موجز تاريخ الكنيسة
اولاً في القرون الثلاثة الاولى…
القرن المسيحي الاول
يبدأ تاريخ الكنيسة المسيحية على الأرض بمولد الرب يسوع المسيح من مريم العذراء في بيت لحم، لقد عاش على الارض في فلسطين ومات ودفن فيها وقام من بين الاموات وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب (دستور الايمان).
بعد الصعود وفي اليوم الخمسين لقيامة الرب من بين الاموات، حل الروح القدس على التلاميذ المجتمعين وعددهم 70 تلميذاً في علية صهيون في اورشليم يوم العنصرة، فكان ميلاد الكنيسة في هذا القرن المسيحي الاول حيث اطلقهم الروح الالهي الى الكرازة في كل المسكونة.
في هذا القرن بشر الرسل ببشارة المسيح كما ورد في انجيله باستثناء بولس الرسول الذي سجل كتاب اعمال الرسل لكاتبه البشير لوقا الرسول رحلات بولس التبشيرية.
لانعرف بالتحديد التفصيلي أمكنة سفر الرسل القديسين تماماً. بحسب التقليد، كان جميع الرسل مبشرين عالميين لكل المسكونة، واستشهدوا جميعهم من اجل معلمهم الالهي الذي ارسلهم للتبشير باسمه القدوس باستثناء الرسول يوحنا الانجيلي.
كُتبت في القرن الاول الأناجيل والرسائل والكتب التي تؤلف العهد الجديد. وفيه ايضاً تكونت الجماعات المسيحية الأولى، في المدن الرئيسة الكبرى اولاً في دمشق ثم العربية مع بولس الرسول،
ومعه ايضاً في انطاكية “عاصمة سورية وعين الشرق كله” مع بولس وبطرس وبرنابا…وتأسس كرسيها الرسولي بيدهم وكان الرسول بطرس اول بطاركته، وآسية الصغرى بمدنها واليونان وشمال افريقيا والاسكندرية وتأسس كرسيها الرسولي بيد مرقس الرسول وكان هو اول اساقفته فالقيروان وقرطاج..، واخيرا في روما العاصمة وتأسست الكنيسة فيها بيد بطرس وبولس وكان بطرس اول اساقفتها وفيها استشهد الرسولان الهامتان…كل ذلك تم بعد تأسيس كنائس دمشق والعربية وانطاكية وآسيا الصغرى والاسكندرية… كما مرمعنا…
الكنيسة
كانت المسيحية ظاهرة مدينية (نمت في المدن) أولاً ثم انتشرت في الارياف، خلافاً لما يُظن أحياناً. وكان معظم المنتمين الى الدين الجديد هم ممن ندعوهم اليوم “الطبقة الوسطى” هذا يبين ضلال وخطأ النظرية التي تقول:
“إن الحدث الأساسي في حياة الكنيسة في القرن الاول، كان اعتناق الأمم الوثنية للمسيحية ودخولها في الكنيسة المسيحية، وعدم إلزام المؤمنين الجدد باتباع الطقوس الموسوية بمافيها الختان للتطهير وذلك بقرار المجمع الرسولي الذي انعقد في اورشليم برئاسة يعقوب اخي الرب للقرار في ذلك الشأن. وهكذا ومع ان الكنيسة المسيحية دخلت مجتمع الامبراطورية الرومانية “تحت غطاء” اليهودية الا انها سرعان ما انفصلت عنها وصارت هي شعب الله المدعو من كل الامم، اولئك الذين اتحدوا بالمسيح واعترفوا به ربَّاً ومخلصاً لكل العالم”.
كانت طلبات الدخول في الكنيسة محددة بالايمان بأن يسوع هو الرب والمسيح عند التقدم للمعمودية” اتعترف بالمسح وتؤمن به رباً ومخلصاً؟”، والتوبة عن الخطيئة، والمعمودية باسم يسوع وقبول الروح القدس نتيجة طبيعية للمعمودية. وهكذا تأسست الكنيسة كجماعة محلية في كل مكان تمم فيه أشخاصٌ تلك الطلبات.
