الهنود و المُسلمين فأي الثقافات كانت منهم الأسبق؟ وأيها أثّر في الآخر؟!
نحن نعتقد( الكلام للدكتور سام مايكلز) أن الثقافة الفارسية كانت هي الأسبق، وقد أثّرت في كلا الثقافتين الهندية والإسلامية، فنحن نجد قصتي الإسراء والمِعراج هذه في هاتين الثقافتين، وهي ليست الشيء الوحيد الذي تأثر به رواة القرآن، من الثقافة الفارسية، والديانة الزرادشتية. فهناك أمور أخرى تفرض نفسها على ساحة الفكر والملاحظة، كموضوع الحور العين، والغُلمان المخلّدون، وكلنا ملمّ بهذه الأمور، و نعرف ما ورد عنها في القرآن، و في كتب السيرة والأحاديث النبوية، ومصدر كل هذه القصص والتعاليم هو كتب الزرادشتية، إذ لا نجد أي أثر لها مطلقاً في كتب التوراة اليهودية، أوالأناجيل المسيحية، لكنها ذُكرت في كتب الزرادشتية والهندوسية. ومن الغريب أن ما ورد فيها يشابه مُشابهة غريبة ما ورد في القرآن وكتب الأحاديث! فقد جاء مثلاً عن الحور في (سورة الرحمن 55: 72): {* حورٌ مقصوراتٍ في الخيام *} و في (سورة الواقعة 56: 23): {* و حورُ عينٍ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنون *} و هذه مأخوذة مما قاله الزرادشتيون القدماء عن بعض أرواح غادات (ج غادة) أو غانيات (ج غانبة) سماويات جميلات يسمين في اللغة البهلوية أو الفهلوية (هور)، (و كلمة hore / whore باللغة الإنجليزية تعني غانية / زانية أو عاهرة)! و لم يقتصر ذكر هواتي “الغواني أو الغانيات السماويات” في كتب قدماء الفُرس فقط، بل ورد ذكرهن أيضاً في كتب قُدماء الهنود، و قالوا إن الذين يعاشرونهم في السماء هم الذين يظهرون البسالة في الحروب و يُقتَلون فيها (أي الشُّهداء)!!
من المُعتقدات الزرادشتية الأخرى التي تأثّر بها كاتب القرآن إضافةً لموضوع الحور، هي مواضيع (الجِّن) و (الميزان) أي ميزان الحسنات و السيئات:
1. كلمة (الجن) مشتقة من لغة الفرس القديمة، لأنها وردت في كتاب الأفِستا (الأبستاق)، وهو كتاب الزرادشتية المقدس، ودستور ديانتهم، وقد وردت بهذه الصورة أو الصيغة: (جيني) و معناها (الرّوح الشّريرة)، فأخذ المُسلمون هذا الإسم من الزرادشتية، وهذا المُعتقد أيضاً لم يرد في التوراة العبرية، و لا في أي من الأناجيل المسيحية المنسوخة بالسريانية.
2. الذرات الكائنات ورد في الأحاديث النبوية أنه لما عرج محمد إلى السماء، رأى أنه إذا نظر آدم إلى (الأسودة) التي عن يمينه ضحك، و إذا نظر إلى التي عن يساره ناح و بكى.
و”الأسودة” هم أرواح أشخاص لم يولدوا بعد، و يسميهم المُسلمون (الذرات الكائنات)، وقد أخذوا الإعتقاد بوجودها من قُدماء الزرادشتية الذين كانوا يعتقدون بها.
3. قصة خروج (عزازيل) أي إبليس من جهنم: أخذ المُسلمون قصة خروج عزازيل من جهنم من الزرادشتية، ورد في [قصص الأنبياء ص 9]: خلق الله عزازيل، فعبد عزازيل الله تعالى ألف سنة في سجن، ثم طلع إلى الأرض فكان يعبد الله تعالى في كل طبقة ألف سنة، إلى أن طلع على الأرض الدنيا. و ورد في كتاب [عرائس المجالس ص 43]: أن إبليس (أي عزازيل) أقام ثلاثة آلاف سنة عند باب الجنة بالأمل أن يضر آدم و حواء لامتلاء قلبه بالحسد! و أيضاً ورد في كتاب [بوندهشينه فصل 1 و 2] أن (أهرِمَن / أهريمان) أي (إبليس)، كان و لا يزال في الظلام غير عالِم بالأشياء إلا بعد وقوعها، و حريصاً على إيصال الضّرر للآخرين وكان في القعر أي في (المنطقة المُظلمة) و لم يكن يعرف بوجود أورمزد، و أخيراً طلع من تلك الهاوية واتى إلى المحل الباهي، و لما شاهد نور أورمزد ذلك اشتغل بالأضرار! و توجد مشابهة بين هاتين الروايتين، وهي أن كلاً من عزازيل وأهرِمَن دخلا الوجود في سجن أو في الهاوية، ثم صعد كل منهما من هناك، وبذلا جهدهما في الإضرار بخلق الله!
هناك مُعتقدات زرادشتية أخرى تأثر بها رواة القرآن نذكر منها
4. نور محمد ورد في كتاب [قصص الأنبياء، ص 2 و 282] أن محمد قال: “أول ما خلق الله نوري”، و جاء في كتاب [روضة الأحباب] أن محمد قال: “لما خُلق آدم وضع الله على جبهته ذلك النور، وقال: يا آدم، إن هذا النور وضعتُه على جبهتك هو نور إبنك الأفضل الأشرف، وهو نور رئيس الأنبياء الذي يُبعَث. ثم انتقل ذلك النور من آدم إلى ذريته، حتى وصل إلى عبد الله بن عبد المطلب، و منه إلى آمنة لما حبلت بمحمد” لكننا نجد مصدر هذه القصة في كتب الزرادشتية، حيث ورد في كتاب فارسي يُدعى [مينوخرد] أن الخالق خلق هذه الدنيا وجميع خلائقه، ورؤساء الملائكة، و العقل السماوي من نوره الخصوصي.
وتذكر الأسطورة الفارسية النور الذي كان في أول رجل خُلِقَ على الأرض، ويقصدون بهذا آدم أبو البشر، ثم انتقل من واحد إلى آخر بالتتابع، وهذا يوافق ما ذُكِرَ في كتب الأحاديث بخصوص نور محمد
5. الصّراط المُستقيم: يعتقد المُسلمون إن محمد قال: إنه بعد دينونة يوم الدين الأخيرة يُؤمر جميع الناس بالمرور على الصّراط المُستقيم، وهو جسر ممدود على متن جهنم بين الأرض والجنة. وقالوا إن الصراط هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف، فيقع منه الكفار ويهلكون في النار.
