الكتاب المقدس
في أعمال القديس يوحنا الدمشقي
معروفٌ أن القديس يوحنا الدمشقي كتب أعمالاً ذات محتوى متنوع. كتَبَ أعمالاً عقائدية، دفاعية، سير قديسين، أخلاقيات، ضد الهرطقات، شعرية، مواعظ، تفسيرية. هو الجامع للتقليد الأرثوذكسي، ويعتبر أن قاعدته الأساسية هي الكتاب المقدس. كامل عمل القديس يوحنا الدمشقي يمكن اعتباره نوعاً من تفسير بالمعنى المحدَّد للمصطلح كما بالمعنى الواسع له. أي هو تفسير وتقديم للمسيح الواقعي (الموجود بالفعل). بشكل عام، آباء الكنيسة، إن كانوا آباء للاهوت العقائدي، أو مدافعين، أو مفسرين، هم أولاً آباء كتابيين، لأن نقطة البدء والموجّه لهم هو الكتاب المقدس.
القديس يوحنا الدمشقي ليس معروفاً كمفسِّر للكتاب المقدس بقدر ما هو لاهوتي عقائدي، طالما أن أحد أهم أعماله “ينبوع المعرفة” والذي يتألف من ثلاث أقسام: الفصول الفلسفية، حول الهرطقات، والعرض الدقيق للإيمان الأرثوذكسي، هو عمل عقائدي. نفس الشيء في عمله “إلى من يرفضون الأيقونات المقدسة” والذي يتألف من ثلاث مقالات دفاعية مطولة ذات محتوى عقائدي ضد محاربي الأيقونات. مع هذا فالقديس كتب أعمالاً أخرى عديدة متنوعة المحتوى
في هذين العملين المذكورين، المقاطع الكتابية هي ضعف الشواهد الآبائية. هذا يعني أن وجهات نظره العقائدية تستند على مقاطع من الكتاب المقدس التي يفسِّرها، يحلِّلها، ينمّيها ويوسِّعها.
في هذا العرض المختصر سوف نبيّن:
-
نظرة القديس يوحنا الدمشقي إلى الكتاب المقدس
-
كيف يستعمل هو نفسه الكتاب المقدس
الفصل التسعون من كتابه “عرض دقيق للإيمان الأرثوذكسي“ يحمل العنوان “Περί Γραφῆς” “حول الكتاب”. فيه يعرض الدمشقي وجهة نظره حول ما هو الكتاب وما هي قيمته وقيمة استعماله، مستعملاً مقاطع من الكتاب نفسه
مستنداً بدايةً على قول الرب يسوع: “ما جئت لأبطل بل لأكمل” (متى 17:5) يستخلص أن الله هو واحد، يُكرَز به ويُسبَّح ويُمجَّد كثالوثي في العهدين القديم والجديد، أي في كل الكتاب المقدس. نفس النتيجة يستقيها من المقطع (يوحنا 39:5): “تتصفحون الكتب
تظنون أن لكم فيها الحياة الأبدية فهي التي تشهد لي”, كما في المقطع (عبرانيين 1:1-2) “إن الله بعدما كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مرات كثيرة بوجوه كثيرة، كلَّمنا في آخر الأيام هذه بابن جعله وارثاً لكل شيء وبه أنشأ العالمين”. أي حسب تفسير القديس: “من خلال الروح القدس تكلّم كلٌّ من الناموس والأنبياء، الإنجيليين والرسل، الرعاة والمعلّمين، حول الإله الثالوثي”
يعتبر أن مطالعة الكتاب المقدس هي “عمل الإنسان الأفضل والأكثر فائدة للنفس” وذلك وفقاً للمقطع (2 تيم 16:3) “كل ما كتب هو وحي الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البر” حيث يقول: “عندما تُسقى نفس الإنسان من الكتاب المقدس، تعطي ثمراً ناضجاً، أي الإيمان المستقيم والأعمال المرضية لله، وعندها تكون مثل شجرة مغروسة على مجاري المياه ومزينة دوماً بالأزهار وبالأوراق الدائمة الاخضرار”. في الكتاب المقدس توجد نصائح وتشجيعات لكل الفضائل. هكذا، “نسير نحو العمل الفضيل والنظر الصافي من خلال الكتب المقدسة”، أي أنها تقود البشر نحو العمل بالفضائل ونحو الرؤية الصافية (غير المشوَّشة)، ويقول “إذا كنا محبيّن للتعلّم، سوف نصبح غزيري العلم”، وكل شيء يتم “بالاجتهاد والتعب وبالطبع بنعمة المعطي النعمة”، لأن من يسأل يعطى ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له (متى 8:7)”
من خلال المقطع السابق من إنجيل متى، يحرّض الجميع بلغة جميلة وبأمثلة من الحياة اليومية “أن يقرعوا باب الكتب المقدسة” لأنه فيها فقط يستطيع أحد أن يجد “الفردوس الأبهى الذكي الرائحة، الفائق العذوبة، الجزيل الجمال، والمطرب آذاننا بمختلف أنغام طيوره العقلية المتوشحة بالله، النافذ إلى قلبنا، فيعزّيه في حزنه ويريحه في غضبه ويملأه فرحاً لا يزول”. يقول أن فردوس الكتاب يهذّب فكرنا ويرفعه “على متن الحمامة الإلهية المذهَّب والبرّاق بجناحيها الساطعي الضياء سيراً إلى الابن الوحيد وارث زرع الكرم العقلي، وبه نبلغ إلى الآب أبي الأنوار”.
