الاسرة الشامية في مطلع العهد العثماني
مقدمة
في عصر الانحطاط الذي عاشته دمشق وبلاد الشام في زمن الاحتلال العثماني والتي استمرت من القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن العشرين…
وبالرغم من الانقسام الطائفي، الا ان المجتمع السوري كان موحداً، والعامل الرئيس في بث روح الوحدة بين أطرافه، كان بسبب وحدة الخلية الأولى التي ترتب وجوده وهي الاسرة.
فالأسرة السورية في تركيبها العام وحياتها، وعاداتها الشتى، وروابط أفرادها، لاتختلف مع اختلاف الطبقات والطوائف، فهي ذاتها في كل المجتمعات التي نحكي عنها حتى عند أهل الذمة، واذا وجدت اختلافات ما، فهي فروق سطحية تمس مظاهر الحياة لا أعماق بناء الاسرة.
والأسرة السورية في الوقت الحاضر، لم تتطور في خطوطها الكبرى كثيراً عما كانت عليه، لأنها كغيرها من المؤسسات الاجتماعية المكينة والمحافظة وهي اساس المجتمعات، تتطور تطوراً بطيئاً. وفي الواقع ليس لدينا معلومات وافية عن الاسرة الشامية في منتصف القرن 16، ولكن يمكن القول أن الاسرة الشامية بتركيبها، وكثير من أحوالها في الوقت الحاضر وفي القرى والبيئات المحافظة بالذات هي نفس ماكانت عليه الأسرة في تلك الحقبة من الزمن. ولا أدل على ذلك من أن أحد مظاهر حياتها – والمظاهر عادة تتبدل بسرعة أكبر من الأسس – كالأفراح مثلاً بقي بصورته التي أُعطيت له في مطلع القرن 16م، حتى ساعتنا هذه في كثير من القرى والأحياء القديمة المحافظة في دمشق. وعلى هذا يمكن إعطاء صورة قريبة من الحقيقة عن الاسرة الشامية في ذلك الزمن بالاعتماد على الدراسات التي أجريت على الأسرة حديثاً والواقع المعاش حالياً، والمشاهدات المباشرة وماورد في كتب القرن 16م مبعثراً.
تسمية الاسرة
كلمة اسرة في بلاد الشام يعبر عنها بألفاظ عدة تختلف من ساكن المدينة الى البدوي في البادية.
فعند المدنيين تشير كلمة ” عيلة ” وهي الكلمة الدارجة وتحريف لكلمة عائلة – الى جميع الأفراد الرجال منهم ، والنساء الذين يحملون نفس اسم الأسرة ويرتبطون ببعضهم بعضاً برابطة الدم عن طريق التسلسل البنوي (اي عن طريق الأفراد الذكور). كما تعني كلمة “عيلة” بنفس الوقت “الأسرة الزوجية” أي المؤلفة من الرجل والمرأة والأولاد. ويتسع المعنى احياناً فيطلق على جميع الأفراد الذين يعيلهم الرجل فيقولون”صاحب عيلة” و “أبوعيلة” خاصة اذا كان عدد من يعيلهم كبيراً.
وكما يطلق على الأسرة لفظ “عيلة” فإنه يطلق عليها كذلك اسم “بيت” عند سكان المدن وسكان القرى، ويقصدون بذلك نفس المعنى الأول أي جميع الأفراد الذين يحملون اسم الأسرة من قديم، وجديد أي بعمقه التاريخي وتسلسله البعيد، فيقال مثلاً بيت زيتون/ أي عيلتنا/ اي أسرة زيتون. ويستخدم الفلاحون البعيدون عن المدن، والبدو المستقرون كلمة “حمولة” للدلالة على الأسرة الكبيرة أي جميع الأعضاء رجالاً أو نساء الذين يرتبطون مع بعضهم برابطة الدم البنوي والذين يدعون النسب الى جد واحد، كحمولة البدين مثلاً في حوران. ويسمى الفرع من الحمولة “فندة” في حوران ولدى البدو، ويضم مجموعة الأفراد من جيل واحد أو من عدة أجيال الذين يرجعون الى عضو معين من الحمولة، ويحملون كلهم اسم هذا العضو. ويتفرع من الفندة فندة اخرى وهكذا.
ويضاف الى أسماء الأسرة الواردة سابقاً كلمة “أهل” وهي تعني مجموعة من الأب وأولاده واحفاده العزاب والمتزوجين الذين يعيشون عادة في نفس المنزل. واما الإبن الذي يعيش تحت سقف أبيه مع زوجته واولاده فيسمى مجموعهم بالعيال. وكانت تستخدم هذه الكلمة على نطاق واسع في القرن 16م لورودها بكثرة في كتب مؤلفي ذلك العصر.
اما العشيرة فتضم عند البدو مجموعة أسرية أوسع من كل ماذكر، أي تحيط بجميع من توالد في نطاق التسلسل البنوي حتى الجيل العاشرأو بمعنى آخر تضم الأجيال المتولدة من خمسة أحفاد. وتضم العشيرة عدة حمايل أو حمولات وتعترف كلها بسلطة شيخ واحد. أما القبيلة فتضم عدة عشائر تعترف هي الأخرى بنفوذ شيخ واحد وتحمل اسم الجد الأول.
وفي جميع العائلات الشاميةساكنة المدن والقرى والبدو فإن تسلسل النسب يكون عن طريق الأفراد الكور في الأسرة، أي أن الطفل يدخل عند مولده في مجموعة ابيه، لا في مجمزعة امه، أو انه ملك لأسرة الآب حتى لو ترعرع في كنف اسرة ابيه. فالابن الوحيد هو الذي يضمن تسلسل الاسرة وامتدادها، ويحفظ اسمها، ولا يمكن نقل كنية الاسرة الا عن طريقه، لذا يلاحظ حرص الاسرة السورية على انجاب الذكور للحفاظ على اسم الاسرة وحمايتها من الاندثار، ويأتي اسم الأسرة دائماً بعد اسم الفرد ويبدأ عادة بال التعريف وينتهي غالباً بياء النسبة، ويلاحظ ان الأسر في بلاد الشام تنتسب اما الى مكان ( مدينة او قرية اوحارة…)كآل الحمصي والشامي والمصري، او الى اسر دينية كالخوري والحجي والشيخ…، اوالى طريقة صوفية كأسرة الكيلاني والمولوي او الرفاعي…او الى مهنة من المهن كالطحان والخباز والحداد والنجار…او الى صفة كالحلو مثلاً …
وقد لعب اسم الاسرة الموحد هذا دوراً كبيراً في زيادة الروابط بين افراد الاسرة فيتضافرون الى احياء جامعة العائلة ورسم شجرتها والتواصل بين كل مناطق الانتشار. كما ان ذلك ساعد على تكوين شخصية خاصة بهذه الاسرة وعادات شخصية مشتركة بين الجميع وتقاليد معينة تتبناها الاسرة ويعمل جميع افرادها على الحفاظ عليها. هذا عكس ماكان عليه الكثير من الأقوام الوافدة الى سورية كالتركمان مثلاً الذين يسمون بأسمائهم الخاصة مع اسماء ابيهم فقط، وبذلك يعدمون الصلة الجذرية التاريخية في بناء الأسرة.
