الفصح
كلمة “فصح” أو “الفصح” بحد ذاتها، هي كلمة مشتقة من الأصل الآرامي، “فَسحا”، و”فيساح” بالعبرانية، وتعني “عبور” بحسب “قاموس الكتاب المقدس” و”معجم اللاهوت الكتابي”.
في الواقع، الفصح والفطير عيدان مختلفان في الأصل. فالفطير عيد ريفي لم يُحتفل به إلاّ في أرض كنعان، ولم يُضمّ الى عيد الفصح إلاّ بعد الاصلاح الذي قام به يوشيّا (640-609). أمّا الفصح، وهو سابق لإسرائيل، فهو عيد سنوي يَحتفل به رعاة بدو في سبيل خير ماشيتهم. فعند العرب القدماء واليوم عند بعض البدو في فلسطين، لا نزال نجد أهم أحكام ذبيحة الفصح الإسرائيلي، كوضع الدم وشَيّ الضحية والأعشاب المُرّة، الخ.
وفي مطلع الرواية القديمة (خر21:12) يُذكر الفصح دون أيّ شرح، وهذا يفترض أنه كان معروفاً، فهو على الأرجح “عيد الربّ” الذي طلب موسى من فرعون أن يأذن في الإحتفال به (راجع خر 5/1+). وبناء على ذلك، فالرابط بين الفصح والضربة العاشرة والخروج من مصر ما هو إلاّ رابط عَرَضيّ، أي أن هذا “الخروج” حدث في وقت “العيد”. ولكن في هذا الإتفاق الزمني ما يبرّر إضافات تثنية الاشتراع) (خر 12: 5-11و 15-27، لا 23: 5-8) لأن ترى في عيد الفصح (والفطير) تذكار الخروج من مصر (تث16/1-8).
مهّد الفصح اليهودي للفصح المسيحي. فالمسيح، حملُ الله، يُذبح (الصليب) ويؤكل (العشاء السرّي) في إطار الفصح اليهودي (أسبوع الآلام). وهو يؤمّن الخلاص للعالم. ويصبح “التجديد السرّي” لعمل الفداء هذا، مركز الليترجية المسيحية، وهي تُنظَّم حول القداس بصفته ذبيحةً ومائدةً.
الكل تكلّم عن ايمان ابراهيم، إنما لم يتكلّم الكل عن طاعة اسحق الذي أسلم نفسه لإيمان أبيه ليقدّم ذبيحة طاعة فافتداه الله بحَمَل لكي “بحَمَله هو” تتم مشيئة الذي أراد الخلاص لكل من آمن بمن دخل أورشليم ليعلّم وليأكل الفصح ويصبح فصح كل البشر، به فقط يعبرون الى ملكوت الله، اذ بيسوع المسيح وقيامته تمّ الفصح الحقيقي المرموز اليه في خلاص وعبور إسرائيل للبحر والصحراء ودخولهم أرض الميعاد. وكما يقول بولس الرسول : “فحَمَلُ فصحنا ذُبح، وهو المسيح. فلنعيّد إذن…” (1كور5: 7/8). هكذا حلّ فصح المسيح محلّ الفصح اليهودي. فالمسيح يَعبُر بنا الى مجد الآب، الى أرض الميعاد الجديدة.
منذ دعى حزقيا كل اسرائيل ويهوذا ان يأتوا الى بيت الربّ في أورشليم ليقيموا الفصح للربّ وأقاموا حينها الفصح على خلاف ما كتب (دون أن يتطهروا 2 أخ30: 18/20) وأقاموه في الشهر الثاني لأنهم لم يقدروا على إقامته في وقته أي في تاريخه المألوف في الشهر الأول (2أخ30: 1/3) وحتى عصر المسيح، كان الفصح اليهودي يجمع في أورشليم أهلَ شريعة موسى لذبح الفصح وأكله. وكان الفصح يحيي ذكرى الخروج الذي حرّر العبرانيين من العبودية في مصر. أما اليوم، ففي كلّ الأمكنة يجمع الفصح مؤمني المسيح “في شركة” مع ربّهم، حَمَلِ
الله الحقيقي. والفصح هذا، يُشرك مع المسيح في موته وقيامته المؤمنينَ الذين حرّرهم من الخطيئة والموت، فالمسيح ختَمَ عهد ذبيحته الجديد في “إطار” فصحي (متى26: 2-يو13: 1).
قديما”، كان البدو يحتفلون بعيد الفصح مقدّمين فيه الى الآلهة بواكير مواشيهم. وكان عيد الفطير لدى الكنعانيين عيدا زراعيا فيه يقدّمون بواكير مواسمهم، وصولا الى احتفال اليهود بعيد الفصح العظيم في أورشليم حيث كانوا يأتون من جميع جهات العالم الروماني طيلة الأسبوع للاحتفال بذكرى الخروج من مصر (خر13)، اذ أصبح يطلق على الأسبوع كلّه “الفصح”، لأنه كان يعقب عيد الفصح مباشرة. ولقد كان مفروضا” على كلِّ ذَكَرٍ أتمّ سن الثانية عشرة، حسب ناموس الله، أن يذهب الى أورشليم في كل عام في كل عيد من الأعياد الثلاثة الكبرى. والفصح هو أهمّ الأعياد السنوية، وفيه يذهبون الى المدينة للاحتفال بذكرى الليلة التي فيها تحرّر بنو إسرائيل من يد فرعون (خر12)، ويسوع نفسُه أتمّ هذه الفريضة (لو2: 41/43).