ولكن يقول أيضاً أننا يجب أن نقرع هذا الباب “بدون تباطؤ ولكن بلجاجة وبغيرة كبيرة وثبات وصبر، ولا نتوقف عن القرع وهكذا يُفتَح لنا”. يقول كل هذا لكي يعطي تأكيداً على قراءة الكتاب المقدس ذاته، والذي عنه يتكلم باستمرار. يكتب ما يلي: “إذا قرأنا الكتاب مرة ومرتين ولم نفهم ما نقرأه، فلا نفقد شجاعتنا، بل فلنجتهد ونعيد القراءة مرات عديدة، ولنسأل”. هذا يسنده إلى المقطع من سفر تثنية الاشتراع (7:32): “سل أباك يخبرك وشيوخك يحدّثوك” لأن “ليست المعرفة لجميع الناس” (1كور 7:8)
بعد هذه الأقوال يعود أيضاً إلى صورة الفردوس فيقول: “فلنستقي من هذا ينبوع هذا الفردوس مياهاً جارية صافية تنبع إلى الحياة الأبدية ولا نرتو من التنعّم لأن النعمة لا حد ولا نهاية لها”. القديس يوحنا الدمشقي لا يرفض أن نقرأ، بالتوازي مع نصوص الكتاب المقدس، نصوصاً من خارج الكتاب، ولكن بشرط “ألا تكون ممنوعة وأن يكون فيها شيء ما نافع وجيد”. يكتب فيما يتعلق بهذا “إذا استطعنا أن نجني فائدة مما في خارج هذه الكتب فليس ذلك من المحظور. ولنكن في ذلك صيارفة حاذقين نحتفظ لنا بالذهب المعروف والصافي ونرمي منه ما كان مغشوشاً. لنأخذنَّ من الكلام أجوده ونلق إلى الكلاب آلهتهم الهزيلة وخرافاتهم الغريبة. فإننا نستطيع أن نقتني منها قوة ضدهم”
يجب التركيز أن أقوال الدمشقي حول أهمية الكتاب وأهمية دراسته، تستند على القديس يوحنا الذهبي الفم، الذي يشدّد أكثر من جميع الآباء على أهمية ونفع قراءة ودراسة الكتاب المقدس ذاته، وأيضاً الطريقة التي بواسطتها يمكننا أن نعي ونفهم هذه القراءة. الذهبي الفم بدوره يتكلم عن القراءة المستمرة والمنتبهة للكتاب، والذي بدوره يصفه بأنه “فردوس النعيم، الذي لم يغرسه الله في الأرض بل في نفوس كل الذين يؤمنون”، وأيضاً الإرشادات التي يعطيها الدمشقي من أجل فهم الكتاب من قبل القارئين توجد نفسها عند القديس يوحنا الذهبي الفم. هذا الأمر (الاقتباس من الذهبي الفم) يبدو متوافقاً مع المبدأ الذي يتّبعه الدمشقي في كتاباته كلها والذي يلخصه بما يلي: “من نفسي لا أقول شيئاً، وقد جمعت قدر المستطاع ما تيسّر لي من منتخبات المعلّمين، وأجعل كلامي مقتضباً”. ولكن هذا القول لا يعني أن الدمشقي يكتفي بأن يضع باختصار وجهات نظر الآخرين، بل كما يبدو واضحاً من أعماله، أنه يتبع دوماً الخط الآبائي
وجهات النظر حول الكتاب المقدس يوردها القديس الدمشقي أيضاً في عمله “المتوازيات المقدسة”. هذا العمل هو عبارة عن مجموعة من المقاطع الكتابية المرتَّبة حسب المواضيع وبالترتيب الهجائي، ومع هذه المقاطع تندمج مقاطع من آباء الكنيسة الكبار. نحن أمام دراسة للكتاب المقدس في غاية الأهمية والنفع، والتي في مقدمتها يكرّر القديس الدمشقي ما قاله في “العرض الدقيق للإيمان الأرثوذكسي” حول قراءة الكتاب المقدس بذاته. يتكلم حول التمرّن على “الكتاب الموحى من الله” أي حول القراءة المستمرة والمتكررة للكتاب. يقول “هي أهم من الغنى ومن المجد ومن السلطة وتمنحنا الخلاص”.