للأسرة روابط دموية عن طريق الأب وعن طريق الأم والرابطتان في بلاد الشام حتى وقتنا الحاضرمتداخلتان للتزاوج بين الأهل. فالزواج في نطاق الاسرةهو المحبذ وبخاصة في الحقبة الماضية، فجميع الأفراد اذن هم ابناء عم الآخرين، والفتاة مثلاً في الأسرة ليست “عرضا” ( شرفا) لأبيها واخيهافقط وانما لجميع أفراد اسرتها من اخوال واعمام … وعليهم حمايتها والحفاظ عليها.
سكن الاسرة
كانت الاسرة كلها تسكن في بيت واحد، ومنه نجمت تسميتها بالبيت، وقد كان يصل العدد الى 70 فرداًن وكل ابن من الابناء كان يقيم مع زوجه واولاده في غرفة أو غرفتين وفق وساعة البيت، كما ان كبير الاسرة كان هو الآخر يقيم في غرفة او أكثر حسب عدد زوجاته ( حتى الاربع) ، فلكل زوجة غرفة، ولكل منها دورليلة في مبيت الرجل عندها. هذا عند المسلمين اما عند المسيحيين ففي غرفة واحدة لعدم وجود تعدد زوجات.
اما بقية الاولاد الذكور وكذلك الاناث غير المتزوجين فقد كانوا يقيمون في غرفة واحدة، وتضم الاسرة احيانا الجد والجدة والأخوات البنات والعمات.
ولم تكن الفكرة الانفصالية أو الفردية قد ظهرت في المجتمع الشامي بعد فقد جميع الافراد وعائلاتهم يأكلون على سفرة واحدة ويجهز الطعام في مطبخ واحد من قبل نساء البيت. وكانت كبيرة الأسرة ( الجدة أو الأم او العمة) هي من تدير المنزل، فتوزع العمل على نسائه بحيث يخص كل زوجة ابن او اخت عمل أو اسبوع بشكل دوري ، او عملاً معيناً بشكل دائم كالطبخ والغسيل والكوي والكنس والمسح والتعزيل والجلي ومسح الغبرة وشطف ارض الديار وترتيب بيت المونة…
هذا الى جانب اختصاص كل اسرة صغيرة بتنظيف جناحها الخاص. ويساعد نساء الاسرة في اعمال تدبير المنزل احيانا الخادمات والجواري والاماء ان وُجدن وغالباً لدي البيوتات الغنية او الارستقراطية.
وينفق على هذه الاسرة في العادة كبير الأسرة، وبخاصة اذا كان اولاده هم الذين يعملون له في الحقل او المتجر, فهم يقدمون عملهم ونتاجهم اليه وهو يقو بالانفاقن ويخصص لكل منهم “خرجية جيب” اي بعض المال لمصروفه الخاص.وقد كان الأب يتمتع باحترام كبير من جميع الافراد الأسرة، وكان له هيبته الخاصة وسلطتهز وكان جميع الأبناء حريصين على رضاه اذ أن أكبر خطيب يمكن ان يصيب الابن هو غضب الوالد عليه. وتماثل سلطةالأب سلطة الأم، فعلى جميع الأبناء المتزوجين وغير المتزوجين تقديم فروض الطاعة والولاء لأمهم بتقبيل يدها كل صباحن واطاعة أوامرها ونواهيها واخضاع زوجاتهم لها. فهي صاحبة الكلمة المسموعة في البيت اذا لم يكن لها حماة فيه وهي التي تأتمر وتدير وتنظم وتحل الخصومات بين زوجات اولادها. ولا ادل على تلك السلطة من بعض المظاهر المؤبدة التي تبدو في مطلع القرن 16م، عندما كانت
لاتسمح لابنها وزوجه ان يتخطيا عتبة الزوجية إلا بعد المرور من تحت ساقيها ( كما في مخطوط:” نسمات الاسحار في كرامات الأولياء الأخيار” للشيخ علوان وهي من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق من ص 268-279) وان سلطتها هذه مع سلطة الأب كانت تضمن للأسرة التماسك والبقاء، ولا ينازعها منازع في سيطرتها على الاسرة الا الحماة اذا كانت أكبر منها سناً. وفي هذه الحالة تحدث المنازعات والمشادات مضافة الى هنهنات زوجات الأبناء الآخرين.
واذا كان من العسير أن يضم البيت جميع أفراد الأسرة المترابطين دموياً فانهم في الواقع كانوا يسكنون حياً واحداً في بيوتات متقاربة. وكانت الرابطة العائلية الموحدة لاتقوم فقط وافراد الأسرة أحياء وانما الالتصاق الأسري كان يتسلسل الى مابعد الموت فكل العائلات المتوسطة والكبرى وحتى الصغرى أحياناً لها مدافنها وقبورها المتجاورة.
وعندما يتوفى كبير الأسرة فإن الابن الأكبر هو الذي يرث مكانته، ويمكن في هذه الحالة للأسرة ان يتفرق أفرادها كل في بيت خاص ، ويمكن أن يعيش الأخوة مع بعضهم بعضاً بخاصة اذا كانت الأم لاتزال على قيد الحياة.
