تأمل في مثل الإبن الضال…
.
يتمحور المثل حول محبة الآب، تتوزّع بشكل متساوي بين الإبن الأصغر والإبن الأكبر، المثل يعني مباشرة محبة الله الآب. الله محبة. الإبن الأصغر مثل فئة من البشر، والإبن الأكبر يمثِّل فئة أخرى.
ملاحظة
1- المثل هو من نوع القصة ليس من الضروري أن يكون الحدث الذي يُروى واقعيّاً أو تاريخياً فالغاية من المثل هي إعطاء تعليم، بموجب منهجية تصويرية، بغية الوصول الى أمثولة عملية.
2- الأمثلة التي أعطاها يسوع تهتم بنوع خاص بالوجهة الحياتية العملية أكثر منها بالأفكار والمبادىء، أمثلة هذه كانت لتوحي الى السامعين بمسلكية، أو لتلقِّنهم منهجية تصرُّف، أو أيضاً لتعبِّر عن تصرُّف الله الآب ويسوع بالذات تجاه الإنسان.
3- مثل الإبن الشاطر يتمحور حول محبة الله الآب للإنسان، في شخص الوالد. ويعلِّم أن محبة الآب الأبوية تفوق كل مقاييس البشر، تفوق كل تصوُّر بشري، بالصفح، على السواء، عن الإبنين معاً ويعلِّم أيضاً أن لن يدخل في منطق هذه المحبة محبة الآب إلاّ من أحبّ إخوته، عكس موقف الإبن الأكبر.
4- هي هذه المحبة، محبة الآب، التي تكشف عن ماهية الخطيئة وتُلقي عليها أضواء، هي التي تكشف عن نتائج الخطيئة في حياة الإنسان الخاطىء الشر والخطيئة عنصران مدمران في حياة الإنسان وعن مصير هذا الأخير هي التي تكشف عن ماهية التوبة والدوافع إليها وعن أن التوبة توبة الإنسان، ممكنة فقط لأن الله محبة هو للإنسان، وأمانة لعهده معه، لن تُزعزع هذه الأمانة خطيئة الإنسان، من ثمَّ فالتوبة الحقّة تقوم بانفتاح القلب على محبة الأب الأبوية بمحبة الإخوة.
يقدِّم لوقا الإنجيلي لهذا المثل بتعابير وجيزة يقول: كان لإنسان ابنان. وتتوالى من ثمَّ أحداث المثل في جزئين متوازيين:
الأول من (لو15/12-24) يحكي عن الإبن الأصغر.
الثاني (لو15/25-32) موضوع الإبن الأكبر.
عنصر الوحدة بين جزئي هذا المثل هو شخص الأب أو محبته لابنيه بالتساوي. بشخص الأب يكشف المثل عن قصد الله في الإنسان ومحبته للبشر. الأب… الآب السماوي على اختلاف فئاتهم ومواقفهم، ممثّلَيْن بالإبنين. بهذين الإبنين يكشف المثل أيضاً عن تعامل الإنسان مع الله.
في مقدمة المثل، يبدو قصد الله في الإنسان جلياً
يقول الإنجيلي لوقا: كان لإنسان ابنان، مشيراً بذلك الى الشراكة الأساسية التي شاءها الله مع الإنسان منذ البداية. من ثمَّ، يبدأ المثل فيصوِّر لنا خروج الإنسان عن هذه الشراكة بشخص الإبن الأصغر، عبر أحداث متتالية.
الآية (12): ها هوذا الإبن الأصغر يطلب نصيبه من الإرث. يجمع حصته ويسافر الى بلدٍ بعيد.
الآية (13) (أ): مُعرباً عن رغبته في التفرُّد والإستقلالية تغويه المادة ورغد العيش فيتحوَّل إليهما مُعرضاً عن الرُبط الأسروية حيث العهد بالمحبة وليس بالشريعة يبتعد عن البيت، محوره الكياني والوجودي، الى بلد بعيد، رافضاً بذلك الإبقاء على أي رباط يشدُّه الى الأسرة.
موقع الشراكة الحياتية. إنها قفزة في المجهول. رفض الإنسان في أن يكون موضوع محبة يُحدث فيها جرحاً إنها محدودية الإنسان، تكشفه ما دون مستوى المحبة التي وُجد أصلاً بها ولها. هنا بالذات تتجلى محبة الله للإنسان إذ ترك له حرية التصرُّف فلقد أوجده على صورته كمثاله حرّاً ومسؤولاً. وهكذا أعدَّ الله لذاته منذ الأزل صليباً قاسياً. لم يقف الرب عَقَبَة في كيفية أو نوعية ممارسة هذه الحرية من قبل الإنسان، لم يتصدّى له حتى لو أساء الإنسان التعامل مع هذه الحرية أو التصرُّف بها. أحب الرب الإنسان، في شخص الإبن الأصغر إذ اعتبر ذاته معنيّاً في كل ما يحصل له في غربته، مسؤولاً عنه. فأخذه على عاتقه، وراح ينتظر عودته منذ اللحظة التي غادر فيها المنزل الوالدي.