أولاً: إشتقاق كلمة (صِراط) أصلها ليس من اللغة العربية، لأن كلمة (صِراط) مُعَرَّبة من أصل فارسي، و تعني (الجِّسر الممدود) أو (القنطرة) التي قال الزرادشتية إنها توصِّل الأرض بالجنة، وهذه العبارة مأخوذة من كتاب بهلوي يسمى [دينكرت جزء 2 فصل 81 في قسمي 5 و 6] ونصه: إني أهرب من الخطايا الكثيرة، أحافظ على نقاوة و طهارة سلوكي و إني أؤدي عبادتك لكي لا أعاقب بعقاب جهنم الصّارم، بل أعبر على الصّراط، و أصل إلى ذلك المسكن المبارك المملوء من العطريات و المسر و الباهر دائماً.
فكيف وصلت إذاً هذه المُعتقدات الزرادشتية إلى بلاد العراق والشام و منها إلى الجزيرة السوراقية / شمال شبه الجزيرة العربية وإلى (النبي المحمد) نفسه وأتباعه من “المحمديين الأوائل”؟! و على افتراض أن محمد كان (أمياً) فكيف تثقف بكل ذلك وهي كانت جميعها باللغة الفارسية؟! ..
الإجابة على هذه الأسئلة هي:
قبل تكون الدين الإسلامي من خلال وصول الدين الفارسي للعراق وبلاد الشام، و اطّلاع “المحمديين الأوائل” عليه وتأثرهم به. و بعد تكوين ونشوء الإسلام من خلال التأثيرات الفارسية في نشوء التشيع والتصوف، والدعوة للإشتراكية عند أبي ذر الغفاري وبعض آراء المعتزلة وغير ذلك أيضاً. و البعض يرى دوراً للتأثير الفارسي (أثناء تكوّن الدين المحمدي الباكر) من خلال الدور الكبير الذي نعتقد أنه كان لسلمان الفارسي (الملك الساساني خسرو الثاني) مع النبي البرثي العربي (ملك المناذرة إياس بن قبيصة/ أبو تراب/ أبو كبشة/ من كبيشا أو من كبيسا/ قبيصة).
أما بخصوص “أميّة محمد” فليس معناها من لا يعرف القراءة والكتابة بل “الأمي” عند اليهود هو الذي كان لا يتبع دياناتهم السابقة فعندهم كان الفصل بأن يكون المرء إما يهودياً أو أمياً أي لا يتبع دين ملتهم!
جاء في كتاب [روضة الأحباب] أن محمد اعتاد محادثة ومحاورة كل من يقصدونه على اختلاف مللهم و نحلهم، وكان يخاطبهم بألفاظ قليلة من لغتهم …
القصص الكثيرة الواردة في القرآن كانت متواترة بين العرب تواتراً عظيماً حتى قال الكِندي عنها: فإن ذكرتَ قصة عاد و ثمود و الناقة و أصحاب الفيل و نظائر هذه القصص، قلنا لك: هذه أخبار باردة و خرافات العجائز اللواتي كنَّ يدرسنها ليلهن ونهارهن. جاء في كتاب [السيرة النبوية لإبن هشام] نقلاً عن إبن إسحق: أنه كان من صحابة محمد شخص فارسي إسمه سلمان (أي سلمان الفارسي) هو الذي أشار على محمد وقت حصار المدينة بحفر الخندق فتبع (النبي) نصيحته، وكان سلمان الفارسي أول من أشار على محمد باستعمال المنجنيق في غزوة ثقيف / الطائف (قطيسفون / المدائن عاصمة الفرس، ورأيي الشخصي هذه تصف هجوم القائد سين الشاهين صقر المملكة إياس بن قبيصة (إيليا / عليا / علي بن أبي طالب على قصر كسرى الفُرس قباد الثاني بعد قيامه بإعدام أبيه أبرويز / خسرو الثاني في السجن، وانتزاعه العرش الساساني منه وتزويجه لإبنه من بوران. وملك فارس عشرين عاماً قبل أن يتمكن ماهوية بن شهر باراز/ معاوية بن أبي سفيان من تدبير مؤامرة إغتياله و انتزاع الحكم منه و من آل البيت). و قد أكد أعداء محمد في عصره أن سلمان الفارسي هذا ساعد محمد / أبو تراب في تأليف القرآن، فقد قيل في (سورة النحل 16: 103): {* و لقد نعلم أنهم يقولون إنّما يُعلّمه بشر * لسان الذين يُلحِدُون إليه أعجمي * و هذا لسانٌ عربيٌ مُبين *}. والرد على قصة أنه أعجمي هو أن سلمان الفارسي كان يجيد اللغة العربية، ويترجم من الفارسية إلى العربية، وإلا فكيف عرف محمد بموضوع حفر الخندق، واستعمال المنجنيقات، وهي خطط وآلات حرب فارسية؟!
جاء في كتاب [السيرة النبوية لإبن هشام]: “وحدثني بعض أهل العلم أن المهاجرين يوم الخندق قالوا: سلمان منا؛ و قالت الأنصار: سلمان منا؛ فقال رسول الله: سلمان منا أهل البيت!!”
تأثير الديانات الزرادشتية (المجوسية) والمانوية الفارسية على الإسلام
هناك أمور عديدة أخذها الرهبان المسيحيون الموحدون (النصرانيون) من الأديان الفارسية، وتعتبر من الأمور الأساسية التي أقاموا عليها عقيدتهم الجديدة / دين الإسلام
أولاً – من الدعوة المانوية أو الدين المانوي