أما العمل الاقتصادي ففي معظم الأحوال مشترك، ويعمل الجميع حسبما يعيَّنه الأب أو الأخ الكبير ثم يقدم ناتج العمل لرب الأسرة. وقد كان جميع الأخوة يعملون معاً في معظم الأحوال متعاونين متضامنين متحابين حتى ان الاعتقاد كان سائداً لدى السوريين أن الحياة الأسرية المشتركة هي مصدر بركة ورخاء. بل أنه في بعض
القرى أبقى ملك الاسرة مشاعاً حتى لايتمكن الأفراد من التصرف به وبيعه، والتفرق شذراً مذراً في كل مكان وادخال الغريب بينهم. وحتى يحفظ الأب للأسرة ملكها ويمنع تصرف الأبناء تصرفاً سيئاً بذاك الملك فإنه كان يلجأ أيضاً الى الوقف الأهلي أو الذري. فهو يوقف أمواله على أهله ويعينهم با”لحجة” أو”الوصية”، وعند انقطاع تسلسل الأسرة فإن تلك الأملاك توقف لهدف خيري، وبالطبع فإن الوقف لايُباع ولايُرهن ولا يُقسم، وفي الكثير من ارياف دمشق ومناطق اخرى في سورية وحماة بالذات كانوا يتخذون الوقف حجة لحرمان الفتاة من املاك ابيها، حتى لاتتوزع تركته على اصهار غرباء عن الاسرة هم ازواج البنات، وتفقد الأسرة جزءاً من املاكها الموحدة.
وقد كان لبعض الأسر في ذلك القرن تأثير كبير في المجتمع تستمده من عدد أفرادها أو غناها أو رابطتها النسبية بالرسول او بولي من الأولياء. وكان الحكام يحسبون حساباً للأشراف وكبيرهم اي لتلك العائلات ونفوذها.
والأسرة ترتكز في بائها وتكوينها على مؤسسة الزواج، والزواج بالنسبة للسوريين-مهما كان دينهم- من الأعمال المسرة جداً في الحياة أي أن حياة الأسرة عزيزة عليهم، ومن تمنياتهم لكل شاب ” ان شاء الله نفرح بك”. ومن النادر أن يبقى رجل دون زواج بعد العشرين أو الخامسة والعشرين من عمره، ولا سيما أنه كان ينخرط في سلك العمل ىفي سن مبكرة ربما تكون الخامسة عشرة. ولم تكن تقلقه تكاليف الحياة عند الزواج لأن الأب والأم كانا يتكفلان النواحي المادية في زواجه: فقد كان يقيم معهما في بيت الأسرة الكبير ويعمل الأب من طرفه على الانفاق على الاسرة الجديدة. ومن ثم فمنذ أن يبلغ الفتى السابعة عشر أو الثامنة عشر من عمره فان الاسرة كانت تبحث له عن زوجة. وفي معظم الأحوال يتزوج الفتى فتاة من فتيات الأسرة كانت من بنات عمومته وهن يفضلن عادة، او من بنات خؤولته. فالقرابة والأخلاق الطيبة والدين الصحيح كانت تأتي عند البحث عن زوجة، في المرتبة الأولى من الشروط المتوجب توافرها في الزوجة، أي قبل الجمال والمال. ومن أمثال الشعب في ذاك الزمن” خذ الأصيل ونام على الحصير” اي لايهم الفقر.
ويتراوح سن الفتاة المرشحة للزواج بين التاسعة والثامنة عشرة أي كثيراً ما كانوا يزوجون الفتاة قبل سن البلوغ.
ولكن يبدو ان الرجل أخذ يبحث في مطلع القرن الساس عشرالميلادي والبلاد بعامة تمر بفترة عصيبة اقتصادياً عن الفتاة الغنية الجميلة اي غدا يسأل “عن جمالها وجهازها، وهل معها قماش كثير وجهاز ثقيل.”
وقد كان زواج الفتاة بيد اهلها، وصحيح انه كان لها الحق شرعاً في ان ترفض الزواج من فرد معين، ولكن عرفاً كان بالمقابل لايحق لها ان تطلب الزواج من آخر، فالتعارف بين الفتاة والفتى قبل الزواج كان غير جائز، ويدل على سلةك شائن من قبل الفتاة ويعتبر عاراً على الأسرة ولو انتهى الى زواج.
وفي الحقيقة كان لايمكن ان تزوج فتاة في اسرة الى أي فرد آخر من أفراد الأسرة أو خارجها اذا كان ابن عمها يريدها ، حتى يقال في المثل الشعبي ” يخطفها من الجلوة”. ويعيب الفتاة من اسرة معينة ان تتزوج من فرد لايتكافأ مستواه الاجتماعي مع اسرتها، حتى أنه يقل ” اترك العسل في أكواره حتى تأتي أسعاره”، بينما الأمر هذا لايعيب الفتى او اسرته.
والرجل عند المسلمين هو الذي يقدم المهر لعروسه أو لوالديها ويسمى النقد او الصداق على عكس ماعليه الحال عند المسيحيين، وهو قسمان المعجل والمؤجل والمعجل هو مايقدمه مباشرة يوم عقد القران أو قبله، والمؤجل مايكتبه على نفسه، ويكون حقاً للزوجة يمكنها أن تطالبه به في كل وقت، ويكون لها إرثاً بعد وفاته اذا لم تنلها في حياته. وتختلف بالطبع كمية المهر بحسب المكان والظروف الاقتصادية والرتبة الاجتماعية للأسرتين ومدى قرابة الطرفين لبعضهما بعضاً، ويكون مالاً نقدياً أو مواشي أو ارضاً أو حبوباً، ومهر الفتاة العذراء أكبر من مهر الارملة او المطلقة ويسمى مهر الأخيرة نقيصة” ويعادل عادة نصف المهر العادي في حال العذراء.
زواج البديلة
يوجد في سورية زواج يدعى زواج “البديلة” وهو دارج في القرى بخاصة، ويعني زواج الفتى من فتاة مقابل زواج اخته من أخ فتاته، اي يجري تبادل في الأخوات، وفي هذه الحالة لايدفع الطرفان مهراً.
كيف يتم اختيار العروس؟
ويتم اختيارالزوجة من قبل ام الفتى واخواته، ويرسل الفتى او والده جماعة من الفقهاء أو أغنياء الحي للتوسط له في الزواج من الفتاة المختارة. ويحاول أن يظهر أمام اسرتها بالغنى وأن لقمته “طيبة” او انه غير بخيل فيمرر لحماً وطعاماً على رأس حمال ليقال هذا عشاء فلان. واذا تم الوفاق بين الطرفين وفصل المهر تقرأ الفاتحة من قبل جميع من دخل المفاوضة ايذاناً باتمام العمل، ثم يجري عقد النكاح، وبعض الأفراد يجرون عقد النكاح لدى القاضي مباشرة، وقد فرض العثمانيون رسوماً على تلك العقود، وبعض الأسر الأخرى تقيم احتفالاً تدعو اليه القاضي والأقرباء والأصدقاء ويكون ذلك في بيت العروس، حيث يقرؤون المولد النبوي ويجرون المراسم الضرورية من أخذ موافقة التى والفتاة ويوزعون الحلويات والسكاكر. وقد تفننت بعض الأسر في كتابة العقد فرفضت كتابته على الورق وانما على قطعة من الحرير طولها ذراع أو أكثر.