وقد “رحلوا من رعمسيس في الشهر الأول في اليوم الخامس عشر منه، في غد الفصح” (عدد33: 3).
رحلوا بعد أن أكلوا الفصح على عجل وهم في لباس السفر (خر12: 11) فالله ليلا” قد أخرجهم من مصر “لأنه في شهر أبيب أخرجك إلهك من مصر ليلا “(تث16: 1). هذه المعالم المميّزة التي تضفي طابع الرحّل على أهل البيت، تعطي فكرة عن أن للفصح أصلاً قديماً جداً : لعلّه كان هو الذبيحة التي طلب بنو اسرائيل من فرعون أن يذهبوا لتقديمها في البريّة (خر5: 1/3). فهو بذلك يرجع الى ما قبل موسى وقبل الارتحال من مصر. لكن الخروج هو الذي أعطاه مغزاه النهائي. وهنا لا بد من الاشارة الى ان اصل كلمة فصح غير معروف. لكن الترجمة اللاتينية الشائعة أضافت “إنه العبور”. إنّما ليس في “العبرية” ما يؤيد ذلك.
لكن بما أن الفصح يتطابق مع أمر خلاص بني إسرائيل نفسه، فيصبح تذكارا” للخروج ومن ثم سيكون هذا هو معنى الفصح والمعنى الجديد لإسمه. لكنّ معنى العيد الحقيقي بالذات المهيأ له في مشروع الله الخلاصي، ينبئ عنه اشعيا، ويرمز، مع حَمَل الفصح، الى المخلّص الآتي :
” ولم يفتح فاه كحمل سيق الى الذبح، كنعجة صامتة أمام الذين يجزونها، ولم يفتح فاه”…(اش53: 7).
هذا هو صاحب الفصح الإلهي الذي ظلّ اليهود يتطلّعون الى مجيئه في كل ليلة فصحية، وغالبيتهم يتخيلون *المسيا* في صورة بطل محارب، وهذا ما حرّك خطرَ بعثِ فكرةٍ وطنية ودعا السلطات أثناء الاحتلال الروماني، أن تحرص على حفظ النظام في أيام الاحتفالات الفصحية.
في البداية اشترك يسوع في الفصح اليهودي وحوّله الى فصح الابن الوحيد، فصح الهيكل الجديد حيث يطهّر يسوع القدس المؤقت ويعلن عن المقدس النهائي، أي جسده القائم من بين الأموات (يو2: 13/23) ، فصح الحمل الجديد، حيث يحلّ يسوع محل التقدمة الفصحية، ويؤسّس وليمة الفصح الجديدة، ويتمّم خروجه الجديد، أي عبوره من هذا العالم الخاطئ الى ملكوت الآب (يو13: 1). وكونه هو وجبة فصح جديد، يقيم يسوع سِرَّ الافخارستيا على البركات الطقسية مضفاة على الخبز والخمر. فدمه الممنوح مشربا محيياً قضى على تقليد دم المحرقات المسفوك وعلى عقيدة تحريم تناول الدَّم لأن “كل شيء في المسيح قد جُدّد”.
* “الفطير” هو اليوم الذي يلي الفصح، ويدوم كما سبق وأشرنا أسبوعا :
“في الشهر الأول في اليوم الرابع عشر منه، بين الغروبين (العِشاءَين)، فصح للربّ. وفي اليوم الخامس عشر من هذا الشهر عيد الفطير للرّب: سبعة أيام تأكلون فطيرا”(أح23: 5/6) (عدد28: 16/17). لم يُضَم الفطير الى عيد الفصح إلا بعد الإصلاح الذي قام به يوشيا (640 – 609) فأعاد الاحتفاء به بعد طول انقطاع(2مل21:23).
وتَلاَزُم العيدين، سُمع عنه مع مرقس “وكان الفصح والفطير بعد يومين”…(14: 1) ويوحنا، يسمي ذاك العيد “بفصح اليهود” تمييزا” عن فصح القيامة (يو2: 13) مشيرا” الى صعود يسوع الى أورشليم في الفصح اليهودي. كما يشير لوقا الى صعود يسوع برفقة أبوَيه اليها في العيد (لو2: 41/46)، وكما أورد تسمية الرب للعيد بعبارة “هذا الفصح” أي اليهودي، مكملا :”إني لا آكله بعد حتى يتمّ في ملكوت الله” (لو22: 16/17) إشارةً واستعدادا الى إتمامه الفصح الإلهي.