ترأس كل مجموعة من دُعوا أساقفة أو شيوخاً، وقد صاروا اساقفة بوضع ايدي الرسل عليهم. جدير بالذكر ان الرسل لم يكونوا اساقفة محليين لأية جماعة مسيحية في أي مكان بل كانوا لكل المسكونة كما المعلم الالهي.
كان لكل واحدة من الجماعات المسيحية الاولى صفاتها المميزة ومشاكلها الخاصة بها، كما نرى من العهد الجديد. بشكل عام، كانت كل كنيسة تحمل هم الكنائس الاخرى، وكانت جميعها مدعوة لتتعلم العقائد ذاتها، وتطبق ذات الفضائل، وتعيش ذات الحياة في المسيح والروح القدس.
ان وصف حياة الكنيسة الاولى في اورشليم يمكن ان يطبق ويُقاس على الجماعات المسيحية الاولى كافة.
القرن المسيحي الثاني
شهد هذا القرن تطوراً أكبر في الايمان المسيحي واضطهاداً أعظم شنه اليهود كما في القرن الاول على المؤمنين بالمسيح وشنته الامبراطورية الرومانية الوثنية على الكنيسة بسبب اعتبار المسيحية دينا لاشرعياً يقوض اساسات الامبراطورية ومحورها عبادة الوثن. فعبادة الأوثان هي الرابط لوحدة الامبراطورية الرومانية لذلك كان كبير كهان الوثن وهو صاحب المكانة التالية للأمبراطور ويدعى الحبر الأعظم. في البداية لم تلتفت روما الحاكمة الى المسيحيين بل اعتبرت المسيحية شأنا يهودياً داخلياً لذا تركت اليهود هم الذين يطاردون اتباع الطريقة اليهودية الجديدة كما في اهتداء بولس الرسول في دمشق.
ثم ان المسيحيين صاروا مجرمين في عيون الرومان لا لأسباب دينية بل لأسباب سياسية، لقد انتهكوا قوانين الامبراطورية لأنهم رفضوا تكريم الامبراطور الارضي كملك رب وإله…
في الحقيقة والقع كان المسيحيون يصلون منذ قجر الكنيسة حتى الآن من اجل الحكام ومعاونيهم، ومن اجل الجيش وادوا لكلٍ حقه (رو13-7:1) لكنهم رفضوا ان يقدموا للملك الأرضي مايجب تقديمه لله ومسيحه من تمجيد وعبادة. هكذا صرح الرومان:” انه من الممنوع ان تكون مسيحياً”
احدى اقدم الشهادات على هذا الوضع تعود الى القرن الثاني، وهي مراسلة بين بلينوس الأصغر والامبراطور تراجان الذي حكم من (98-117م) تكشف هذه المراسلة ان المسيحية كانت محرمة، وأن المسيحيين كانوا متهمين بتهم جسيمة كاذبة، كتقديم الأطفال ذبيحة في عباداتهم، وأكل اللحوم البشرية (فهم خاطىء لسر الافخارستيا الذي كان يتم في اجتماعات سرية في الدياميس والكهوف). ولكن بالرغم من هذه الاتهامات والاشاعات لم يكن المسيحيون يُعدمون الا بعد ان يُقادون الى المحاكمة وبعد صدور قرار قضائي بالاعدام.
انفجرت الاضطهادات وعمت سائر انحاء الامبراطورية، وكانت تقوى حسب تزمت السلطات المحلية الحاكمة وكذلك وفق رغبات الامبراطور وتعطشه للدم.