في إحدى الحلقات السابقة تناولنا معكم بالتفصيل من هو (النبي) ماني مؤسس الديانة المانوية أو المانيشية، نعيد هنا بعض الأفكار الأساسية لأهميتها في هذا البحث. في القرن الثالث الميلادي أسّس (ماني) الديانة المانوية أو المانيشية. نشأت هذة الديانة في الشرق الأوسط، وانتشرت غرباً حتى المحيط الأطلسي، وشرقاً حتى المحيط الهادي، وظل هذا الدين مُنتشراً لأكثر من ألف سنة! كانت ديانة ماني خليطاً من البوذية و الزرادشتية و المسيحية لكن هذه الديانة ادّعت أنها تلقت وحياً بمعاني أخرى لم تعرفها هذه الديانات الأخرى. وعلى الرغم من أن هذة الديانة نقلت الكثير من أفكار وتعاليم المسيحية الغُنوصية (المسيحية الأصلية و ليست الرومانية التثليثية) و البوذية إلا أن أفكار زرادشت كان لها فيها أكبر الأثر و كان من رأي (ماني) أنه لا يوجد إله واحد في هذا الكون و إنما يوجد صراع مُستمر بين إثنين من الآلهة أحدهما هو إله الشر (يعاقب البشر)، والآخر هو إله الخير (ينقذ البشر). وهذا المعنى (الثنوية الإلهية) قريب من إلهي الشر (الآب / إيل / إل/ الله / المُنتقم الجّبار) و إله الخير (الإبن / المنقذ / المخلص / المسيح) الموجودين في الديانة المسيحية لكن (النبي) ماني كان يرى أن الخيرلا يقل خطورة عن الشر، فكلاهما على درجة واحدة من القدرة، و بناءً على ذلك فما دام الشر قوياً كالخير انحلت المشكلة، التي واجهت الديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية، وهي التساؤل الأزلي الذي واجه الإنسان: كيف يكون الله خيراً مُطلقاً و يقوم بصنع الشر في هذا العالم؟! فالديانة المانيشية ترى أن الخير والشر هما توأمان وُجِدا معاً ليتصارعا معاً إلى الأبد، وما دام الخير والشر متلازمان في الجسم الإنساني، تلازم الروح و الجسم، فلا يصح أن يساعد الإنسان على التكاثر، لأن التكاثر معناه إضافة أجسام جديدة وأرواح جديدة ولذلك حرّم ماني العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة، وحرم أكل اللحوم، وشرب النبيذ… و لهذه الأسباب كان صعباً على عامة الناس أن يؤمنوا بهذه الديانة، فآمن بها الصفوة فقط من الأتباع المخلصين و كان إسمهم (المُجتنبون)، أما المؤمنون العاديون بهذه الديانة و هم (المُستمعون) فكان لهم عشيقات و هؤلاء العاشقون و العشيقات كانوا لا يمتنعون عن ممارسة الجنس و عن أكل اللحوم و شرب النبيذ. إذاً كان هناك الصفوة من (الرهبان و الكهنة) و هؤلاء كانوا ممنوعون منعاً باتاً من الزواج و أكل اللحوم و شرب النبيذ و كانت الجنة المانوية الموعودة من نصيب هؤلاء الصفوة فقط! و قد ولد ماني سنة 216 ميلادية في العراق التي كانت في ذلك الوقت جزءاً من الإمبراطورية الفارسية و كان ماني فارسياً مُنحدراً من أسرة ملكية و أغلب الفارسيين في زمانه آنذاك كانوا يؤمنون بديانة النبي زرادشت أما هو فقد نشأ في كنف أسرة مسيحية غنوصية (غير تثليثية) و كانت له رؤى دينية منذ أن كان في الثانية عشرة 12 من العمر و كان يبشر بديانته الجديدة هذه، لكنه لم يوفق في بادىء الأمر في بلده لذلك ارتحل إلى الهند و من ثم إلى مصر، و هناك تمكّن من أن يجعل أحد الحكام يؤمن به وبدعوته، فعاد إلى بلاد فارس سنة 242 م حيث استمع إليه الملك الفارسي (شابور الأول) و سمح له بأن يدعو إلى ديانته.
ظل ماني يدعو إلى ديانته حتى عهد الملك الفارسي (هرمز الأول) أي طيلة حوالي ثلاثين 30 عاماً إلى أن طفح الكيل، وثار عليه كهنة الديانة الزرادتشية، التي كانت الدين الرسمي للإمبراطورية الفارسية، فاعتقل و أعدم سنة 276 م بأمر من الملك الفارسي (بهرام) في جنديسابور في عهد الإمبراطورية الساسانية.
هناك كتابات تصف ماني في تجواله وهو يرتدي سروالاً واسعاً أصفر اللون وعباءة زرقاء و بيده عصا طويلة من الأبانوس، مُتأبطاً على الدوام كتاب خطه بنفسه باللغة البابلية (وهي اللغة السريانية المشرقية في ذلك الوقت) فمعظم كتبه كانت باللغة السريانية بالإضافة إلى كتاب خطّه في مدح الملك الفارسي (شابور الأول) مخطوط باللغة الفارسية البهلوية. و قد كتب عنه الروائي الشهير [أمين المعلوف رواية حدائق النور] التي تحكي عن حياته!
مُعتقد أو مفهوم (البارقليط أو الفارقليط)
تقول الرواية الإسلامية أن (النبي) محمد قال عن نفسه أنه هو المُبَشَّر به من قبل عيسى المسيح، وهي مقولة ردّدها من قبله أتباع (النبي) ماني! فهي صيحة أطلقها الفقه المانوي عن (ماني) دفاعاً وذوداً عنه، وقد فرض على أتباعه الإعتراف بها، بل و حتى يدعم هذا الإعتراف أضافها إلى صلواته فكان يهوي ساجداً ليختتم صلاته بالتحية والسلام على هذا الكائن قائلاً: “مُباركٌ هادينا البارقليط رسول النّور”. وقد ألف (النبي ماني) كثيراً من الكتب والرسائل التي ضمّنها مذهبه. و ذكرت كثير من المصادر الغربية والشرقية أسماء هذه الكتب التي كتب معظمها باللغة السريانية، كما أشارت هذه المصادر إلى الموضوعات المهمة في هذه المؤلفات. ففي كتاب [سفر الأسرار] تناول المؤلف فيما تناول من الأبحاث: باب ذكر الديصانية، وكتاب [الأصلين] و لعله نظير رسالة العفاريت (كوان) التي تقص قيام الشياطين ب(حرب السماء)، ومنها أتى تعبير (رجوم الشياطين) الذي حاول من خلاله المُسلمون الأوائل تفسير ظاهرة النيازك والشهب في حرب النجوم الشيطانية هذه.
و نجد فيه قصصاً أُخرى من قصص الأبطال. وهناك أيضاً كتاب يدعى كتاب [براجماتيا أو كتاب الأصل] و لعله كُتِبَ كتكملة أو تتمة لكتاب [الأصلين].