وكانت ترك مهلة عادة بين عقد القران وليلة الدخول ليتم فيها تجهيز الفتاة لأن ما أُخذ من مهر يعمل به على تأثيث منزل الزوجية، وكان عادة وفي المتوسط غرفة واحدة، واحياناً غرفتين في بيت الأسرة الكبير، كما تشتري الفتاة البسة لها. وكان الجهاز يضم مراتب ولحفاً ومخدات وصندوقاً خشبيا مصدفاً ومحفوراً وسجادة او بسطاً،، وفي القرى ادوات المطبخ النحاسية، وستائر وارتفاعات خشبية مزخرفة تستر بمراتب والمراتب بدورها تستر بأغطية حريرية او قطنية. ولم تكن الاسرة مستخدمة وانما كان في غرفة كل منزل مايسمى “يوك” وهو فجوة في الجدار بعمق ذراع تقريباً ويمتد على طول الحائط، وتضع فيه المرأة مراتبها ولحفها، وهي تفرشها ليلاً وتطويها نهاراً بحيث تبدو الغرفة دائماً بشكل مرتب ونظيف وتحمل المرأة في جهازها بعض الزادي من الصيني الثمين لتضعها في فجوات الجدار الأخرى التي تسمى الكتبية وجمعها كتابي، وتحمل العروس معها البسة معينة هدايا لزوجها ووالد زوجها واخوته المتزوجين اذا كانوا مقيمين معه في نفس المنزل.
نقل الجهاز
قبل ليلة العرس بأيام يحمل جهاز العروس الى بيت الزوج. ويذهب أهل محلة الزوج صغيرهم وكبيرهم ويصحبون معهم البغال لنقل الجهاز. ويمتنع عليهم أهل محلة العروس ويطلبون منهم رؤوساً عديدة من الغنم، فإذا أحضروها هيأ لهم اهل محلة الزوجة المآكل، وبعد انتهاء الوليمة يحمل الأثاث والمتاع وينتشر النساء والرجال في الطرقات رافعين الأصوات بالزلاغيط او الزغاريد بالفصحى.
حمام العروس
ويكون أهل العروس من النساء في هذه الفترة قد دعون الى حمام العرس جميع من ترغبن من النساء، وتحضر العروس هذا الحمام، وتأتي كل امرأة بأجمل ماعندها من الملابس الى الحمام العام الذي تستأجره الأسرة في ذلك اليوم، واذاكانت الأسرة من الأسر الكبيرة الغنية فإن عدد مدعواتها يكون كبيراً ومن ثم فإن يوم الحمام يمتد أياماً حتى السبعة.
وتُزين العروس وتجلى في القسم البراني من الحمام وتتنافس النساء في البسة الحمام، وتسمى عادة فوطة وهي من قماش حريري مقصب ومذهب، ويوزع عليهن الصابون، وتخصص مقاصير الحمام كل واحدة منها لجماعة متعارفة.
تمد في الحمام اسمطة الطعام وتنطلق الزغاريد وبعد الانتهاء من ذلك تلبس كل امرأة أجمل مالديها، ويتوجه الجميع الى بيت العروس حيث يحيون ليلة طرب بينما تعمل الماشطة على ” نقش الوشم على يدي العروس وأرجلها”.
ليلة الدخول ( الدخلة)
في الليلة الثانية، وهي ليلة الدخلة، يدعو أهل الزوج أصدقاءهم من غني ووجيه وأكابر العلماء والأعيان، ويولمون لهم وليمة فخمة، وبعد الانتهاء من الطعام يكلف الزوج أحد أصحابه للمناداة ب” الشاباش” (وهي كلمة فارسية للتعجب او الثناء مثل مرحى بالعربية). ويتقدم المدعوون ل” نقوط العريس” اي تقديم المال له كهدية، فإذا أعطى أحدهم( نقوطه) الى المنادي نادى “شاباش يافلان” والنساء في الداخل يستمعن الى قول المنادي ويرفعن اصواتهن بالزلاغيط اذا كان المنادى باسمه من وجوه القوم… أو دفع مبلغاً كبيراً من المال، وبالطبع تقع المفاخرة بين الأقران، ويرغب كل واحد ان يدفع أكثر من الآخر ليظهر أكثر غنى. وينادى المنادي كذلك” أخلف الله عليك يافلان”.
حمام العريس
وكما حدث عند النساء فإن الرجال يأخذون الزوج ويتوجهون به الى الحمام ومصطحبين معهم اخوانه الذين يشرفون على الباسه ملابسه، فكلما لبس قطعة هللوا و”الصلاة على النبي”، و”صلوا على محمد” ويضيفون كلمات لايفقه لها معنى مثل “نير وغدير” (وهي عند البعض ( نير، تحمل) اي أن الزواج نير فتحمله) و” ولشور” وهي اختصار لكلمات ( بيض الله وجهه أي وجه العريس أو وجه والده) وتسمى صرخات الفرح هذه بالشوباش أيضاً. ويخرج الجميع من الحمام بعراضة اي (جماعة ضاجة)، وتهليلات وتكبيرات وشوباش ويلعبون بالسيف والترس.
وتكون نساء المحلة قد اجتمعن في دار وفي معظم الأحوال دار اسرة الزوج، في الثياب والزينة والخضاب والتحلي بالذهب، وبين ايديهن الشموع موقدة والوجوه بادية والزينة ظاهرة لا حجاب ولا جلباب وتكون العروس قد أُحضرت من قبل بعض أفراد العريس الى منزل الزوجية، وعادة تقوم بعملية الاحضار هذه خالة العريس وعمته، أما والدته فحفظاً لمقامها ومركزها تبقى في البيت وتستقبلها حين وصولها.
“ويدخل الزوج للجلا فتتلقاه النساء بالشموع والزغردة وهن سافرات عن وجوههن وتأخذ بيده اثنتان من أقاربه واحدة عن يمينه واخرى عن شماله ويدخل معه ابوه واخوه أحياناً، ويجلس على مكان رفيع مخصص له، وتتقدم كل امرأة مدعوة من أهل العريس اليه وتلصق الدراهم بين عينيه.”
