تعريف
“عيد البشارة أنشودة فرح تفتح الباب على سرِّ الخلاص الإلهي.”
عيد البشارة عيد التجسّد الإلهيّ (عيد الميلاد المجيد هو عيد الظهور الإلهيّ في الجسد)
بشّر الملاك جبرائيل مريم العذراء بِحَبَلٍ بالروح القدس، وبشّر بالخالق الذي أراد أن يَتجسّدَ من دون أن يعتريه أي تغيير في ألوهيّته. فأتى حدث البشارة حيث تمّ اتحاد الطبيعة الإلهيّة بالطبيعة البشريّة.
– تعود جذور هذا العيد إلى القرون الأولى للمسيحيّة. فموضوع بتولية مريم العذراء، وحبلها الإلهي أيّ تجسّد الإله في حشا امرأة شغل المسكونة منذ القدم وغيّر وجه التاريخ، وألهب قلوبًا انتظرت الخلاص الأبديّ.
في المقابل بعض الناس رفضَه جملةً وتفصيلًا، مستغربًا كيف يمكن لله أن يُصبح إنسانًا، والخالق يتحّد بالمخلوق.
هنا، تجيب المسيحيّة، بكلّ ثقةٍ ويقين، بلسان آبائها القدّيسين، سائلةً بدورها:
– هل يعجز من هو مصدر المحبّة أن يتحّد بالإنسان الذي خلقه على صورته ودعاه ليكون على مثاله؟ كيف يمكن أن تكون المحبّة الإلهيّة للإنسان لو بقي الله في عَليائه ولم يتجسّد؟
– ثمّ هل يتغيّر مَن لا يعتريه تغيير إذا اتحّد بالإنسان؟ أم أنّ الإنسان هو الذي يتغيّر في الحقيقة ويتأله بالنعمة الإلهيّة لاتحّاده بالله؟ هل يمكن أن يبقى الأب السماوي بعيدًا عن أبنائه؟
هذه الأسئلةٍ في الحقيقة كلّها إجابات تضع إزاءنا المقولة التالية: “مهمٌ جدًا أن نعرف من بشّر جبرائيل، ولكن الأهم أن نعي وندرك مَن الذي بشّر به جبرائيل“.
وخير إجابة عن هذا السؤال الذي يلخّص معنى العيد بمجمله هو ما تعلنه الكنيسة في دستور إيمانها:
“إلهٍ حقٍ من إلهٍ حق، مولودٍ غير مخلوق“.
إيمان الجماعات المسيحيّة الأولى
قبل إقرار دستور إيمان الكنيسة في المجمع المسكوني الأوّل في نيقية عام ٣٢٥م، وتكملته في المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينيّة عام ٣٨١م، ظهرت في مناطق مختلفة إعترافات إيمانيّة عديدة كانت تتلوها الجماعات المسيحيّة في صلواتها.
ولكن الجدير بالملاحظة أنّ هذه الإعترافات كلّها حملَت موضوعَين مشتركَين رئيسيَّن:
1- الحبَل الإلهي، 2- صيرورة الله إنسانًا أي ولادته في الجسد.
وهذا يعكس بشكل واضحٍ جليٍّ إيمان المسيحيّة منذ نشأتها.
وهذا الحدث الإستثنائي الذي تمّ مرّةً في التاريخ أي إتّحاد الطبيعة الإلهيّة بالطبيعة البشريّة هو أساس الإيمان المسيحي بجملته. لا بل هو نقطة انطلاق كلّ العقائد المسيحيّة، والخروج عن هذا السرّ يعني في المسيحيّة هرطقة بكلّ ما للكلمة من معنى.
فالمجامع المسكونيّة السبعة التي حصلت خلال الألفيّة الأولى، كانت تعلن وتؤكّد تجسّد الإله وولادته من الروح القدس ومن مريم العذراء، التي هي والدة الإله.
ولأنّه تجسّد، أي صار إنسانًا مثلنا، تُكتب له أيقونةً تأكيدًا لتأنسه.
كما أن عبارة تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، هي من أقدم الإصطلاحات المسيحيّة على الإطلاق، وهي خاصّة أساسيّة في الإيمان المسيحي ولا يمكن الإستغناء عنها common principle.
لذا الترجمة الأصحّ للكلمة اليونانيّة homoousios والتي تشير إلى جوهر الإبن، هي “واحد مع الآب في الجوهر”، بالأحرى من “مساوٍ للآب في الجوهر” كما اعتدنا أن نترجمها.