أما كتاب [الإنجيل الحي] أو [الإنجيل] فقط -بدون كلمة الحي- الذي يحتوي على إثنين و عشرين باباً هي عدد حروف الألف باء السريانية، فيعتبر الفلسفة الدينية الحقيقية التي أنزلها هذا (المخلص الإلهي) على ذوي الإرادة الطيبة (جموع المؤمنين أو أتباع هذه العقيدة أي القطيع)، و قد ألحق بالإنجيل كتاب آخر عن مذهب الجنستيكية هو كتاب [كنز الحياة]. ويحدد (ماني) في هذه (التعاليم) قواعد الأخلاق وفروض الدين للصّديقين (المُجتنبين / النُّخبة او الصّفوة / الصّحابة) والسّماعين (المُستمعين)، و قد تُرجِمَت جميع الكتابات المانوية إلى اللغة البهلوية / الفهلوية الفارسية الوسطى منذ عصر مبكر. ومن كتب (ماني) الأخرى كتاب ألفه باللغة البهلوية الجنوبية الشرقية هو كتاب [شابورغان] الذي ألفه وأطلق عليه إسم (شابور الأول) ملك الفُرس وهو يتناول المبدأ و المُعاد. وقد عُثِرَ على بعض أجزاء من كل من كتب [الشابورغان] و [الإنجيل] ضمن نصوص [تورفان]. و يشمل كتاب [الكفلايا] تعاليم هذا (النبي) التي جُمِعَت بعد موته، وجزء كبير منه متوفر باللغة القبطية، ولعله كان منقولاً عن اليونانية. وأخيراً يوجد الكثير من كتب (ماني) وخطبه التي كتبها بنفسه بحسب المُناسبات، و كان يوجه الخطابات إلى تلاميذه المُمتازين أو إلى الجماعات المانوية في مختلف البلاد، التي تواجدت في المدائن وبابل وميسان والرّها والأهواز وأرمينيا والهند، مما يبين إنتشار الدعوة المانوية الواسع أثناء حياة مؤسسها (ماني). و توجد مجموعة من هذه الخطابات باللغة القبطية مخطوطة على أوراق البردي التي اكتُشِفَت في مصر. و في موضع آخر من الكتاب يُذكَر إسم كتاب آخر للنبي ماني إسمه [إردنج]، لكن نُسِجَت الكثير من الخُرافات حول هذا الكتاب، وأشار الباحث ألفريك إلى أن كتاب [إردنج] الشهير هذا لا يعدو كونه نسخة لإنجيل ماني لكنها نسخة مزينة بالصور
المصادر:
1. Boyce، Mary (2001)، Zoroastrians: their religious beliefs and practices، Routledge، صفحة 111، “He was Iranian, of noble Parthian blood”
2. Ball، Warwick (2001)، Rome in the East: the transformation of an empire، Routledge، صفحة 437، “Manichaeism was a syncretic religion, proclaimed by the Iranian Prophet Mani”
3. كتاب دين الإنسان، لفراس السواح
ثانياً – من الديانة الزرادشتية
يروي أتباع دين (النبي) زرادشت كثيراً عما صحب ولادته من المُعجزات والخوارق والعادات والإشارات، و أنه انقطع منذ صِباه إلى التفكير والتأمل، ومال إلى العزلة، وأنه في أثناء ذلك رأى سبع رؤى، ثم أعلن رسالته فكان يقول: إنه رسول الإله بعثه ليزيل ما علق بالدين من الضلال، وليُهدي الناس إلى الحق. وقد ظل يدعو الناس إلى الحق سنيناً طِوالاً فلم يستجب لدعوته إلا القليل، فأوحي إليه أن يُهاجر إلى بلخ!!! في تشابه شديد و مُثير مع سيرة (النبي المحمد) رسول دين الإسلام الذي قام بالهجرة في سبيل نشر و نصرة دعوته الجديدة!!! و في كتاب [الدين في الهند و الصين و إيران] تتكلم الكاتبة (أبكار السّقاف) عن حال زرادشت في بداية الدعوة و الكلام الذي نورده هو جزء من كتاب (الأفستا / الأبستاق): عن هذه النبوة والرسالة والوحي المنزل ينبعث قسم من الجاتها الحديث الفقهي وهو عن هذا النبي الرسول يحدث: إنه إلى التفكير والعزلة انقطع زرادشت منذ درجت به مدارج الحداثة من الصّبا إلى الشباب وحتى تخطّت به مراحل الشباب للشباب فجراً وللشباب غروباً و عن الحقيقة باحثاً راح يطوي طيّات الصحراء تهجداً، ومُتجهداً طواه غار في جبل (سَبالان) حيث بدأت أولى بشائر نبوته، ورسالته حوالي سن الأربعين 40 من العمر (وهو عمر النبي محمد عندما بدأ بشائر نبوته و رسالته)، بالرؤيا ثم بالكلام ثم المِعراج إلى السماء!!! (35)
يقول الباحث فراس السواح في بحث له عن زرادِشت بعنوان: [ميلاد الشيطان، زرادِشت نبي التّوحيد نبي الثنوية]: بعد تلقيه الرسالة انطلق زرادشت يبشر بها في موطنه وبين قومه مدة عشر 10 سنوات، ولكنه لم يستطع إستمالة الكثيرين إلى الدين الجديد، فقد وقف منه عامة الناس موقف الشك والريبة بسبب إدعائه للنبوة و تلقيه وحي السماء، بينما اتخذ منه النّبلاء موقفاً مُعادياً بسبب تهديده لهم بعذاب الآخرة، ووعده للبسطاء بإمكانية حصولهم على الخُلود الذي كان وِقفاً على النّخبة في المُعتقد التقليدي.
و لما يئِسَ النبي من قومه وعشيرته عزم على الهجرة من موطنه، فتوجَّه إلى مملكة (خوارزم) القريبة، حيث أحسن ملكها (فشتاسبا) إستقباله، ثم ما لبث أن اعتنق هذا الملك هو وزوجته الديانة الزرادشتية وعمل على نشرها في بلاده. فهل كانت (سيرة زرادشت) مصدر إلهام مدونوا التوراة اليهودية لبعض سير أنبيائهم المزعومين كالنبي صالح و النبي دانيال و للنبي صموئيل و النبي حَبَقوق، ورواة السيرة النبوية الإسلامية لنبي الإسلام محمد في حياته و أفعاله؟! نعتقد أن هذا الأمر بات واضحاً جداً، و بات من الواضح من هو (النبي) الأصلي والذي أسقطت صِفاته وسيرته على بعض أنبياء التوراة وعلى شخصية رسول الإسلام النبي محمد أو المعمد!! و يورد الباحث السوري فراس السواح أيضاً ثلاثة تواريخ مُرجّحَة لميلاد النبي زرادشت، أحدهم يرجع ميلاد زرادشت إلى أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد (1,200 ق.م.) إستناداً للبحث الفيلولوجي للغاثا Gatha، وتاريخ آخر ورد في كتاب الأفستا، وهو أوائل القرن السادس قبل الميلاد (600 ق.م.)، و التاريخ الأخير يقع ما بينهما أي حوالي سنة (900 ق.م.) ويقول أن هذا التاريخ الأخير يلقى الآن تأييد معظم الباحثين!
– مفهوم آخر الأنبياء: قال نبي الإسلام محمد عن نفسه أنه آخر الأنبياء و المُرسلين. و لكن هذا ما قاله أيضاً النبي زرادشت من قبله: أيها الناس إنني رسول الله إليكم، لهدايتكم بعثني الإله في آخر الزمان، أراد أن يختتم بي هذه الحياة الدنيا فجئت إلى الحق هادياً ولأزيل ما علِقَ بالدين من أوشاب، بشيراً ونذيراً بهذه النهاية المقتربة جئت. (36) ثم كرّر الأمر ذاته النبي ماني الذي قال عن نفسه أيضاً بأنه آخر الأنبياء!!