الآية (13) (ب): يبدد الإبن الأصغر ما يملك في حياة الطيش، إنفصال الإنسان عن الشراكة الحياتية، مداره الوجودي، ورفضه لمرجعيته، جعلاه عطوباً، عرضة للزلل والإنزلاق، فبدد في حياة الطيش وجوداً أُعطيه، وما لبث أن وجد ذاته في وضع المقتلَع من تربته، المفصول عن جذوره والمقطوع عن ماوية الحياة. وبالتالي، أصبح عُرضة للُعبة الصدف والأقدار، تتقاذفه وتتحكّم به.
الآية (14): هكذا تظهر رغبة الإنسان في التفرُّد والإستقلالية: وهجُ سرابٍ في البعيد، تملُّق يستحكم في الإنسان، إغراء بسعادة مقبلة. هذا المُناخ من الأوهام لا يعوِّض عن الجوِّ العائلي، عيش العهد بالمحبة. فالغشاوة لا تلبث أن تنقشع، ليجد الإنسان ذاته أمام حقيقته البائسة، أمام الواقع الصارخ، وفي وضع المُهمَل المنبوذ. من وضع البنوَّة، دعوة الإنسان الأساسية التي يُعرف بها كائناً حراً، المنزل الوالدي، المدار الوجوديتحوّل الى وضع العبد والمستخدَم، في غربة وعند غرباء. خرج من ارتباطه بالأب وعن الخضوع له قد خرج لأنه حرّ، البنوّة حرية، فصار مقيّداً بعبودية استعطاها “لم يعد حراً ليترك عمله، الوجه المخيف للخطيئة الغربة عن الله هذا هو تصوير الوضع البشري في الأساس”. صار أيضاً في وضع المنبوذ: لم يستخدمه سيده في بيته، لم يُعطه عملاً في منزله، بل أرسله كغريب ومجهول الى حقوله يرعى خنازير النعمة تُلاشي الخطيئة وهكذا بغربته عن بيت الأب، موقع الكينونة والوجود الإنسان بعلاقته مع الرب يوجد، بعلاقته مع الله كائن، فقد وضْع البنوّة وأضاع حقيقته الكيانية والوجودية، كيانه أن يكون إبن وجوده أن يوجد كابن في بيت الآب ضلَّ وتاه حتى جاور العدم.
الآية (16): لم يكن يحصل على قليل من خرنوب، تأكله الخنازير. ربما كان في هذا الواقع ما يشير الى أقصى درجات البؤس… وربما تضمّن أيضاً أول خيط نور يهيِّء لميلاد فجرٍ جديد: فما كان يظفر بخرنوب تأكله الخنازير. في الأكل شراكة ولو منبوذاً، أو خاطئاً، أو شريداً.. أو مهما انحدر الإنسان في سلّم القيم.. يبقى أكرم وأرفع من أن يصبح شريكاً للحيوان للخنزير. وهكذا بلباقة فائقة، وببراعة الكاتب الملهم، يقلب لوقا مجرى الأحداث، وتأخذ القصة منحىً جديداً هذا الإنسان طريد الفردوس الخارج عن محوره الكياني والوجودي، لن يُترك في متاهات الغربة. لا شك في أنه جاور العدم. لكن الرب دبّر له خلاصاً، وانتشله ثانية من لجة العدم.
الآية (17): وعاد الى نفسه يفكِّر. يكمِّل الإنجيلي وعاد الى نفسه يفكِّر. عودة الى الذات تُولد من وضع ذلّ وبؤس وشدّة. هنا يُطرح السؤال: ماذا سيجري؟ هل من إمكانيات الإنسان الذي خرج من الشراكة بذاته، أن يعود إليها… وكيف؟ “الإنسان بذاته غير قادر أن يرجع الى الشراكة، فإن كان بإمكانه ذلك، فلا لزوم ولا طائل للخلاص الذي حققه المسيح، وكأن منطق الصليب عارٍ عن أي منطق”… “كم أجير عند أبي يَفْضُلْ الخبز عنهم، وأنا ههنا أهلك جوعاً. عاد الإبن الأصغر الى ذاته وفكَّر… لكنه لم يعِ من وضعه إلاّ الخوف من أن يهلك جوعاً، لا كونه بعيداً عن أبيه، فكّر في الخبز الذي يفضل عن الأجراء في بيت أبيه، ولم يفكِّر في أبيه وكيف أنه، بغربته وانفصاله عنه، أحدث جرحاً في عهد المحبة معه. لذا، انطلاقاً من هذا التفكير، وجواباً على السؤال المطروح أعلاه، يبدو من الواضح أن الإنسان، الذي خرج عن الشراكة بذاته وبإرادته، بات غير كفُءٍ أن يعود إليها بذاته والقيامة بذاته ولوحده بفعل توبة صادقة، واضحة الهدف والغاية. وبناءً على ما وعى قرّر الإبن الأصغر العودة وعزم على الإقرار بخطيئته.