فالإبن هو مولودٌ من الآب، وهو كلمته الآزليّ الذي صار جسدًا وحلّ بيننا، وهو من جوهر الآب ek tys ousias tou patros.
تاريخ العيد وتطورّه
عيد البشارة في الكنيسة الأولى لم يكن في بادىء الأمر عيدًا مستقلًا بحد ذاته، بل كان مرتبطًا بعيد الميلاد الذي كان مرتبطًا بدوره بعيد الظهور الإلهي.
ولكن، عندما بدأ عيد الميلاد، الذي هو عيد ظهور الله في الجسد، يأخذ استقلالًا عن عيد الظهور الإلهي في القرن الخامس ميلادي، أتت الحاجة ليكون لعيد البشارة تاريخًا خاصًا به تُتلى فيه صلوات وقراءات لها ارتباط مباشر بمفهوم هذا العيد ولاهوته.
ملاحظة:عيد البشارة في ٢٥ آذار يتزامن مع اعتدال الربيع Spring Equinox حيث يتساوى الليل مع النهار، وكانت الحضارات القديمة تعتقد أن العالم والكائن البشري خلقا في هذا اليوم بالذّات.
* وقد كتب القدّيس أنستاسيوس الأنطاكي (٥٩٩م) ما يلي:”بحكمةٍ خلق الله كلّ شيءٍ، وبترتيب وعدالة أوجد الخليقة وافتتح الزمن، وهو أيضًا أراد أن يأتي في الفترة الزمنية ذاتها التي فيها خلق الموجودات والعالم.
فبعد إعتدال الربيع في 20 آذار، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار بشكل كامل، يأتي اليوم السادس الذي خلق الله فيه الإنسان ويكون في ٢٥ آذار. في هذا اليوم أيضًا اتّحد الله مع الإنسان بشكل كامل.”
* وأيضًا يقول القدّيس مكسيموس المعترف (٦٢٢م):” في أي ساعة، وفي أي شهر وأين كانت البشارة ؟ فيجيب أن العذراء كانت تعيش صومًا وكانت تذهب إلى النبع سيرًا على الأقدام لتصلّي لأنّها وجدت الله ينبوع حياتها.
كان ذلك في الشهر الأوّل، أي في الشهر الذي خلق فيه الله العالم، وهذا هدفه أن يعلّمنا أنّه اليوم والآن يقوم بإحياء وتجديد العالم القديم.
كان ذلك في اليوم الأوّل من الأسبوع، أي يوم الأحد، اليوم الذي فيه دحر الظلام وخلق النور، أوّل المخلوقات. ويوم الأحد هذا، هو أيضًا اليوم الذي انبعث فيه نور القيامة معلنًا قيامة الرّب وقيامتنا نحن معه.
فكما في يوم الأحد جدد الله طبيعتنا بتجسّده في رحم العذراء، كذلك في يوم الأحد قمنا نحن البشر من خطايانا بقيامته المجيدة.
وليس فقط في اليوم الأوّل، بل أيضًا في الساعة الأولى لبزوغ الفجر الذي يشق سواد الليل ليعلن مع صاحب المزمور القائل: “يعينها الله عند اقبال الصبح” (مز٥:٤٦) وهو مزمور يعبّر عن الثقة بالله في زمان الشدّة والضيق.
– إذًا ما يخفق في هذا العيد هو الفرح الذي تترجمه بطروباريّة العيد وصلوات العيد وكلّ ما يرافقها من قراءات وترانيم وعظات.
طروبارية البشارة باللحن الرابع |
اليومَ رأسُ خلاصِنا. وإعلانُ السِّرِّ الذي مُنذُ الدُّهور. فإنَّ ابنَ اللهِ يصيرُ ابنَ البتول. وجبرائيلَ بالنعمةِ يُبشّر. لذلكَ نحنُ معهُ فلنهتِفْ نحوَ والدةِ الإله. افرحي أيّتها المُمتلئةُ نعمةً الرّبُ معكِ. |
فهو عيد لقاء السماء مع الأرض وفاتح كلّ اللقاءات التي ستأتي بعده.
وهذا ما جعل الكنيسة تفكّر بطريقة تجمع فيها وتوّفق بين قدّاس العيد ومسيرة الصوم الفصحي،
فأتى مجمع In Trullo في عام ٦٩٢م ليترّجم إيمان الكنيسة بتأكيده البقاء على جوهر العيد وعدم المساس به لما له من أهميّة في الإيمان المسيحي. لهذا أجاز إقامة قدّاس العيد ومناولة القدسات فيه حتى ولو وقع هذا العيد في يوم الجمعة العظيم.