– مفهوم التوحيد: دعا نبي الإسلام إلى التوحيد، ونبذ باقي الآلهة المزيفة (فلا إله إلا الله)، و لكننا نجد أن زرادشت أيضاً دعا إلى التوحيد وإلى نبذ كل الآلهة الأخرى (فلا إله سوى أهورا مزدا)! لكن في مرحلة مُتأخرة بعد زرادشت أصبح (أهورا مزدا) إله الخير، و(أهرِمَن / أهريمان) إله الشر، فكانت تلك الخطوة إنتقال للديانة الزرادشتية من التوحيد للثنوية أو تثنية الإلهة
– أسماء الله: تورد كتب التراث الإسلامي أن لله عدة أسماء حُسنى وذكرت عددها (99 إسماً)، و كذلك قال زرادشت قبل ذلك، نقرأ في نفس الكتاب: فسأله زرادِشت أن يعلّمه هذا الإسم فقال له أنه هو (السّر المسؤول) و أما الأسماء الأُخرى فالإسم الأول هو(واهب الأنعام) والإسم الثاني هو المكين أو المُتَمَكِّن)، والثالث هو (الكامل)، والإسم الرابع هو (القدس أو القدوس) (37)، والإسم الخامس هو (الشريف)، والإسم السادس هو (الحِكمة)، والإسم السابع هو(الحكيم)، والإسم الثامن هو (الخِبرة)، والإسم التاسع هو (الخبير)، والإسم العاشر هو (الغني)، والإسم الحادي عشرهو(المُغْنِي)، والإسم الثاني عشرهو(السّيد)، والإسم الثالث عشر هو (المُنعِم)، والإسم الرابع عشرهو(الطّيب)، والإسم الخامس عشرهو (القهّار)، والإسم السادس عشرهو(مُحق الحق)، والإسم السابع عشرهو(البصر)، والإسم الثامن عشرهو (الشّافي)، والإسم التاسع عشرهو(الخلاّق) والإسم العشرون هو(مزدا أي العليم بكل شيء). (38) وكما نرى فالكثير منها تُشابِه بشكل كبيرأو تُطابِق أسماء الله الحُسنى في الإسلام مثل (المُتَمَكِّن) و(القادر) و(القدير) و(الكامل) و(القدوس) و(الحكيم) و(الغني) و(المُنعِم) و (القهّار) و(البصير) و(الشّافي) و(الخالق) و(العليم) فسبحانَه أهورا مزدا هو أيضاً قبل الله كان بكلِّ شيءٍ عليم!!
– خُرافة المِعراج: قال رواة السيرة و الحديث عن نبي الإسلام أنه قد عرج به الملاك جبريل إلى السماء للقاء ربه في سُدرة المُنتهى، و القصة نفسها نجدها مروية قبلهم بزمنٍ طويل في سيرة النبي زرادشت: ثم أخذ كبير الملائكة بيد زرادشت وعرج به إلى السماء حيث مَثُل في حضرة الإله أهورا مزدا والكائنات الروحانية المدعوة ب(الأميشا سبنتا)، و هناك تلقَّى منه الرسالة التي وجب عليه إبلاغها لقومه ولجميع بني البشر(39).
وصفحات (الغاثا) هي سجل آخر لهذه العقيدة أي عقيدة المِعراج إلى السماء. نجد على صفحات الغاثا عقيدة تسجلها سطور تقول أن النبي زرادشت نفسه قد تحدث بهذا الحدث قائلاً: أيها الناس، إني رسول الإله إليكم فإنه يكلمني وحياً بواسطة رسول من الملائكة، به وإليه رفعني، فإليه بي أسرى كبير الملائكة وإلى حضرته قادني، ولي هناك متجلياً، تجلّى الإله وعرّفني الشريعة وعلّمني ما هو الدين الحق، فقد سلّمني إليكم هذا الكتاب.(40) في تشابه كبيرأوتطابق مع قصة (النبي) اليهودي موسى التوراتية، عندما نزل من الجبل بعد لقائه، وحواره مع الرب إل-يهوه فخاطب وسلّم شعب إسرائيل شرائع “كتاب الموتى المصري” مُدّعياً أن الرب قد تجلّى له في شجرة نورانية وعرّفه الشريعة وعلّمه ما هوالدين الحق وسلّمه هذا الكتاب ليوصله لهم بالحق!!
وكما نرى هذا التشابه الكبير يتكرر أيضاً مع رواة السيرة النبوية الإسلامية لقصة نبي الإسلام محمد في مِعراجه إلى السماء السابعة مع الملاك جبريل على ظهر بغلة البُراق المُجنّحة، ولقائه لله النوراني في سُدرة المُنتهى، حيث عرّفه على الشريعة، وعلّمه الدين الحق وكيفية وعدد الصلوات اليومية، وأوحى له بسور و أيات هذا الكتاب (القرآن) الذي أُنزِلَ عليه بالحق!!!
– بعض الطقوس و العبادات: فرض نبي الإسلام خمس صلوات يومياً على أتباعه من المُسلمين و هي صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء. و في الدين الزرادشتي، الذي ظهر قبل الإسلام بوقتٍ طويل، دعا النبي زرادشت أتباعه من (المؤمنين) إلى خمس صلوات في اليوم، تقام عند الفجر والظهيرة والعصر و المغرب ومُنتصف الليل (41). و في الديانة المانوية الصلاة هي فريضة تؤدّى في مواقيت معلومة وبحركات جسدية معينة من القيام والركوع والسجود وعددها أربع صلوات في اليوم: الصلاة الأولى تقام عند الزوال، و الثانية صلاة العصر، تليها صلاة المغرب عقب غروب الشمس، وبعد المغرب تجيء صلاة العشاء، وكل صلاة تؤدّى في إثنتي عشرة ركعة وسجدة، ولكل ركعة من الركعات، وسجدة من السجدات، صيغة معينة ومن الكتاب المانوي تلاوة أيات أيضاً بطريقة خاصة، و لهجة مُعينة، ورنّة خاصة (42). و كما أن للمُسلمين قبلة هي المسجد الحرام، للمُصلّين أيضاً في الديانتين الزرادشتية والمانوية قُبلة هي مصدر الضوء: الشمس أو القمر. وكما أنه يتوجّب على المُسلم الوضوء قبل الصلاة، كذلك كان مفروضاً على الزرادشتيين وعلى المانويين ذلك، فتسبق الصلاة عند أتباع الديانتين الزردشتية والمانوية عملية الوضوء التي تتضمّن غسل الوجه واليدين والقدمين (43).