وبعد برهة تخرج العروس هي وماشطتها وقد زججت حواجبها وحمرت وجهها وخضبت أصابعها ووضعت على رأس الشربوس وعند وصولها الى الزوج فإنه يقوم لها ويكشف عن وجهها مايسمى ( الجلاية) وتدور أمامه وكلما دارت دورة لصق الزوج ومن معه من ابيه واخوته الدراهم في جبهتها وعلى خديها، وعند دخول الزوج غرفته الخاصة مع عروسه فان أم الزوج تجبر الطرفين على الانحناء والمرور من تحت رجليها. وبالطبع تتبارى الأسر في إحياء هذه الليلة من طعام مقدم ورقص وغناء.
تعدد الزوجات
يلاحظ ان تعدد الزوجات كان قائماً في الأرياف أكثر منه في المدن، لحاجة الزوج الى الذرية من الأولاد الذكور بخاصة، ولتساعده نساؤه في أعمال الحقل. وقد درج على لسان العامة أن الرجل يكتفي بزوجة واحدة طالما هو فقير الحال أو متوسطه ولكن “عندما يشم ريحة انفه” اي عندما يغتني فإنه يبحث عن زوجة اخرى. وفي هذه الحال يلاحظ ان الزواج مع فارق السن الكبير بين المرأة والرجل قائم: إذ أنه يتزوج فتاة صغيرة رغم أنه يكون قد تجاوز الخمسين من عمره، كما تلاحظ نفس الحال في الأرمل من الرجال، أو المطلق. ونساء الزوج يقمن في معظم الأحيان في بيت واحد معه كل في غرفة خاصة بها، ويتنادين بلقب ( اختي)، وبالطبع لا تنتهي بينهن المشادات .
دور المرأة في الاسرة
والمرأة في بلاد الشام تقوم بجميع أعمال المنزل، مهما ارتفع مستوى الاسرة الاجتماعي، فهي تشغل وقتها بترتيب المنزل والطبخ والخياطة والتطريز. أما اعتمادها على الإماء فقليل جداً بالنسبة لبلدان عربية أخرى كالحجاز والعراق مع العلم أن حلب كانت سوقا من أسواق الرقيق.
تعليم النساء
ولم تكن هناك دور علم مخصصة للفتيات والنساء بعامة، وانما هناك بعض الكتاتيب الصغيرة التي يتعلمن فيها من سن السابعة الى سن التاسعة احيانا القرآن ، كما ان الفتيات من الاسر المتعلمة تأخذن الحديث والفقه من أبيهن وإخوتهن، وقد تميزت بعض الشخصيات العلمية منهن في هذه الحقبة.
وضعها اجتماعياً
والفتاة تضع الحجاب على رأسها ووجهها منذ التاسعة من عمرها، إن لم يكن قبلاً، ويصبح خروجها من المنزل في تلك السن مكروهاً، ولكن لابأس من العمل كمتمرنة على الخياطة في منزل الجارة، إذا كانت هذه الأخيرة تعمل بهذه المهنة.
وكانت الفتاة تعيش في بيت أبويها تنتظر الزوج المرتقب، واذا تجاوزت العشرين ولم تتزوج تعتبر ان الركب قد فاتها ويُنظر اليها نظرة شفقة لأنها لم تجد زوجاً ملائماً يتقدم اليها، واذا لم تتزوج فإنها تساعد الأم في أعمال المنزلن وتنصرف الى الخياطة والتطريز.
واذا كانت المرأة في المدن تقوم بأعمال المنزل فقط فإنها في الريف كانت تساعد رجلها في العمل الخارجي، ولا تضع الحجاب الا على رأسها. فهي الى جانبه في الحقل وتطحن له القمح وتنقل الماء من النبع الى البيت وتجمع الحطب وتساعده في الحصاد، وتغزل الصوف والقطن.
في ذاك الوقت كانت المرأة تؤمن بان الرجل هو صاحب المقام الأول في المنزل، فهو رب الأسرة وهو الذي يعيلها اقتصادياً ويتعب ويشقى لأجلها، ولذا فانها كانت تكن له احتراماً عميقاً وتطيعه طاعة عمياء، وكثيراً ماكانت تقبل يده بكرة وعشية عند خروجه الى عمله صباحاً وعودته مساء. ولما كانت مدة عمله تطول حتى المساء، فمعنى ذلك ان وجبة الطعام الاساسية هي العشاء، فتجهز الطعام لهذه الفترة، وكانت تسعى لإطعام الاولاد وإضجاعهم في مضاجعهم قبل مجيء زوجها، ليأكل بهدوء بدون الاستماع لصياح الأولاد وشغبهم. فالأولاد لايشاركون اباهم الطعام إلا بعد بلوغهم العاشرة، ولم تكن هي تشاركه الطعام الا نادراً لأن عليها ان تقوم بخدمته أثناء الطعام، ولا تبدأ بالكلام اذا لم يبدأه هو.
وكان الرجل يعامل زوجته ببرودة وتحفظ حتى يحفظ هيبته، وفي مدن سورية كحماة يعد لطفه لامرأته ضعفاً منه، لذا فانه كان يظهر أمام زوجه واولاده قاسياً طاغياً.
أفراح واعياد الاسرة
كانت الاسرة تحتفل بميلاد الطفل الأول عادة احتفالاً كبيراً قياساً على بقية الاولاد، الا اذا تأخر ميلاد الولد الذكر فإنه يُحتفل في هذه الحالة ولو كان العاشر بالتعداد احتفالاً ضخماً.