بعد هذا العرض المختصر لوجهة نظر القديس يوحنا الدمشقي حول الكتاب المقدس، سنحاول أن نوضح كيف يستعمله في كتاباته.
قلنا في بداية المقال أن القديس الدمشقي انشغل أيضاً في تفسير الكتاب المقدس. كتب ملاحظات على رسائل الرسول بولس ولكنها أخذت حيّزاً قليلاً في كتاباته، الأمر الذي يضعنا أمام تفسير مختصر جداً لهذه الرسائل، حيث يختار مقاطع محددة ويعرض تفسيره عن القليل منها وعادة ما يوصل هذه المقاطع ببعضها بواسطة عبارات أو جمل مختصرة. تفاسيره قليلة ومختارة وتستند على تفاسير القديس يوحنا الذهبي الفم. لا ينسخ قمة المفسرين هذا (الذهبي الفم)، ولو أن عنوان العمل هو التالي “مقاطع مختارة من التفسير الجامع للذهبي الفم”. يعطي وجهات نظره باختصار، ووجهات النظر هذه هي خاصة به خصوصاً في المواضع العقائدية. مثال لافت للنظر هو المقطع (فيل 6:2-11) “فمع أنه في صورة الله لم يعدّ مساواته لله غنيمة بل تجرّد من ذاته متخّذاً صورة العبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله إلى العلى ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء كيما تجثو لاسم يسوع كل ركبة مما في السموات وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيداً لله الآب”. الذهبي الفم يتكلم حول هذه الفقرة بتفسير تحليلي مطول. على العكس من ذلك، الدمشقي يضع بسطور قليلة الفقرات التي يراها ضرورية. هكذا بينما الذهبي الفم يتكلم بتطويل، بين مواضيع أخرى، عن تواضع المسيح وعن التواضع بشكل عام، الدمشقي يكتب: “هذا القول كان عن التواضع، ولو أنه يظهر من خلال العقائد”، ويكمل كالتالي “وانتبه كم هي دقة العقيدة”. مباشرةً بعد هذا يعرض النقاط العقائدية في المقطع. هو إذاً يركزّ اهتمامه على تفسير المقطع العقائدي
يستعمل المقطع نفسه ومقاطع أخرى باستمرار في أعماله مشدّداً على أهميتها العقائدية. عادة عندما يفسّر الرسائل البولسية، يختار المقاطع ذات المحتوى العقائدي أو يفضل أن يورد تفسيرها العقائدي.
نجد بشكل متكرر استعمال الكتاب المقدس في أعمال الدمشقي، العقائدية منها وغيرها، ولكن بشكل أساسي نجد استعمال الكتاب المقدس في أعماله الدفاعية والتي هي ذات طابع عقائدي. قديسنا عاش في عصر شدة الصراع بين رافضي ومؤيدي الأيقونات، وإذ شاهد خطر دمار الكنيسة التي يصفها أن “الله أسسها على أساس الرسل والأنبياء والتي حجر الزاوية فيها هو المسيح ابنه”، يرى أنه “واجب عليه أن لا يمنع لسانه عن الكلام أو أن يصمت” كما يقول. هكذا فإن أقواله التي يقولها دون أن يخاف سلطة الأقوياء، يؤسسها على الكتاب المقدس. أحد الأمثلة هو المقطع من النبي حبقوق (4:2) الذي يقول: “النفس غير المستقيمة غير أمينة، أما البار فبالإيمان يحيا” أي أنك إذا تخاذلت فلا تسرُّ بك نفسي. مقطع آخر مرتبط به من النبي حزقيال (6:33) والذي يستعمله الدمشقي والذي يقول:” إذا رأى الرقيب السيف آتياً ولم ينفخ في البوق ولم ينذر الشعب، فأتى السيف وأخذ نفساً منهم، فتلك تكون قد أخذت في إثمها، لكني من يد الرقيب أطلب دمها. ” والمقطع من المزامير “وأنطق بشهاداتك أمام الملوك ولا أخزى” (مز 46:118). المقطع الأخير يستعمله الدمشقي لكي يلمِّح إلى أوامر الإمبراطور التي تساند محاربي الأيقونات ولكي يقول أنه هو نفسه يخالف تصرف الإمبراطور هذا، لأنه يعرف أن الملك الأرضي يُحكّم من الله وأن الشرائع هي أقوى من الملوك
في الصراعات بين مؤيدي الأيقونات ومعارضيها والتي استمرت لفترة طويلة من الزمن، كلا الطرفين حاول أن يدعم وجهة نظره ببراهين من الكتاب المقدس. محاربي الأيقونات مثلاً كانوا يستندون على كثير من المقاطع الكتابية مثل (خروج 4:20): “لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيءٍ مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من أسفل… لا تسجد لها ولا تعبدها” وعلى المزمور: “ليخزى جميع عبّاد المنحوت المفتخرين بالأوثان” (مز 7:96) وغيرها. الدمشقي يقابلها ببراهين دامغة يستقيها بدوره من الكتاب المقدس.