فرض نبي الإسلام على المسلمين صوم ثلاثين يوماً في السنة، وكذلك فرض ماني على أتباعه الصوم. فالصوم في الدين المانوي فريضة هي صيام ثلاثين يوماً من كل سنة، وسبعة أيام من كل شهر، وهي تنحصر بأن يُمسِكْ الصائم إذا ما نزلت الشمس برج الدلو، وأما الإفطار فكان عند غروبها. (44)
من الأمور التي أطال القرآن في وصفها هي (الآخرويات) أي يوم القيامة والحساب ومسألة الثواب والعقاب إلخ … ونجد أيضاً هذه الأمور واردة بإسهاب في الدين الزرادشتي، فللإنسان حياة أخرى غير حياته (الدنيا) هذه، وله روح تبقى بعد موته ثم تعود لتلتقي بجسدها الذي كانت قد فارقته. فالأرواح في تصور الديانة الزرادشتية بعد مغادرتها للأجسام عُقبَ الموت تبقى في برزخ هو (المينوغ) تنتظر يوم القيامة بشوق وترقُّب لكي تلتقي من جديد بأجسادها التي تًبعَث يومها من التراب(45). والإنسان في حياته يكون مُخيّراً بين عمل الخيرأو الشر، وفي الحياة الأخرى يكون الجزاء، فكل أعمال الإنسان محفوظة في كتاب، وعلى كل إنسان ملائكة (حَفَظَة) موكلة عليه تُحصي عليه السيئات، وتحسب له الحسنات و تسطرها في هذا (الكتاب)، و في يوم القيامة سيجد الإنسان نيّاته وأعماله مُسَجّلة، ما له وما عليه، في هذا الكتاب الذي جرت بتسطيره أقلام أولئك (الحَفَظَة) من الملائكة التي كانت تحصي أعماله و فكره في الحياة الدنيا (46). و الحساب يكون على أساس عمل الإنسان في حياته الأولى، خيره و شره، و بعد مفارقتها الأجسام تَمثُل الأروح أمام الإله (ميثرا) قاضي العالم الآخر، (وهو رئيس فريق الأهورا الذين يشكلون مع الأميشا سبنتا الرّهط السماوي المقدس أي مجلس أو بانثيون الآلهة) الذي يحاسبها على ما قدمته في الحياة الدنيا من أجل خير البشرية، وخير العالم (يقابله النتر أوزيريس إله البعث و الحساب عند المصريين القدماء). و يقف عن يمين الإله ميثرا وعن يساره مساعداه (سرواشا وراشنو) اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين و سيئاته في الأخرى. وهنا لا تشفع للمرء قرابينُه وطقوسه وعباداته الشكلانية، بل أفكاره وأقواله وأفعاله الطيبة. فمن رجحت كفّة خيره كان مآله الفردوس، ومن رجحت كفّة شره كان مثواه هاوية الجحيم(47). ثم يكون بعد ذلك (الصّراط المُستقيم) أي الجسر الذي ستعبره هذه الأرواح، وهذا الجسر مُقام فوق الجحيم ويؤدي إلى الفردوس، و يكون واسعاً عريضاً أمام الأرواح الخيرة فتجتازه مُطمئنّة، لكنه ضيقٌ ورفيع جداً أمام الأروح الشريرة التي لا تلبث أن تهوي في الجحيم، نقرأ: الصّراط إنما هو مد فوق هاوية الجحيم، هاوية قرارها الظُّلمة من فوقها تندلع ألسنة اللهب، ولكن لئن كان الصّراط قد مُدَّ فوق هاوية الجحيم، فإنما هو أيضاً مَدٌّ تؤدي نهايته إلى جنّة المأوى (البردوس/ البراديس Paradise أي الفردوس)(48). بعد ذلك تتجه الأرواح لتعبر صِراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتّسع أمام الأرواح الطيبة، فتسير الهويناء فوقه إلى الجهة الأخرى نحو بوابة الفردوس، و لكنه يضيق أمام الأرواح الخبيثة، فتتعثر و تسقط من عليه لتتلقَّفها نار جهنم (49)
– مفهوم المُهدي المُنتَظر (أشيزريكا)
عقيدة المُهدي المُنتَظر معروفة عند رواة الإسلام. ورد في سنن الترمذي وغيره: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: المُهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كُلّما مُلِئَت جُوراً وظُلماً، و يملك سبع سنين. لكن هذا أيضاً مذكور قبلهم في الديانة الزرادشتية، جاء في كتاب “الملل والنِّحل للشهرستاني”: ومما أخبر به زرادِشت في كتاب زند أوستا أنه قال: سيظهر في آخر الزمان رجل إسمه (أشيزريكا) ومعناه: الرجل العالِم، يزين العالم بالدّين والعدل، ثم يظهر في زمانه (بتياره) فيوقع الآفة في أمره و ملكه عشرين سنة، ثم يظهر بعد ذلك (أشيزريكا) على أهل العالم، فيحي العدل ويُميت الجُّور، ويرد السنن المُغَيّرة إلى أوضاعها الأولى، و تنقاد له الملوك، وتتيسر له الأمور، و ينصرالدين والحق، ويحصل في زمانه الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن.(50)
-تحريف الإناجيل
قال نبي الإسلام أن اليهود و النصارى قد حرّفوا كتبهم، وقال ماني قبل زمنه بثلاثمئة عام الكلام نفسه عن الأناجيل حيث كان ماني يرفض الإعتراف بأناجيل المسيحية الأربعة على أساس أن الرسل حرّفوها لخدمة مصالح اليهود(51).
– مسألة صلب المسيح
ينفي رواة القرآن واقعة صلب المسيح، ويعتبرون أن ما حدث أي واقعة (صلب المسيح) لم تحدث في الحقيقة، و لكن “شُبِّهَ لهم”، وهذا هو بالضبط ما نادى به ماني!!
يقول الشّماس (منسي القمص) في شرح هذه النقطة في دين المانويين: ظهر المسيح بين اليهود لابساً صورة و ظِلّ (أي هيئة جسد إنساني) لا جسداً حقيقياً، لكن إله الظلمة (مثل النتر سيت / ساتان / شيطان في الأساطير المصرية كما مرّ ذكره في إحدى الحلقات السابقة) أغوى اليهود ليصلبوه، ولمّا لم يكُن له جسد فإن الآلام لم تؤثر فيه ولكن اليهود ظنّوا أنه صُلِب (52)
تأثيرات أخرى من الأديان الفارسية على الديانتين اليهودية و المسيحية