كما يُحتفل كذلك في نطاق الأسرة بختان الاولاد الذكور، ولا تحتتن البنات كما في مصر، كما يُحتفل بختمهم للقرآن، وبالأعراس والعودة من الحجن ومن السفر البعيد. وفي تلك الاعياد الخاصة كان يحتفل بالطبل والزمر، وتوليم الولائم وتوزيع الحلويات ودعوة الأهل والأحباء ولبس الملابس الفاخرة.هذا فيما يخص الاسرة واحتفالاتها باعيادها، أما الأعياد العامة، وكانت الأسرة بالطبع كخلية اجتماعية اولى تحتفل هي الأخرى بها فهي لدى المسلمين عيدي الفطر وعيد الأضحى…يقابلها لدى المسيحيين عيدي الميلاد والفصح حيث تقتصر الاحتفالات الزياح مابين جدران الكنائس نظراً للواقع الاجتماعي، وتقدم الاسر المسيحية المعايدة للبطريرك اومطران الابرشية في الكاتدرائية وتقوم الاسرة كلها برئاسة كبيرها وكبيرتها بالصلاة في الكنيسة ثم يجتمع اهل الاسرة والاقرباء على مائدة كبير الأسرة ويرتدون افخر البستهم، وفي اسبع تحضيرات العيد تقوم سيدات كل اسرة اضافة الى تعزيل البيوت باعداد حلويات العيد وطعام العيد ثم تقوم بزيارة بعضها ورد الزيارات بالمعايدة مساء بعد ان يقوم رجال كل عائلة بزيارة كل بيوت العائلة في صباحات ايام العيد، على ان يعقبها مساء زيارة العائلات وتستمر المعايدات لفترة طويلة نسبياً. وفي عيد الغطاس يقوم الكاهن بزيارة بيوت الرعية ورشها بالماء المقدس لتستمر البركة في البيت، ويسبق الصوم الكبير المقدس وعيد العنصرة زيارة عامة للقبور ويكون الكهنة في المدافن يؤدون الصلوات لراحة نفوس المؤمنين ويُشعل المؤمنون الشموع ويحرقون البخور على القبور. وبعض الطوائف المسيحية كالأرمن يزورون القبور صباح العيد بعد العودة من صلاة العيد في الكنيسة. ويقدم الموسرون التبرعات للفقراء عن طريق جمعية الكنيسة الخيرية.
اما اسلامياً فكانت الدولة تحتفل بالعياد احتفالات رسمية حيث ينزل الوالي للصلاة في العيد في الجامع الاموي ومعه اركان الدولة من الولاية والجيش اضافة الى كبار المشايخ يتقدمهم مفتي دمشق والوجهاء وذلك بموكب فخم ويعود الى بيته او السرايا بنفس الموكب ليتقبل تهاني المهنئين وتنحر الذبائح ولاسيما في عيد الأضحى وتولم الولائم لطبقة العلماء بالذات وكبار الأعيان وينقطع الأفراد عن العمل وتغلق المصالح كافة ايام عطلة العيد. وكذلك تلتقي العائلة كلها ظهراً في غداء العيد في البيت الكبير للاسرة، ان كان قد خرج البعض منه.
اما في عيد المولد النبوي فتكتسي المدن بالزينات والفوانيس المضاءة وتنشر السجاجيد في الطرقات امام المحال التجاري، وتستخدم أغصان الاشجار في زينة البيوت والاسواق وتُقرأ قصة المولد النبوي في المساجد والبيوت الكبيرة وتوزع السكاكر وتعقد حلقات الذكر في زوايا المتصوفة.
اضافة الى مواسم دينية أخرى كان ولايزال المجتمع السوري يحتفل بهافي 27 رجب و15 شعبان والأول من رمضان والسابع والعشرين منه.
وتقوم الفرق الصوفية في القرى والمدن بزيارة مزارات اوليائها وخاصة في ميلاد الولي او وفاته كخميس المشايخ في حمص ومثله في حماة واسبوع برزة حيث يسود الاعتقاد اسلامياً ان ابراهيم مدفون فيها، ومواسم مماثلة في قطنا والزبداني ومعرة النعمان وتخرج هذه القرى في تلك المواسم بملابسها الخاصة حاملة الرايات وعلى رأسها شيخها الذي يُظهر كراماته في هذه المناسبة: فالرفاعية تعمل على ادخال الشيش في أجسام اتباعها في أصداغهم وبطونهم دون أن يصاب احدهم بأذى، والجباوية كذلك تستخدم الدوسة وذلك بأن ينبطح رجال هذه الطريقة ارضاً على وجوههم ثم يمر شيخ الطريقة فوقهم ممتطياً جواده فيدوسهم واحداً بعد الآخر دون ان يصيب اياهم بأذى. وفي برزة يحاول الشيخ أن يدخل بفرسه من باب ضيق هناك ويدقون الطبول وتسمى طبول النوبة ويزورون الولي ومعه كل الشعب في القرية.
وفي مناطق من الريف السوري يحتفل المسيحيون بعيد الميلاد ويسمونه الليلة الحلوة كما يحتفلون بقدوم الربيع في 4 نيسان شرقي وتسمى احتفالات الرابع، وقد تستمر هذه الاحتفالات ثلاثة ايام بين رقص وغناء ، ويحتفل كل المسيحيين في دائرة بلاد الشام بعيد مولد السيدة العذراء فيحجون من كل المناطق في سورية ولبنان والاردن وفلسطين الى ديرها في صيدنايا لذا يُدعى هذا العيد بعيد الحج، وياتي في الأهمية بعد الحج الى القبر المقدس وكنيسة القيامة في فترة الآلام والفصح وينطلقون اليه بقوافل ضخمة من قبل ثلاثة اشهر حيث يحلون ضيوفاً في الدير ويحتلون منحدرات قمته ويستأجرون بيوتاً في البلدة ويعد هذا العيد من ابهج الأعياد يترافق بالعراضات والهرج والمرج والطبل والغناء والرقص واطلاق الأعيرة النارية،اضافة الى التقيد بالمراسم الروحية حيث يتم زياح ايقونة العذراء التي رسمها القديس لوقا الانجيلي للعذراء وعلى يدها الطفل يسوع والمحفوظة في غرفة الشاغورة اي في مقام الدير…وثمة احتفالين مشابهين في العظمة في دير القديس جاورجيوس الحميراء في وادي النصارى بعيد القديس جاورجيوس وعيد الصليب وتقام اسواق العرضي وتبادل المنتجات الزراعية والصناعية وفي عيد الصليب كذلك تشتهر معلولا برمتها وتشتهر بعيد القديسة تقلا في ديرها البطريركي وعيد القديسين سرجيوس وباخوس، في دير مارسركيس وعيد مار الياس في دير مار الياس في معرة صيدنايا وعيد القديس جاورجيوس في دير القديس جاورجيوس البطريركي بصيدنايا وعيد مار الياس في دير النبي الياس شويا البطريركي في ضهور الشوير بجبل لبنان…الخ
ويحتفل العلويون بأعياد البربارة ورأس السنة تحت اسم الميلاد.