الآية (18-19-20) (أ) “سأقوم وأمضي الى أبي وأقول له خطئت الى السماء وأمامك فما عدت أهلاً لأن أُدعى ابنك فاجعلني كأحد أُجرائك ثم قام وعاد الى أبيه”.
كأن في أساس قراره بالعودة خوفه من الهلاك جوعاً، لا للتعويض عن غياب وغربة خان بهما عهد المحبة مع أبيه، ولا لتضميد جرح أحدثه في قلب أبيه، شطرُه للشراكة. ولما كان لا خلاص له من وضع البؤس والهلاك الوشيك إلاّ العودة، ومروراً بأبيه، جاء إقراره كلاماً حلوّاً أعدّه ليستثير عطف أبيه عليه. بيد أنه جهِل ما هو من أمر المحبة عند أبيه، جهِل ما هو من أمر حب أبيه له. كما راح من ناحية أُخرى، يعكس وضعه على أبيه: فكما نزع عن ذاته صفة البنوّة، في تحوُّله الى أجير، أراد أن ينزع كذلك عن أبيه صفة الأبوَّة، محوِّلاً إياه الى سيد أُجراء.
بهذا ينوِّه المثل عن أن الإنسان يبقى أسير أنانيته وذاتيته غير قادر على الخروج من هذا الأسر إلاّ بالندامة الصادقة والتي هي بالمسيح يسوع، لينفذ الى عمق الشراكة التي تربطه بالرب. يبقى بالتالي غير قادر على القيام بذاته بفعل ارتداد الى الرب. وإلاّ لكان اكتشف أنه بمواقفه، خان عهد المحبة، وتنكّر لعلاقة شخصية. وهكذا يُشير المثل الى أن توبة الإنسان تبقى مشوبة بالنقص، بحاجة الى الكمال.
آية (20) (ب): كان لا يزال بعيداً إذ رآه أبوه… في عودته كما في ذهابه، يبقى الإبن الأصغر بعيداً. سافر الى بلد بعيد، ثم عاد الى أبيه وكان لا يزال بعيداً. إنّ في هذا لدليلاً واضحاً على أن توبة الإنسان تبقى ناقصة، مشبوهة، وبحاجة الى ضمانة. هذا اللاكمال وهذه الضمانة هما في محبة الأب وصفحه. فلقد أحب الأب ابنه، إذ رآه عائداً وهو لا يزال بعيداً: مما يعني أن الأب ما زال يترقّب عودة ابنه وينتظره هذا ما يُكمل توبة الإنسان، الله ينتظر عودة الإنسان، منذ اللحظة التي خرج فيها عن الشراكة. لهي محبة تتابِع، تلاحِق وتحدِّق بالخاطىء في غربته، بل هي تضمن عودته لأن الرب أمين ثابت بوعده. إنها الدعوة والحافز الى العودة. لقد أحب الأب ابنه لأصغر بالصفح الذي التقاه به:…فرقّ له وهرول نحوه. لقد اختصر الأب بنفسه المسافة الفاصلة بينه وبين ابنه. وارتمى على عنقه وقبّله. أعاده إليه وصالحه، قبل أن يتلفّظ الإبن بكلمة من خطاب أعدّه. أما إقراره، فأعقب صفح أبيه عنه غفران الرب يسبق دائماً، وصفحه يشجِّع على التوبة. هذا ولم يردّ الأب بشيء على اعتراف ابنه الأصغر فما عدتُ أهلاً لأن أُدعى ابنك “الإبن يقول الحقيقة” بل اكتفى بإعطاء الأوامر لعبيده من أجل تهيئة العيد أحب الأب ابنه إذ خلقه من جديد. التوبة بما فيها من بادرة الله وتجاوب الإنسان، هي خلق جديد. مُعيداً إليه وضع البنوّة، نتبيّن ذلك من خلال الرموز:
آية (22): وضعوا خاتماً في يده…: الحلّة الأولى، وضعٌ جديد من خلال رمزية اللباس الأب أعاد الوضع للإبن وضع البنوّة. الخاتم عهد جديد كل إنسان يضلّ عودته مضمونة بالإنسان الكامل يسوع المسيح، هو الكفالة. الخُفَّان، مسيرة حياة جديدة. الوليمة، شراكة مع الأب، عيد وفرح وجود الإنسان يُفهم فقط بحياة الشراكة مع الله “ومع إخوته البشر”، خارج هذه الشراكة فالإنسان ولو كان طيِّباً فهو ميتاً. أما في شأن الإحتفال والفرح الكبيرين، فمن الواضح أنه لن يُبحث في الدوافع التي اقتادت الإبن الأصغر الى البيت، ولا في صدق توبته التي هي موضع شك. الدافع كل الدافع الى هذا الإحتفال والفرح الكبيرين، كما الى عودة الإبن الأصغر، يكمن في محبة الأب اللامحدودة. مما يعني أن محبة الرب لم ترفض الإنسان الذي ابتعد، لن تتخلّى عنه ولا تُهمله، بل هي دعوة أبدية، دائمة وملحّة إلحاح المحبة، تضمن عودة الإنسان وتكمِّلها. مما يعني أيضاً أن عهد الحب عند الرب لن يتزعزع حتى في حال تنكُّر الإنسان لهذا العهد وخيانته. فالرب معنيٌّ بـ خروج الإنسان عن محور الشراكة، معنيٌّ أيضاً بعودته إليه، معنيٌّ بخلاصه. وليس من خلاص آخر، غير الذي بيسوع المسيح والذي نجده في كنيسته. هذا عن الإبن الأصغر.