انتشرت الاضطهادات سريعاً في القرن الثاني وكان المسيحيون موضع كراهية من قبل أكثرية الحكام والاباطرة تسامحاً وانفتاحاً، حتى ان البعض من الاباطرة والولاة كانوا يوقدون اجساد المسيحيين في حدائق القصور الرسمية وقصور الاباطرة والولاة معلقة للاضاءة، إن غيرة المسيحيين على ايمانهم بالرب يسوع وتمسكهم به رباً ومخلصاً اعتُبرت عناداً وتصلباً منهم وقد سببت لهم كرهاً شديداً. وقد اضُطهدوا ايضا بسبب ما اعتبره الرومان في المسيحية خطراً سياسياً يهدد وحدة الدولة والقانون الروماني ونظام الحكم الامبراطوري، خصوصاً وان اعداداً متزايدة كانت تنضم بوفرة الى الكنيسة بالرغم من كل الاضطهادات وتتقدم الى المذابح بكل طواعية وسرور.
ظهرت في ذلك القرن شخصيات عظيمة من الاساقفة الشهداء مثل القديس أغناطيوس الانطاكي المتوشح بالله ثالث اساقفة انطاكية المتوفي في السنة 110 مسيحية، وبوليكاربوس اسقف ازمير المتوفي في 156مسيحية، ويوستنينوس الفيلسوف توفي 165مسيحية… الخ وكل من هؤلاء الذين قُتلوا من اجل ايمانهم ترك كتابات، اذا جمعناها مع كتب الذيذاخي (تعليم الرسل)، والرسالة الى ديوغنيتوس ورسائل اكليمنضوس اسقف روما، ورسالة برنابا وكتاب راعي هرماس، والكتابات الدفاعية لأشخاص مثل اثيناغوراس وميليتون ساردس، وثيوفيلوس الأنطاكي، وايريناوس اسقف ليون، تعطينا صورة حية عن ايمان وحياة الكنيسة في القرن الثاني.
الدفاع عن الايمان: المدافعون
اضافة الى الاضطهادات من جهة، ونمو الكنيسة من جهة اخرى وتزايد عدد المؤمنين المنتمين اليها، كان الدفاع عن الايمان المسيحي أحد أهم الأمور التي شهدها القرن الثاني.
شمل هذا الدفاع الرد على التعاليم الكاذبة وهو ماسمي ب”اللاهوت الدفاعي”، في مواجهة الهرطقات والديانتين اليهودية والوثنية. هذا ما اسس عقيدة الكنيسة وبدايات اللاهوت بعد عصر الرسل.
رسخ النظام الكنسي الواحد في كل جماعة محلية اسقف وهو قائدها وشيوخ وشمامسة، وهذا بدوره أدّى الى انفصال الليتورجيا المسيحية والحياة الأسرارية كلياً عن المجمع اليهودي، وأسس بدايات تشكيل قانون العهد الجديد.
شهدت الفترة الممتدة بين اواخر القرن الاول وبدايات القرن الثاني ظهور كتابات مزيفة (ابو كريفا) سميت مزيفة PSEUDOEPIGRAPHA. حملت أسماء الرسل وانتجت قصصاً خيالية مختلفة حول طفولة السيد المسيح. وحياة السيدة العذراء واعمال بعض الرسل. واستمر التزييف حتى مطلع القرن 16 مع الانجيل المزيف” انجيل برنابا” مع تحريف مستدام ومتنام (الى اليوم) للانجيل من الهراطقة والمتهودين في عصرنا الحاضر…
الى جانب الكتب المزيفة ظهرت ايضاً التعاليم “الغنوصية” وهي تلك الهرطقة المسيحية التي حولت المسيحية الى “فلسفة روحانية ثنائية عقلية”. بالطبع لم يقبل الايمان الارثوذكسي هذه الفلسفة وبدأ الصراع الذي انتج اللاهوتيين الدفاعيين (الذين دافعوا عن الايمان الحقيقي وبشارة المسيح الاصلية). هذا ساعد في نشوء تعليم التسلسل الرسولي في الكنيسة. وتقول هذه العقيدة ان العقيدة والحياة المسيحيتين تنتقل بالتسليم من كنيسة الى اخرى، ومن جيل الى جيل، من خلال تسلسل التقليد المقدس الكنسي الذي يوجد في تكريس الاساقفة الذين تكون تعاليمهم وسلوكياتهم مطابقة لبعضهم البعض ولرسل المسيح الاصليين.