وبينما نرى أنّ بطرس قد قُبض عليه في أيام الفطير (اسبوع الفصح)(اعم12: 3)، لم يُقبض على يسوع في العيد (مر14: 2). ففي “أول يوم من الفطير” سأله التلاميذ أين يريد أن يأكل الفصح (متى26: 17). وهنا تجدر الإشارة الى انه كان من المعتاد ان تذهب النساء، لا الرجال، الى الآبار لجلب الماء. فلعلّ الرجل حامل جرّة الماء الذي عيّنه الربّ، وقف بين الجمع مع جرّته تسهيلا لأن يتعرّف عليه التلاميذ (لو22: 10). ولمّا عُلِّق حَمَلُ الله على الصليب “لم يُكسر له عظم ليتمّ الكتاب” ( يو19: 33/36)، فبشأن “حمل الفصح” اليهودي أمر الربّ موسى وهارون:”وعظما لا تكسروا منه”(خر12: 46).
قام يسوع في اليوم الأول من الأسبوع، وظهر أيضاً لتلميذَي عماوس”في ذلك اليوم”(لو24: 13)حيث جدّد معهما العشاء الرباني (لو24: 30)، وثم أيضا” مع كافة الرسل (لو24: 36/43)، كما ظهر للرسل مجتمعين”عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع” (يو20: 19). وكرّر ذلك”بعد ثمانية أيام”(يو20: 26) أي في اليوم الأول من الأسبوع، لذلك يجتمع المسيحيون يوم الأحد ليشتركوا معا” في كسر الخبز:”وفي أول الاسبوع لما اجتمعنا نكسر الخبز”…(أعم20: 7) ويكرّسون هذا اليوم (1كور16: 2). وسريعا سوف يُطلق اسم جديد على ذلك اليوم: يوم الرّب (رؤ1: 10). وهو يذكّر المؤمنين بقيامة المسيح، ويوحّدهم بشخصه في الافخارستيا ويوجّههم نحو رجاء مجيئه (1كور 11: 26).
وعلاوة على فصح يوم الأحد، هناك أيضا” بالنسبة الى المسيحيين احتفال سنوي فيه يفرحون بذكرى تحرّرهم من الخطيئة ومن الموت، فيتّحدون بالمسيح المصلوب والقائم من بين الأموات ليشتركوا معه في الحياة الأبدية، ويوجّهون رجاءهم نحو مجيئه الثاني المجيد. وأفراح الفصح منذ أواخر القرن الثاني ميلادي، كانت تمتد الى الأيام الخمسين التابعة.
لقد كانوا يأتون معاً في تلك الليلة التي تضيء في أعينهم مثل النهار، ليسعدوا، بلقاء في العشاء الربّاني، مع حمَل الله الذي يحمل خطايا العالم ويرفعها، فيجتمعون معا اجتماع عشية حيث يتلى عليهم وصف الخروج في عمق جديد لكونهم لم يعودوا مرتهنين *بدم المحروقات* “بل بدم كريم دم حمل لا عيب فيه ولا دنس وهو المسيح” (1بط1: 13/21). وبما أن المسيح، فداءَهم الفصحي، قد ذُبح، فينبغي أن يحتفلوا بالعيد، لا بخميرة الشرّ العتيقة، بل بفطير الخلوص والحق (1كور5: 6/8).
لقد عاشوا شخصياً مع المسيح سِرَّ الفصح بموتهم عن الخطيئة،وبقيامتهم لحياة جديدة (رو6: 3/11) (كو2: 11). هذا هو السبب الذي لأجله سرعان ما صار عيد القيامة اللحظة السعيدة للمعمودية، قيامة المسيحيين الذين يحيا فيهم سِرُّ الفصح ثانية.
سِرُّ الفصح سوف يَكمُل بالنسبة للمسيحيين بالموت والقيامة واللقاء مع الرب. ويهَيِّئُهم الفصح الأرضي لهذا العبور الأخير، أي لذلك الفصح الأبدي المرتقَب. فكلمة فصح، بالواقع، لا تعبّر فقط عن سِرّ موت المسيح وقيامته، أو عن احتفال سِرّ الافخارستيا الأسبوعي أو السنوي، ولكنها تشير بالأخص الى فرح الوليمة السماوية التي نحوها نحن جميعاً سائرون، وقد غسلنا حللنا وبيّضناها بدَمِ الحمَل” (رؤ7: 14/17)
موسى لم يُخَوَّل دخول أرض الميعاد، تماما مثل أن أعمال الشريعة بكل ذبائحها ومحرقاتها لا تبرّر الإنسان. أما يسوع القائل “لم يصعد أحد الى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن البشر الذي هو في السماء “، فقد “عاد الى الآب الذي منه خرج” ليَستقبل في الملكوت السماوي الموعود جميعَ المفتدين “بدم الحمَل” حيث أعدّ لهم على مائدة الآب مائدة فرح المخلّصين الذين آمنوا بابن الله الوحيد “فعاشوا الحق وعملوا به وقبلوا النعمة بيسوع الفصح الحقيقي، وبه تبرّروا فورثوا الحياة الأبدية. وقد قال القديس غريغوريوس بالاماس:
” الفصح هو مقدمة الآتي “.