أما بالنسبة الى الإبن الأكبر (لو15/25-32): فشخصيته ومواقفه، جميعها ترمز الى فئة أخرى من البشر في مواقفها من البشر في مواقفها للرب ومحبته للإنسان.
الآية (25): كان الإبن الأكبر يعمل في الحقل. فلما عاد واقترب من البيت، وعلم سبب الإحتفال غضِب وأبى الدخول. إزاء هذا الغضب.
آية (28) (ب): وخرج أبوه يتوسَّل إليه أحبه أبوه إذ خرج إليه تماماً كما هرول نحو الإبن الأصغر، يتوسّل إليه ليدخل ويشارك في الإحتفال بعودة أخيه.
الآية (29): فقال: لي سنوات وأنا عبد لك… بدأ يؤنِّب أباه، معتبراً ذاته عبداً له ما عصيت لك مرّة أمراً دخل معه في حساب، ثم اتهم أباه بالظلم وعدم المساواة بينه وبين أخيه.
الآية (29-30): ولم تُعطني يوماً جدياً. وهذا ابنك العائد أنكر على أبيه أُبوَّته له، فما دعاه أبداً أبتي، كما أنكر على أخيه أُخوّته له، إذ قال لأبيه وهذا ابنك لم يسمِّه أخي أحب الأب ابنه هذا إذ أصغى الى كلامه القاسي حتى النهاية، لم يقاطعه، أحبه إذ أكّد بنوَّته له.
الآية (31): أنت ولدي بالرغم من رفض الإبن الأكبر البنوّة، ومن الكلام القاسي الذي وجهه إليه، أكّد الأب أخوّة ابنه هذا لأخيه لأخيه الأصغر.
الآية (32): أما أخوك هذا. وأخيراً أحبه إذ حاول أن يحسِّسه بالشراكة التي بينهما
(الآية31) ولك كل ما هو لي وعبثاً حاول الأب أن يشرح له مبرِّراً الإحتفال بعودة أخيه. يُعتبر الإبن الأكبر في البيت، لكنه في الحقيقة والواقع خارجه وخارج الشراكة كلياً.
في النهاية: ليس لهذا الأب ابن لم تستطع البشرية أن تكون على مستوى البنوّة للآب. لا هذا ولا ذاك من الإثنين هو ابن لهذا الأب. كلا الإثنين لم يحسن التعامل مع محبة الأب لم يكونا على مستواها:
فالإبن الأصغر خرج على هذه المحبة ابتعد عنها وخانها. أما عودته إليها، فبقيت ناقصة مشبوهة الدوافع، بحاجة الى تكملة وضمانة.
والإبن الأكبر من جهته المعتبَر من البيت تبيّن أنه بعيد عنه خارج الشراكة كلِّياً. يتعامل مع أبيه بذهنية العبدو المستخدَم فخلاصة الكلام: لم تقدر البشرية على تلبية الدعوة التي وُجدت من أجلها: الشراكة مع الرب. وهنا أيضاً خلاصة المثل كاملة: يسوع المسيح، الكلمة المتجسِّد، هو وحده الإبن لهذا الأب. إنه على السواء محبة الله الآب للإنسان، وجواب الإنسانية الكامل من هذه المحبة. إنه مُلتقى دعوة الله للإنسان الى العهد بالمحبة، وتلبية هذه الدعوة باسم البشرية جمعاء، بالطاعة والأمانة الكاملتين لله الآب. به وفيه عودة الإنسان الى الشراكة مع الآب السماوي، وبه نصير أبناء للآب. فهو الأخ البكر لإخوة كثيرين.