ونتيجة اخرى مهمة أدى اليها هذا الصراع الايماني وهي ابتداء الكنيسة في العمل بجدية على التمييز بين الكتابات المقدسة وبين تلك التي لاتنتمي اليها.
قرار الكنيسة في التمييز استند الى الشهادة الرسولية الحقيقية الموجودة في الكتابات، واستخدام هذه الكتابات في التجمعات الليتورجية الكنسية.
النظام الكنسي والليتورجيا
نجد في كتابات المدافعين والشهداء والقديسين الذين من القرن الثاني، ان اسقفاً واحداً كان يترأس كهنة كل كنيسة محلية مسيحية ويساعده عدد من الشيوخ (الكهنة)والمامسة. وكمثال على ذلك نقرأ ماكتبه القديس اغناطيوس المتوشح بالله في رسائله:
“احثكم ان تجاهدوا لتعملوا كل شيء بتناغم مع الله: الأسف يترأس مكان الله، بينما يعمل الشيوخ (الكهنة) كأنهم مجمع الرسل، اما الشمامسة الاعزاء جداً على قلبي، فيُعهد اليهم بأعمال خدمة “الاعمال الخيرية” يسوع المسيح.” ( الرسالة الى مغنيزيا1:6)
” انتبه لكي تشرك في افخارستية واحدة لأنه يُوجد جسد واحد ليسوع المسيح، كأسٌ واحدة تُتحدنا بدمه ومذبح واحد، كما يوجد اسقف واحد يساعده شيوخ (كهنة) وشمامسة.” (الرسالة الى فيلادلفيا).
“حيثما يكون الاسقف ليكن الشعب لأنه حيث يكون المسيح تكون الكنيسة الجامعة.” (الرسالة الى سميرنا).
كان القديس اغناطيوس اول من استعمل كلمة الجامعة ليصف الكنيسة. تعني كلمة “الجامعة” أن ملء وكمال واتمام وكلّية وعدم نقصان نعمة وحق وقداسة الله موجودة في الكنيسة.
يحوي كتاب الذيذاخي كتابات دفاع القديسين يوستينوس وايريناوس، ووصف للأسرار المسيحية.
“يتم التعميد هكذا، بعد شرح كل هذه النقاط عمِّدْ باسم الآب والابن والروح القدس في ماء جارٍ.” ( الذيذاخي 1:7)
لايأكل احد ولايشرب من الافخارستيا مالم يكن معتمداً باسم الرب”.( الذيذاخي 9).
“اجتمعوا بشركة سرية لكسر الخبز وتقديم الشكر في يوم الرب، لكن اعترفوا بخطاياكم اولاً وهكذا تكون ذبيحتكم نقية.
ولايشترك في احتفالكم بالذبيحة اي شخص متخاصم مع اخيه” ( الذيذاخي14).
الأفخارستيا في دفاع القديس يوستينوس
“في اليوم المدعو الأحد، يجتمع كل الساكنين في المدن والقرى سوبة في مكان واحد حيث يقرأون معاً كتابات الأنبياء أو الرسل بحسب مايسمح الوقت لهم.
ثم يختم القارىء القراءة ويبدأ المتقدم فيهم بالوعظ والحث على التمثل بهذه الأمور الحسنة، ثم ينهض الجميع ويرفعون صلواتهم. وكلما قلت سابقاً عندما ننهي صلواتنا، يحضر الخبز والخمر والماء، ويرفع المتقدم الصلوات والشكر بحسب مايشاء ويوافقه الشعب بهتاف آمين، ثم يتم توزيع الخبز ليشترك كل واحد في الأفخارستيا. أما الذين يكونون غائبين فيحمل لهم الشمامسة جزءاً من الافخارستيا.