ملاحظة: رتبّت الكنيسة نقل العيد في كنائس المدن والقرى إذا وقع العيد يومي الجمعة العظيم أو سبت النور، كي لا يتشوش الناس، أمّا في الأديار فيبقى العيد في موعده أي في اليوم الذي يأتي فيه.
– القراءت في الكنيسة الأرثوذكسيّة رُتبت لتتلائم مع جوهر العيد ومسيرة الفصح.
– في الغرب، بدا الأمر مختلفًا بعض الشيء، فأقرّ مجمع توليدو عام ٦٥٦م العيد في ١٨ كانون الأوّل مع البقاء على يوم ٢٥ آذار، وعمل بذلك في روما.
إلّا أن في القرن السابع عشر ومع تجديد الروزنامة، وبهدف إلغاء التكرار، تم الإبقاء فقط على العيد في يوم ٢٥ آذار.
ويُحكى عن احتفال ضخم قام به البابا سرجيوس الأوّل (٦٨٧-٧٠١م) في روما، وهو إيطالي ومن أصلٍ سوري، إذ أقام بالمناسبة بمسيرة شموع وصلاة إلى بازيليك القديسة مريم الكبرى Sainte-Marie-Majeure في روما حيث نجد لوحة موزاييك تجسّد الحبل الإلهي وتبرز بوضوح أن العذراء هي والدة الإله Theotokos، كما ا جاء في المجمع المسكوني الثالث في أفسس عام ٤٣١م.
مصادر العيد
بالإضافة إلى النص الإنجيلي عند لوقا (٢٦:١-٣٨) يصف الأحداث المرتبطة بهذا العيد إنجيل يعقوب المنحول وبعض الكتابات الآبائيّة.
إلاّ أن النص عند لوقا يحتلّ المرتبة الأولى في تكوين هذا العيد، وبالأخص الحوار الذي دار بين العذراء مريم والملاك جبرائيل. “… الروح القدس يحل عليك، وقوّة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله”.
بعد قراءة النص في إنجيل لوقا والتمعّن بكلّ كلمة فيه، يطرح الأباء في هذا الإطار سؤالين:
١- لماذا تمّت البشارة مع فتاة عذراء مخطوبة؟
٢- لماذا اضطربت مريم من بشارة الملاك جبرائيل لها؟
* للإجابة عن السؤال الأوّل نقرأ مثلًا عند القدّيس إغناطيوس الأنطاكي (١١٥م) في رسالته إلى أهل أفسس:” إن رئيس هذا الدهر لم يدرك لا بتولية مريم ولا ولادتها ولا موت السيّد. أسرار ثلاثة باهرة فعلها الله بصمت وهدوء.”
هذا التخفّي له حكمته. كان من الضروري أن تكون الفتاة مخطوبة لرجل كي يُصان شرفها ولا يُعلَن ما حدث معها لليهود، فيستغلّه الشيطان وتُرجم الفتاة بحسب الشريعة، إذ كانوا سيتّهمونها بالزنى.
كما ليس من الصدفة بتاتًا أن يكون خطيب مريم رجل بار، إذ كان يوسف الحارس الأمين لهذا السرّ الرهيب.
* كذلك لدى أوريجنس (١٨٤/١٨٥ – ٢٥٣/٢٥٤) شروحات مماثلة تصب في الإطار نفسه.
– بالنسبة إلى السؤال الثاني أيضًا يجيب أوريجنس أن كلام الملاك جبرائيل للعذراء ليس له سابقة أو حتى موجود في أي نص من أسفار الأنبياء أو الشريعة، وهذا بحد نفسه كاف.
* كذلك يستفيض صفرونيوس أسقف أورشليم (٦٣٨م) في شرحه فيقول:” كانت العذراء مريم نقيّة بالفكر وطاهرة النفس، لذا استحضرتها حادثة غواية الحيّة لحواء وأسقاطها في الحيلة، وخسارتها للنعم الإلهيّة”.
* وقبله يؤكّد المغبوط أغسطينس (٣٥٤-٤٣٠م) أن رغبة مريم الدائمة كانت البتوليّة. لكنّه ذهب أكثر من ذلك ليقول: “قبل أن تولد مريم رغب الله بإختيار عذراء مكرّسة له ليولد منها.”