لم يقتصر تأثير الديانات الفارسية على الإسلام فقط، بل سبقته في التأثر بها الأديان اليهودية و المسيحية:
تأثير الديانة الزرادشتية و المانوية على الديانة اليهودية
يقول الباحث حبيب سعيد في كتابه: “أديان العالم” عن فترة ما بعد السبي البابلي: لا يدهشنا أن نرى اليهودية بعد السبي تأثرت بدين زرادشت، و لو أن آثار هذا الدين لم تبدو ظاهرة في الديانة اليهودية إلا بعد قرنين من الزمن. في هذه الفترة من التاريخ ظهرت كتابات الرؤى في الأدب العبري تحمل بين طياتها آثاراً واضحة، لا خفاء فيها من عقائد زرادشت عن السماء وجهنم، وعن الدينونة بعد الموت، وعن نهاية العالم، كما ظهرت عقيدة الكهنوت الملائكي، وثنائية الخير والشر تحت سُلطان قوتين متضاربتين، لكل منهما زعيمها و قائدها، رئيس الملائكة ميخائيل أو ميكائيل للخير وإبليس الشيطان للشر. يُضاف إلى هذه العقائد فكرة ملكوت المسايا (المُهدي المُنتَظر) الذي سيسود العالم يوماً ما (53). وكمثال على ذلك مفهوم الشيطان، فلم يعرف العبريون (الشيطان) بصورته الكاملة، كمنبع للشر في هذا العالم، إلا بعد النفي لبابل واختلاطهم بغيرهم من أصحاب الأديان المُختلفة. ويقول الباحث عبّاس العقّاد في كتابه: “إبليس” ص 103: و يتضح من مُقارنات الأديان أن العقيدة تعزل قوة الشر وتحصرها في “الشخصية الشيطانية” كلما تقدمت في تنزيه الإله، واستنكرت أن يصدر منه الشّر الذي يصدر عن الشيطان، ولهذا لم يشعر العبريون الأوائل، بما يدعوهم إلى عزل الشيطان، أو إسناد الشرور إليه، لأنهم كانوا يتوقعون أن تصدر من الإله أعمالاً كأعمال الشيطان، و كان العمل الواحد عندهم ينسب تارةً إلى الشيطان، و تارةً أُخرى إلى الإله كما حدث في قضية إحصاء الشعب على عهد الملك داوود، فإنه في المرة التي ورد فيها إسم الشيطان بصيغة العلم، قيل أنه هو الذي أغرى داوود بإحصاء الشعب كما جاء في الإصحاح ال21 من سفرالأيام الأول، و لكن الرواة التوراتيين يروون هذه القصة بعينها في سفر (صموئيل الثاني) فيقولون: “حمي غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داوود قائلاً إمضي و أحصي إسرائيل و يهوذا”(54). وفي كتاب “الله” لعبّاس العقّاد ص 78 أيضاً نقرأ: “ولم يكن اليهود يتكلمون عن الشياطين قبل السبي أو قبل الإقامة فيما بين النهرين فتكلموا عن الشيطان بعد أن شبّهوه ب(أهريمان) الذي كان يُمَثِّل الشّر و الفساد عند المجوس أي عند الزرادشتيين. (55)
تأثير الديانة الزرادشتية و المانوية على الديانة المسيحية
تأثرت المسيحية أيضاً بالديانات الفارسية، سواءً بطريقة مُباشرة عن طريق الإقتباس المُباشر، أو بطريقة غير مُباشرة عن طريق الأخذ من اليهودية التي هي أصلاً كانت مُتأثرة بالديانات الفارسية. يقول الباحث جاك دوشن جيلمان مترجم “أناشيد زرادشت” عن تأثيرات زرادشت في اليهودية، والتي مهّدت لدعوة المسيح: “إن تطور المُعتقدات في اليهودية عن الرؤيا اللاهوتية، مثل مفاهيم مملكة الله و الحساب في اليوم الآخر، ويوم القيامة، والإنسان، وإبن الإنسان، وأمير هذا العالم وأمير الظلام، والمُخَلِّص، كانت تربة قادرة على استقبال وتفسير رسالة الحياة والكلمة وموت يسوع “(56)، وكمثال على ذلك نورد مفهوم “غواية الشيطان للمسيح”: حيث أننا نجد في الأناجيل الثلاثة الأولى ذِكر للقصة القائلة بأن الشيطان أدخل المسيح في تجربة، و حاول بث الشّك في نفسه: “إبليس أخذ يسوع إلى البرية، بعد أن هبط عليه الروح القدس، ليجرِّبه لمدة أربعين يوماً، ثم مضى به إبليس إلى جبل عالٍ جداً و أراه جميع ممالك الدنيا ومجدها، وقال له: أعطيك هذا كلَّه إن جثوت لي ساجداً. فقال يسوع: إذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد و إياه وحده تعبد (متى 4: 7-10)، ولكننا نجد هذه القصة نفسها بحذافيرها أيضاً في سيرة النبي زرادشت: “و عندما شبَّ عن الطّوق جاء الشيطان لكي يجربه، ووضع في يده سُلطان الأرض كلِّها مقابل تخلِّيه عن مهمته القادمة، و لكن زرادشت نهره و أبعده عنه”(57). نقرأ في كتاب ميلاد الشيطان، زرادشت نبي التوحيد، نبي الثنوية، للباحث فراس السواح: هذه المواجهة بين المخلِّص والشيطان نجدها أيضاً في الأدبيات الدينية البوذية، والمسيحية. فعندما كان بوذا جالساً جلسة التّأمل الأخيرة التي قادته إلى المعرفة المُطلقة، أرسل رئيس العفاريت الشريرة (مارا) زبانيته الذين أحاطوا بالشجرة التي كان يجلس تحتها المعلم، فحاولوا إخافته، وبث الرعب في قلبه بكل الوسائل، لكنه بقي هادئاً مُستغرِقاً في تأمُّلِه الباطني. ثم هبط (مارا) بنفسه و رماه بكل أسلحته، و لكنها تحوّلت إلى براعم زهور مُعَلّقة حول رأسه في الهواء. وما أن حلَّ الصباح حتى استنارت جنبات البوذا بالعرفان واخترق بعقله وروحه جوهر الحقيقة
مما سبق أن استعرضناه معكم هنا يتضح لنا جميعاً بأن النبي الهندي بوذا وأنبياء فارس(النبي زرادشت والنبي ماني) هم الأجداد الثلاثة والأصل الحقيقي للقصص والأساطير والمفاهيم (المقدسة) المنسوبة لجميع أنبياء الأديان الإبراهيمية (البراهمية) الثلاثة موسى والمسيح ومحمد!!!