والذين يستطيعون أو يريدون أن يعطوا، يعطون بحسب مايشاؤون للمتقدم وهو يستودع التقدمات عنده ويساعد بها الايتام والأرامل والذين في مرض أو أي ضيق، في سجن وغرباء، وفي سفر، وبكلمة أخرى الذين هم بحاجة. يوم الأحد، فقط يتم اجتماعنا العامّ لأنه هو اليوم الأول من الأسبوع الذي قام فيه ربّنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي صنع العالم وأقامه من بين الاموات”
(دفاع القديس يوستينوس67:1، القرن الثاني)
القرن المسيحي الثالث
عاشت الكنيسة في سلام نسبي من بعد موت ماكوس أوريليوس (185م) وحتى زمن الأمبراطور ديتيشيوس (245م).
شن الأخير اضطهاداً واسعاً على المسيحيين في كل الامبراطورية، وتتابعت الاضطهادات التي بدأها المذكور في عهد فاليريان (253-260م). رافق هذه الاضطهادات بالاضافة الى ممارسة القوة لإجبار المسيحين على تقديم الذبائح للآلهة الامبراطورية، اضطهاداً عنيفاً يطلب قتل الكهنة، ومصادرة وتدمير ممتلكات المسيحيين. كان القصد هو تطهير الكنيسة من قادتها بتصفيتهم ومن ثم تدميرها كلياً.
أوقف غالينوس ابن فاليريان بعد موت ابيه الاضطهادات العنيفة بحق المسيحيين الذين عادوا ينعمون بسلام نسبي، وحتى نهاية القرن، خلال هذه الفترة حصل نمو مذهل في عدد المؤمنين المنتمين للكنيسة ووصل عدد المسيحيين الى مايقارب عشر سكان الامبراطورية.
المرتدون
ادت موجة الاضطهادات العنيفة التي اثيرت ضد المسيحيين في عهد الامبراطورين ديتشيوش (249م) وفاليريان (253-260م)، مع فترات السلام التي سبقت هذه الموجة ولحقتها الى بروز مشكلة حرجة للكنيسة وطُرحَ السؤال التالي:
هل يحق للذين انكروا ايمانهم نتيجة الاضطهاد في تلك الفترة ان يعودوا الى حضن الكنيسة؟ وهل يمكن للكنيسة قبولهم؟ سببت هذه المشكلة انقسامات داخل الكنيسة وبرز تيار المغالين الذين اعتبروا الكنيسة روحانية نقية لاتقبل ولاتحوي الخاطئين وناكري الايمان، ورفض هذا التيار توبة الذين ارتدوا عن المسيحية. كما عارض هذا التيار الاساقفة الذين قبلوا توبة المرتدين وعودتهم وسمحوا لهم بالتقدم من سر الافخارستيا بعد انقضاء فترة توبتهم. مما ادى الى عدد من الانشقاقات في الكنيسة، تلك التي سببها بعض الذين غاد، شدد كبريانوس في تعليمه على ان الكنيسة على مثال المسيح والكنيسة لأنهم اعتبروا انها يجب ان تكون اكثر صرامة وطهراً.
وكان ترتليان (+220م) الأب اللاتيني الكبير والكثير الانتاج في مختلف مواضيع اللاهوت في شمال افريقيا)، من بين الذين تركوا الكنيسة. التحق ترتليان بالهرطقة المونتانية التي كانت قد بدأت بالظهور في اواخر القرن الثاني، والتي اعتبر أصحابها انهم كنيسة “النبؤة الجديدة” التي للروح القدس، التي هي أكثر كمالاً من كنيسة “العهد الثاني” التي للمسيح.
برز في تلك الفترة كبريانوس (+258م) اسقف قرطاج في شمال افريقيا، والأب الكبير المدافع عن جامعية الكنيسة والذي استشهد بعد معارضته ماسمي بكنيسة “الأطهار” النوفانيين في روما، تلك الكنيسة التي رفضت اعادة قبول ” المرتدين” في شركة الكنيسة، ومع ان كبريانوس كان قارئاً كبيراً لكتابات ترتليان اللاهوتية، الا انه دافع عن جامعية الكنيسة الرسولية والتسلسل الرسولي في وجه الطهريين، شدد كبريانوس في تعليمه على ان الكنيسة على مثال المسيح، تسعى من اجل خلاص الخطأة، وأنه “لايوجد خلاص خارج الكنيسة” ( الرسالة73) وشدد في تعليمه على وحدة الكنيسة المتأتية من وحدة أساقفتها.