ولكن في الحقيقة، الكنيسة الأرثوذكسيّة إعتبرت هذا الكلام، منذ البداية، غير دقيق. بالإضافة انّه يفتح الباب للوقوع في إختيار الله المسبق للإنسان، وبالتالي يصبح الإنسان مسيّرًا لا مخيّرًا، ويفقد حريّته. ولكنّ هذا يتنافى مع طبيعة الحبّ الإلهي.
كما يجمع الدارسون أن هذه الأفكار، أولدت فيما بعد، ما يسمّى في الكنيسة اللاتينية، الإختيار المسبق Predestination، ومفهوم الخطيئة الأصليّة ومنه عقيدة الحبل بلا دنس
الحبل الإلهي
يصف القدّيس رومانوس المرنّم (القرن السادس ميلادي) بطريقة شعريّة، كيف أخبرت العذراء مريم يوسف الخطيب لقاءها بالملاك جبرائيل
” أين كنت أيّها البار؟ لماذا لم تكن حاضرًا يا حارس عذريتي؟
كائن طائر أتاني ووهبني نعمة الخطوبة، لآلئ لأذنيّ. ووضع كلامه فيّ كأقراطٍ.
هذا التحيّة التي دوت في أذنيّ، أنارتني وجعلت منّي أمًّا. (أمثال 12:25 قرط من ذهب وحلي من ابريز الموبخ الحكيم لإذنٍ سامعة).
لم أستطع أن أفهم حبلي بالطفل، ولكن ها أنا أمامك أمًّا، من دون أن أفقد عذريتي، لأنّك أنت لم تعرفني”.
ملاحظة: اللآلىء والأقراط يعكسون صورًا عن الحبل في الحضارات القديمة، منها أن الحياة تعبر إلى الإنسان عبر الأذنين، حتى أنّ بعض هذه الصور وجد صدى عند بعض المسيحيين.
– يشرح ترتليانوس (٢٣٠/٢٢٠م) في مدوّنته “جسد المسيح”:
الحياة دخلت إلى حوّاء بالسمع، كذلك كلمة الشيطان المميتة والقاتلة للنفس، دخلت في الإصغاء لها.
* فيضع أمام القرّاء مقارنةً جميلةً جدًا على الشكل التالي
حوّاء | مريم العذراء والدة الإله |
حوّاء أصغت إلى الحيّة فسقطت | العذراء أصغت إلى الملاك فإرتفعت |
كلمة الله التي أعطيت إلى حواء بددتها في إصغائها إلى الحيّة | الخطيئة التي أصغت إليها حوّاء بددتها مريم بإصغائها إلى كلمة الله |
الإصغاء إلى كلمة الشيطان وتصديقه أولد ثمرًا عقيمًا الا وهو الموت | الإصغاء إلى كلمة الله وتصديقه أولد ثمرًا محييًا الا وهو سيّد الحياة الرّب يسوع المسيح |
ثمار الشيطان الإنفصال ومن ثم العذاب ومن ثم الموت والقتل. ” قايين قتل هابيل” | العذراء ولدت المخلّص الذي أعطى الحياة وغلب الموت بموته. |
– كذلك يشرح القدّيس أفرام السوري (٣٧٣م) في كتابه Diatessaron:
” بما أن الموت عبر إلى حوّاء من خلال أذنيها، كان يجب على الحياة أن تعبر إلى مريم من خلال أذنيها أيضًا، ومنها إلى العالم أجمع ” أي بالإصغاء والسماع…تكلّم يا رّب فإن عبدك يسمع”.
وهذا مفاده أن الإنسان يقبل كلمة الله بملء حرّيته أو العكس تمامًا.
كذلك العذراء، بملء حرّيتها، قبلت كلام الله لها.
إضافةً إلى هذا، نجد شروحات كثيرة مماثلة عند آباء وقدّيسين آخرين أمثال أثناسيوس الأنطاكي (٥٩٩م) وصفرونيوس أسقف أورشليم (٦٣٨م) وأندراوس الدمشقي الكريتي (٧٤٠م.)
كذلك يؤكّد القدّيس يوحنا الدمشّقي (749م): “الحبل أتى بالإصغاء، أمّا الولادة فأتت بالقناة الطبيعيّة. ولم يكن من المستحيل والمستعصى أبدًا على الله أن يخرج من الباب الطبيعي من دون أن يمزّق أختامه”.
* ختامًا، عيد البشارة هو عيد الخلاص، عيد اتحاد الله بالإنسان، عيد الحب وعيد الفرح. الا ابتهجنا وفرحنا بذلك؟