حِيرة المُسلمين / المحمديين الأوائل بشأن المجوس
من الأمور المعروفة في الإسلام أن تعبير”أهل الكتاب” كان يُقصَد بهم اليهود والنصارى “أي المسيحيين”، أما المجوس (الزردشتيين) فلم يرد أي نص يُشير إلى اعتبارهم “أهل كتاب”، لكن مع ذلك يبدو أن المحمديين الأوائل كانت تنتابهم الحيرة بخصوص هذه المسألة، فهم تأثّروا واقتبسوا الكثير من الديانات الهندية والفارسية، كما بات واضح جداً لنا، لكن في الوقت نفسه وجدوا ما لا يتفق مع عقيدتهم، ولم يرد في كتب أخرى اعتمدوا عليها ورووها (مُنَزّلة). وقد أخذ هؤلاء الكثير من الديانات الفارسية، لكنهم رفضوا أموراً أخرى أيضاً، فكانت النتيجة أنهم توصّلوا ألى حل وسط، لكنه كان حلاً لا يزال يُثير الدّهشة والإستغراب لما حمله من تناقُض، وهو عدم الإعتراف بالمجوس كأهل كتاب صراحةً لكنهم ظلّوا يعاملونهم معاملة أهل الكتاب! ولم يوضّحوا لنا لماذا بقوا يعاملونهم معاملة أهل الكتاب مع أنهم لم يكونوا كذلك؟ ولا نجد إجابة سوى أنه كان نوع من الإمتنان لهم لما نهلوا وأخذوه من دينهم، و الذي لم يكن بالشيء القليل!! و يوجد أمرين على ما نعتقد جعلاهم يترددون بشأن الإعتراف بالفُرس كأهل كتاب: الأمر الأول هو مسألة الصّراع بين إله الخير و إله الشّر في العالم أي الثنوية الإلهية، التي هي بمثابة حجر الأساس في الديانات الفارسية، لكن هؤلاء المحمديين لم يقبلوها، و لم يأخذوا بها تفسيراً لوجود إله للشّر في العالم كند مُقابل لإله الخير الإله الوحيد، و هي فكرة راسخة في الديانات الفارسية لا ينفع معها أن نقول أن الفُرس قد حرّفوا دينهم!! أما الأمر الثاني فكان إنفصال أنبياء فارس (زرادشت و ماني) عن سلسلة أنبياء العبرانيين، و قد استمر غموض موقف المحمديين و حيرتهم بشأن المجوس إلى عهود من جاء من بعدهم و من خَلَفَهم
وضع “المجوس” خلال حياة النبي المحمد
ورد في صحيح البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سُفيان، قال: سمعت عمراً قال: كنت جالساً مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال: كنت كاتباً لجزء بن معاوية عم الأحنف فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، و لم يكن عمر يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر. وفي كتاب (الموطأ) نقرأ التالي: عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله يقول: سُنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب! إذاً نحن نرى هنا إختلاط هذا الأمر على من جاء بعد (نبي الإسلام) بشأن المجوس بعد أن شاهدنا عمر بن الخطاب، و هو صحابي كبير، لم يكن يدري كيف يُعامِل المجوس، وهو موقف يبدو أنه كان إمتداداً لحيرة من أتى من قبله، والذي اتخذ موقفاً مُتردداً وغير حاسماً من تلك المسألة! نرى أيضاً اختلاف رأي بعض “الفُقهاء” المُسلمين في شأن الزواج من المجوس، فكان يُحرّمه أكثرهم ويحلّه البعض منهم، نقرأ مثلاً: وذهب أبو ثور إلى حل التّزوج بالمجوسية، لأنهم يقرون على دينهم بالجزية كاليهود والنصارى (58)، وجاء في بعض كتب التاريخ خبر زواج حذيفة من مجوسية، وإن كان بروايات مختلفة، ونرى الشهرستاني يقع في الحِيرة نفسها بشأن هذه المسألة، ولا يجد حلاً سوى بالإقتداء بنبي الإسلام في الأخذ بالحل الوسط، فنراه يصنف المجوس في كتابه تحت قسم (من لهم شبهة كتاب)!!
تأثر مؤسسوا دين الإسلام إذن تأثراً واضحاً بالأديان الفارسية، فنجد تشابهاً شديداً في كثير من الطّقوس والمُعتقدات، بل إن بعض المُعتقدات مُتطابقة و تكاد تكون واحدة، مثل الأمور الآخروية، كمفاهيم يوم القيامة و البعث والحساب وميزان الحسنات والسيئات والثواب والعقاب والصّراط المُستقيم، فنجد الروح والثقافة الفارسية حاضِرة و جليّة في الكثير من هذه المُعتقدات. بل تميّز الدين الزرادشتي عن الدين الإسلامي بالوضوح و المنطق في بعض الأمور العقائدية، التي قد نراها ظاهرياً مُتشابهة في العقيدتين، مثل القول بحرية الإرادة و الإختيار، فبينما نرى في الديانة الزرادشتية وضوح فكرة حرية الإرادة للإنسان، وبالتالي مسؤوليته عما يصدر عنه من أفعال، نرى في الإسلام عدم وضوح، لا بل إننا نرى تناقضاً واضحاً في هذا الموضوع.
فنحن نفهم من بعض آيات القرآن أن الإنسان هو الذي يختار أفعاله بحرية، و في آيات أُخرى نرى أن الله قد قرر أموراً ولا رد لقضاء الله، فما يحدث من حولنا لا يخرج عن كونه محض تنفيذ للمشيئة الإلهية التي لا سبيل للإنسان أمامها أو من ردِّها. و لتجنب الخوض في تفاصيل كثيرة نورد بعض الآيات التي تتناقض مع القول بحرية الإنسان في الإختيار فنقرأ مثلاً في سورة (البقرة 6 ،7): {* إن الذين كفروا سواءً عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةً و لهم عذابٌ عظيم *}، و نجد في سورة (الأنعام 125): {* فمن يرِد الله أن يُهديهِ يشرح صدره للإسلام و من يرِد الله أن يُضِلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنّما يصعد في السماء *} و {* كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون و لو شاءَ اللهُ لجعلكم أمةً واحدة و لكن يُضِلُّ من يشاء و يُهدِي من يشاء و لتُسألُّنَّ عمّا كُنتم تعملون *} سورة (النحل 93)، و أيضاً: {* من يُهدي الله فهو المُهتَدي و من يُضلِل فلن تجد لهُ ولياً مُرشِداً *} سورة (الكهف 17). و لا يخفى أن مثل هذا التّناقض قد تسبّب في خلافاتٍ كبيرةٍ في القرون الأولى من تاريخ الإسلام الباكر، و أدّى إلى ظهور فِرَق دينية مُختلفة مُنقسمة مُتصارعة فيما بينها و إلى يومنا هذا!!!
في النهاية لا بد أن نُشير إلى أمر آخر تميّز به النبي زرادشت و النبي ماني ألا و هو عدم وجود أثر للعنف في دعوتهما على عكس ما نجده في الأديان اليهودية و اليهو-مسيحية التوحيدية النصرانية (الإسلام) و مسيحية روما البيزنطية و مسيحية أوروبا العصور الوسطى (الأديان الإبراهيمية)! لم يحمل زرادشت و لا ماني السيف، فكيف يحمل السيف من كانت دعوته هي الدعوة للخير و مناصرته؟! و هذا كان عكس سياسة الأديان الإبراهيمية و منتوجها الأخير دين الإسلام، هذا التنظيم السياسي العسكري الذكوري السُّلطَوي الذي دعا إلى حمل السيف و “جعل رزق نبيّه تحت ظل رمحه”، فبالدماء خضب التاريخ اليهودي و المسيحي و الإسلامي حيث نجده كله، منذ بدايته و إلى يومنا هذا، تاريخ مكتوب بالدم و مليء بالقتال و القتل و سفك دِماء غير المؤمنين بهذه الدّعوة بعدما ابتدأت الدعوة بشعار “من شاءَ فليؤمن و من شاءَ فليكفُر” و انتهت بسفك دماء مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من الأبرياء. و بينما كان توجّه مؤسسي الأديان البراهمية الإبراهيمية للعنف ذو أثر عميق في التاريخ اللاحق لهذه الدعوة الإبراهيمية الموسوية، نرى أثر دعوة زرادشت للخير في أتباعه، حيث نرى ما يُعرفون اليوم ب(البارسيين) من أتباع زرادشت، و هم قوم ذوي أخلاق سامية و آداب رفيعة، و هم بمثابة شاهد حي على فضل الديانة الزرادشتية و ما لها من أثر عظيم في تهذيب بني البشر و تمدُّنهم و رقيِّهم (59)