“هل يظنُّ الذي لايثبت في وحدة الكنيسة، أنه يثبت في الايمان؟ هل يصدق الذي يناضل ضد الكنيسة ويقاومها انه في الكنيسة؟ …يجب ان نثبت في وحدة الكنيسة هذه وندافع عنها. وتقع هذه المهمة، وبالأخص، علينا نحن الاساقفة، المتقدمين في الكنيسة، لأننا أيضاً يمكننا ان نبرهن أن الاسقفية واحدة وغير منقسمة…الأسقفية واحدة…وكذلك الكنيسة واحدة. (في وحدة الكنيسة 4،5).
” من المستحيل أن يدعو الانسان الله أباً مالم تكن الكنيسة له أماً”. (في وحدة الكنيسة6).
” ليس مسيحياً من هو خارج كنيسة المسيح”(الرسالة 55).
تطور اللاهوت
شهد القرن الثالث ظهور مدرسة الاسكندرية اللاهوتية الأولى. أسسها بانتيانوس، وطوّرها اكليمنضوس (+215م) وطور التعليم فيها المعلم الكبير اوريجنوس. فيما رفض ترتليان، ابو اللاهوت اللاتيني، اي اتفاق بين أثينا واورشليم او بين الفلسفة اليونانية والكشف المسيحي، قالت المدرسة الاسكندرية بأن الفلسفة اليونانية كانت صوت تهيئة لانجيل المسيح بين الوثنيين، وانها اي الفلسفة اليونانية تستطيع ويجب ان تكتمل وتصل الى الحقيقة الكاملة في الايمان المسيحي.
أرغب أن تأخذوا من الفلسفة اليونانية مجالات المعرفة التي تكمن فيها التهيئة الى المسيحية، وأية معلومات، سواء من الهندسة أو الفلك، يمكن ان تخدم في تفسير الكتب المقدسة…
كان اوريجانس ظاهرة فريدة، لقد كتب عدداً لايُحصى من الاطروحات في مختلف المواضيع. وكان له تلاميذ، كثيرون وهو اول من بدأ الدراسة النظامية الحرفَّية على الاسفار المقدسة. لكن الكنيسة أدانت العديد من أفكاره وتعاليمه في المجمع المسكوني الخامس في السنة 553م.
من بين لاهوتيي القرن الثالث الكبار الذين يجب أن نذكرهم، مع ترتليان وكبريانوس واكليمنضوس واريجانس، ديونيسيوس الاسكندري(+265م) هيبوليتس اسقف روما(+235م)، غريغوريوس العجائبي اسقف كبادوكية (+270م)، متوديوس الأولمبي (+311م) أغنى هؤلاء جميعاً اللاهوت المسيحي وساهموا بشكل خاص، بارساء عقيدة الثالوث القدوس التي ستكون مدار صراع في القرن الرابع. نذكر ايضاً بولس السميساطي ولوقيانوس الانطاكي. الذين عاشا في نهاية القرن الثالث ونشروا التعاليم الهرطوقية بخصوص عقيدة الثالوث الالهية.
تطور الليتورجيا
ظهرت في القرن الثالث كتابات هامة تكشف، من الداخل، الحياة الليتورجية والقانونية للكنيسة في ذلك الزمان، وتعد من أقدم النصوص المسيحية في هذا الشأن، مثل ” تعاليم الرسل”، و” التقليد الرسولي لهيبوليتوس اسقف روما(+ 235م)، ينظم الاول الوظائف الكهنوتية والخدم الأسرارية في كنيسة سورية، ويصف الاحتفال الأفخارستي فيها. ويُعطي الثاني تفاصيل مماثلة عن كنيسة روما، إنما بتفصيل وتطويل أكثر، كما يحوي أقدم صلاة افخارستية عندنا. وكذلك طريقة إقامة أسرار المعمودية والميرون والرسامات الكهنوتية.