اما اليهود فكانوا يحتفلون بعيد لفصح اليهودي وهو تذكار خروجهم من مصر على يد موسى النبي.
عيد الحج في دمشق
هو موسم كبير تحتفل به دمشق بالذات احتفالاً كبيراً ورائعاً، وقد ازداد
احتفالها به في العهد العثماني لأن حجيجها لم يعد يضم حجيج الشام فحسب بل الحجيج الوافد اليها من كل المناطق في الاناضول وفارس والعراق.
ان ماكتبه البديري الحلاق في القرن الثامن عشر يعطي فكرة واضحة عن هذا الموسم والاحتفالات المرافقة التي تجري فيه، ويظهر اهتمام العثمانيين بهذه الناحية، وهي تسيير قافلة الحج الشامية واستقبالها، ونشير الى ان السلطان سليم الاول وبمجرد ما استلم منصبه طلب تسيير الحج والمحمل من دمشق والعناية بهما وصار والي دمشق هو امير الحج واي شرف يعطى لوالي دمشق في ذلك.
ان موسم الحج كان موسم تجارة أو موسم خير وبركة لمدينة دمشق، إذ اعتاد الحجاج من بلاد فارس وتركستان والاناضول ومن مدن سورية كلها ان يحملوا معهم منتجات بلادهم لبيعها في دمشق والاستعانة بثمنها على اداء نفقات الحج. وهكذا كانت خانات دمشق واسواقها تعج بالناس والبضائع والإبل ودواب الحمل. وكانت دمشق تتهيأ لهذا الموسم من كل عام فتعمل الدولة على تشديد الرقابة على الأمن والأسعار، وتعد قافلتي الحج والمحمل الشريف والقوة العسكرية التي ستصحبهما للدفاع عنهما ضد اي عدوان من البدو في الطريق، وكما تكشف عن الآبار ومراحل الطريق وتشدد حراستها، وتقدم الهدايا للبدو حتى لايغيروا على القافلة. وقد كانت الدولة تتحمل نفقات الاستعدادات هذه، وتعهد بامارة الحج لواحد من كبار العسكريين في دمشق أو من زعماء العشائر العربية في فلسطين. ويهيأ هذا الأمير للخروج بالحج قبل حلول الموسم بثلاثة أشهر، ويقوم اولاً بالدورة اي بزيارة المناطق الجنوبية من دمشق لجمع المال اللازم لاعداد القافلة والمحمل، ولبث هيبة الدولة في تلك الجهات التي ستمر بالقرب منها قافلة الحج والمحمل في طريقهما الى الحجاز.
في الاسبوع الأخير من شعبان يبدأ الحجاج بالوفود الى دمشق، وفي منتصف رمضان يصل موكب ” الصرة أميني” او امين الصرة وهي المال الذي اعتادت الدولة ان ترسله من عهد السلطان سليم لأشراف الحجاز.
عندما يحل عيد الفطر تكون الترتيبات النهائية لاعداد قافلة الحج وركب المحمل على وشك الانتهاء، وفي منتصف شوال تقريباً يخرج أمير الحج من السرايا قرب القلعة على رأس ركب المحمل يحف به مختلف العسكريين بألبستهم الرسمية ويتخذ طريق الميدان مجتازا باب المصلى ثم الميدان الفوقاني الى بوابة الله، الى القبيبات، الى الجنوب. والمحمل أشبه مايكون بالهودج، مغطى بمخمل اخضر مطرز بخيوط ذهبية صفراء، ويحمل المحمل جمل جميل الشكل لايستخدم لأي عمل سوى للحج.
ويسبق خروج المحمل احتفالات شعبية كبيرة اذ يخرجون اولاً بالشموع الضخمة المخصصة للأماكن المقدسة في الحجاز، ثم يخرجون بالسنجق واخيراً المحمل ويمضي الركب في طريقه الى الحجاز، ويظهر ان الحجيد كان يلاقي احياناً الأهوال من هجوم البدو عليه، الى مشقة السفر من عتب وعطش وجوع.
بعد ان ينتهي الحجاج من القيام بشعائر الحج فإنهم يغادرون مكة الى المدينة ثم الى دمشق فيصلونها في أوائل شهر صفر، وياتي البشير بسلامة الحجيج، ويخرج الوالي لاستقباله وكذلك القاضي بعمامة خضراء، وكان يطلع في هذا اليوم اغلبية اهل دمشق، وكان الموكب عظيماً يتزين فيه العسكر بالزينة العظيمة. اما الوزير فيلبس اللباس الأبيض الأطلس بالفروة السمور والكل بالرماح والأتراس المرصعة.
وتكون دمشق قد استعدت لاستقبال حجيجها باقامة الزينات وحمد الله وبالطبول والزمور لعودته سالماً.
المجتمع السوري من خلال الاسرة الشامية والاعياد والمواسم التي ذكرنا كان محتفظاً بطابعه العربي الأصيل، وبتقاليده التي اكتسبها في العصور الاسلامية السابقة ولو انه دخلت في حناياه بعض العادات الاجتماعية الجديدة التي لاتنسجم مع تركيبه الأول المحافظ وقد حاربها بكل قواه ونجح في حصر نطاق بعضها ومنع تغلغل وتفشي بعضها الآخر ولو كانت الطوائف مسيحية فالمسيحي الدمشقي او حتى الريفي اقرب الى جاره المسلم الدمشقي من الكاثوليكي الفرنسي او البروتستانتي الانكليزي.
البدع
من البدع تعاطي المخدرات ، ومنها بالذات مايسمى (البرش) وه تركيب مخدر كالأفيون وكان يتعاطاه كثيرون ومنهم مشايخ، وكذلك الخمور فقد سُمح للنصارى ان يتاجروا بالخمرة على الايبيعوها للمسلمين ويبدو ان هذا الأمر أقلق المسلمين المتمسكين الذين أخذوا يشنون حملة على فكرة اراقة الخمور والمتاجرة بها ومنهم المدعو مبارك عبد الله الحبشي وهو أحد المتمسكين بالاسلام وكان شيخاً، فقام على الأتراك وقاموا عليه. واندفع في حربه ضدهم حتى انه قام وجماعته يرصدون الطرق على ناقلي الخمر فيقطعون ظروفها ويريقونها على الارض. وقد قبض الأتراك على الشيخ مبارك وصحبه وسجنوهم الا أن مؤيديه كانوا أقوياء الى حد أنهم كسروا السجن وأفرجوا عن شيخهم وأعوانه.