المعمودية والميرون بحسب ” التقليد الرسولي” لهيبوليتس
يضع المعمد يده على المتقدم الى المعمودية، عند نزوله في الماء، ويسأله: أتؤمن بالله الكلي القدرة؟
فيجيب المتقدم الى المعمودية: أؤمن وبالحال يغطسه بالمرة الأولى، ويده على رأسه، وبعد ذلك يسأله : أتؤمن بيسوع المسيح، ابن الله الذي وُلد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وصلب في زمن بونطيوس بيلاطس، ومات ودُفن، وقام في اليوم الثالث من بين الأموات، وصعد الى السماوات وجلس عن يمين الآب، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات؟
فيجيب : أؤمن.
فيغطسه للمرة الثانية، ويسأله أتؤمن بالروح القدس وبالكنيسة المقدسة وبقيامة الاجساد؟ فيجيب: أؤمن.
وهكذا يغطسه للمرة الثالثة.
وحالاً بعد خروجه من الماء، يجب ان يمسحه الكاهن بزيت الشكر قائلاً:
-أمسحك بزيت مقدس باسم يسوع المسيح.
ثم ينشف كل معتمد جسده بيديه بمنشفة، وبعد ذلك يلبس المعتمدون ثيابهم ويتوجهون الى الكنيسة، حيث يضع الأسقف يده عليهم ويتضرع ويقول:
“ايها الرب الاله، يامن أهل خدامه لمغفرة الخطايا بواسطة جرن التجديد، اجعلهم مستحقين للامتلاء من روحك القدوس، وأرسل عليهم نعمتك، حتى يخدموك بحسب مشيئتك، لأنه لك المجد ايها الآب والابن والروح القدس في الكنيسة المقدسة الآن وكل اوان والى دهر الداهرين آمين.
بعد ذلك يسكب الزيت المكرَّسْ من يده ويضع يده على رأس كل معتمد ويقول:
-أمسحك بزيت مقدس بالله الآب القدير والمسيح يسوع والروح القدس. ثم يختم على جبهته، ويقبله قبلة السلام ويقول له: الرب معك. فيجيب المختوم: ومع روحك. هكذا يعمل الأسقف مع كل معتمد بمفرده.
الأفخارستيا في التقليد الرسولي لهيبوليتس
” الرب معكم…ومع روحك…لنرفع قلوبنا الى فوق…لقد وضعناها عند الرب…لنشكرن الرب…إنه واجب وحقٌّ.
إننا نشكرك يالله بواسطة خادمك المحبوب يسوع المسيح الذي ارسلته في الازمنة الأخيرة ليكون مخلصنا وفادينا ورسول مشورتك، الكلمة الذي صدر عنك، الذي به خلقت كلَّ الأشياء، الذي به سررت أن ترسله من السماوات الى بطن العذراء، وفي جسدها تجسد وظهر ابنك مولوداً من الروح القدس والعذراء لكي يحقق مشيئتك ويهيىء لك شعباً مقدساً، مدّّ يديه عندما تألم لكي يحرر من الآلام الذين آمنوا بك.
وشكر وقال:”خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يكسر من اجلكم”. وبالطريقة عينها، أخذ الكأس وقال:” هذا هو دمي الذي يُهراق من اجلكم اصنعوا هذا لذكري”.
وعندما نتذكر موته وقيامته بهذه الطريقة، نقدم لك الخبز والكأس، ونشكرك لأنك قد أهلتنا لأن نقف أمامك ونخدمك ككهنة.
ونتضرع اليك أن ترسل (تُحدر) روحك القدوس على ذبيحة كنيستك. وحدّها وامنح كل القديسين الذين يشتركون في هذه الذبيحة، أن يمتلئوا من روحك القدوس، حتى يتقووا بالايمان والحق، لكي ما نسبِّحكَ ونمجدك بخادمك يسوع المسيح، الذي به يكون التسبيح والتمجيد لك في كنيستك المقدسة الآن والى دهر الداهرين آمين.
(يتبع في الجزء الثاني- موجز تاريخ الكنيسة)