شرب القهوة
اما البدعة الأخيرة التي لم يتمكن المجتمع السوري من ردها فهي عادة شرب القهوة التي لم تكن معروفة في هذه البقاع قبل القرن 16 م و10ه، ولم تنتشر قبل الحكم العثماني.
وفي الحقيقة ان أول ما اشير الى القهوة كان في كتابات القرن 16م. فقد دخلت الى القاهرة من اليمن، وكان استخدامها في تلك البلاد شائعاً وبخاصة في دوائر الصوفية، لأنها تحافظ على صفاء الذهن الضوري للتعبد والتسبيح والتأمل في الليل.
وقد عُرفت في القاهرة مطلع القرن 16 م وكانت قد عُرفت في مكة قبل ذلك حتى انه صدر قرار من القضاة فيها بأمر من سلطان المماليك قانصوه الغوري في عام 1511م.
وعندما شُربت علناً أعلن أنها ممنوعة في عام 939ه= 1533م بل أنه بعد سنتين قام بعض الناس بتوجيه من المشايخ وبعض العلماء بالهجوم على المقاهي وخربوها. ولقد ادت علاقات بلاد الشام مع الحجاز والقاهرة الى جلب القهوة الى سورية وتركيا وفارس، ويذكر انها اول مرة شربت فيها في عام 941 ه، وأثار ظهورها النقاش والجدل. فهل تحلل او تحرم؟ وهاجمها الكثير من العلماء حتى ان بيوتها قامت في معظم المدن السورية ومنها حلب، وتجاوزت الحدود الشامية الى القسطنطينية بواسطة افراد من دمشق وحلب، وقد جذبت الأماكن التي تصنع بها الأدباء لأول وهلة فارتادوها ومن ثم أخذوا يطلقون عليها تسمية بيوت المعرفة، وكانت للهزء والسخرية، بينما اسماها الشوام ( الخمارة)، وفي عام 953 ه ورد امر سليمان بابطالها في بلاد الشام، ولكن الناس بقوا يتعاطونها سراً، وتراخى تطبيق الأمر مع الزمن فثبتت كعادة منتشرة في معظم الاوساط الشعبية، لكن لايفهم من هذا ان المجتمع السوري قد خرج عن تحفظه الاجتماعي أوتحلل من قيوده الخلقية، بل بقي محافظاً على قوالبه السابقة تسنده طبقة العلماء. وبقي بتماسكه ومحافظته قوة تخشاها الحكومة العثمانية، رغم أنها لم تسمح لأفراده في بادىء الأمر المسلمين والمسيحيين على السواء بالخدمة في الجيش. وكان من حقها أن تخاف لأنه كانت هناك فرق يمكن جمعها بسهولة في منطقة لبنان والمناطق الجبلية الأخرى واستخدامها ضد السلطة العثمانية، اذا ماحاولت ان تخرج عن سطحية حكمها في هذه البقاع وتتوغل في داخليته، كما حدث في عهد الأمير قرقماز المعني وابنه من بعده الأمير فخر الدين المعني الثاني.
الخاتمة
يتبين لنا من خلال بحثنا عن الاسرة الشامية في القرن 16 ان العثمانيين المستعمرين لبلاد الشام لم يتدخلوا في التركيبة الاجتماعية للمجتمع السوري آنذاك بل تركوه يعيش حياته كما كان يفعل سابقاً: جماعات شتى غير مغلقة على نفسها، تربطها حضارة عربية واحدة تمثلتها طيلة قرون عدة حتى تثبتت في اعماق ذاتها، ولم تكن باستطاعة اية قوة مهما بلغت من العسف والقسوة والعنف ان تفتت ذاك الرباط، أو تغير أوضاع ذاك المجتمع آنذاك، وقد كانت الحكومة العثمانية حكومة حربية مادية لايهمها من مجتمع امبراطوريتها مستوى رفيعاً أو قيماً خلقية سامية، أو دخلاً فردياً محترماً كما تهدف الى ذلك اية حكومة صالحة لشعبها، انما خزينة مليئة تصرف منها على الحروب وعلى موظفيها وعلى سلاطينها، فهي قد أحلت المستويات المالية محل المعنوية والخلقية، فالحاكم الصالح في الدولة العثمانية ليس ذاك الذي يهتم بسكان مقاطعته وينسجم مع مطالبهم وحاجاتهم، ويتفقد رغباتهم ويحققها، وانما ذاك الذي يقدم بسرعة الكميات المطلوبة منه. لذا كان من الطبيعي جداً ان لايترك المستعمرون العثمانيون اثراً يغير من انماط حياة المجتمع السوري. واذاكان هذا المجتمع قد حافظ على ركوده السابق وعاش ضعيف الحيوية في مطلع الاحتلال العثماني فان هذا لايعني انه كان لا يشعر بذاته. وما الانتفاضات الفردية المحلية التي كانت تنبعث بين آونة وأخرى وبخاصة في الجزء الغربي منه كلبنان مثلا الذي كان يُدار من امرائه ومقدميه، الا دليلاً على قواه الحياتية التي لاتزال تنبض، وان ابن هذه المنطقة بات يحس بوجوده المنفصل، وانه ارفع من ابن الشام والشام تحديداً التي كانت عاصمة بلاد الشام، وانعكاس ذلك على نفسيته وتعاليه وحتى الآن على كل ماهو في داخل سورية ، لأن وضع لبنان الاجتماعي ونقصد هنا سكان بيروت تحديداً ومن ثم جبل لبنان وبقية المدن الساحلية بالطبع كان ومستواه الفكري والثقافي افضل من داخل سورية لارتباطه بالوضع الاقتصادي اولاً ولانفتاح الساحل على العالم الغربي ثانياً، ولوجود جاليات اجنبية اكثر عدداً في ربوعه، فالاحتكاك مع الغرب كان اوسع مدى في المناطق الغربية والشمالية من سورية مماكان عليه في جنوبها وشرقها.
مصادر البحث
الصباغ، ليلى:” المجتمع العربي السوري في مطلع العهد العثماني…
رستم ، اسد:” تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى…
البديري الحلاق: “حوادث دمشق اليومية، حققه د. احمد عزة عبد الكريم…
بريك، ميخائيل: ” تاريخ الشام ( 1720-1883)…
زيدان، جرجي: ” تاريخ آداب اللغة العربية 4 أجزاء …
كرد علي، محمد: ” خطط الشام 6 أجزاء، وغوطة دمشق…