يبدأ دفاعه الأول حول الأيقونات المقدسة بالبراهين الكتابية الأساسية لمحاربي الأيقونات. يكتب ما يلي:”عرفت من قال وهو غير كاذب”الرب إلهك إله واحد” و”للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” و” لا تصنع لك منحوتاً لا مما في السماء أعلى ولا مما على الأرض أسفل… لا تسجد لها ولا تعبدها” “ليخزى جميع عابدي المنحوتات المفتخرين بالأوثان” و”الآلهة التي لم تصنع السماء والأرض تزول وتفنى” أي أن يسرد سلسلة من الأقوال الكتابية من العهد القديم، من تثنية الاشتراع، من المزامير ومن النبي أرميا، والتي عليها يستند محاربو الأيقونات في وجهات نظرهم، ويكمل بالمقابل بمقاطع من العهد الجديد قائلاً: “إن الله بعدما كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مرات كثيرة بوجوه كثيرة، كلَّمنا في آخر الأيام هذه بابن جعله وارثاً لكل شيء وبه أنشأ العالمين”، عرفت القائل “الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح”. على أساس هذه المقاطع من الرسالة إلى العبرانيين (1:1-2) ومن إنجيل يوحنا (3:17) وأيضاً المقطعين من الرسالة إلى أهل رومية (25:1) ورسالة الرسول بطرس الثانية (4:1)، يعرض اعترافاً إيمانياً بالشكل التالي: “أؤمن بإله واحد، مبدأ الجميع، لا بداية له، غير مخلوق… غير مائت، أبدي، غير مدرك، غير موصوف، غير متحول، غير جسدي، غير منظور، جوهر واحد فائق الطبيعة، ألوهية فائقة اللاهوت، مثلث الأقانيم، آبٍ وابنٍ وروحٍ قدسٍ وإياه وحده أعبد وله وحده أقدّم السجود العبادي… لا أسجد للخليقة دون الخالق، ولكني أسجد للخالق الذي خلقني كما أنا، والذي انحدر نحو خليقته دونما إذلال أو تقهقر للاهوته لكي يمجد طبيعتي ويجعلها شريكة للطبيعة الإلهية”. في موضع آخر من نفس الدفاع يقول:”لا أسجد للمادة، إنما أسجد لصانع المادة الصائر مادة لأجلي وارتضى أن يعيش في المادة ليصنع خلاصي بواسطة المادة، ولا أكفّ عن احترام المادة التي بواسطتها صُنِعَ خلاصي”.
أحد أهم البراهين وأقواها عند الدمشقي ضد محاربي الأيقونات يستقيه من الرسالة إلى العبرانيين (1:1). يريد أن يشدّد على الواقع أن الله في الأزمنة القديمة تكلم بالأنبياء لآبائنا بطرق مختلفة ومتنوعة. هذا التنوع والاختلاف، يفسره الدمشقي أنه “كما أن الطبيب الحاذق لا يعطي نفس نوع العلاج للجميع، ولكن لكل واحد يمنح ما يلائمه ويقدم الدواء بتمييز حسب المكان والمرض والساعة، وحسب الحالة والسن. للرضّع يقدم شيئاً، وللبالغين غيره، للمريض شيئاً وللصحيح شيئاً غيره… “. بهذا كله يريد القديس أن يقول أن أقوال الله في الكتاب تخاطب “هؤلاء الأولاد المعذَّبين بمرض عبادة الأوثان، والذين اعتبروا الأصنام آلهة وسجدوا لها كما لآلهة رافضين السجود لله ومطابقين مجده بالخليقة”. هكذا، بحسب الدمشقي، فالمقاطع التي يستعملها محاربو الأيقونات ليس لها سيادة عبر الأزمان، ولكنها تشير إلى فترة معينة مرتبطة بها ولها علاقة بما كان باستطاعة أناس تلك الفترة أن يفهموا ويعوا. أي أن هدف الكتاب من هذه المقاطع المذكورة أعلاه هو أن يمنع الإسرائيليين الذي كانوا ينـزلقون بسهولة نحو عبادة الأوثان، لكي لا يعبدوا ما يدعوه العهد الجديد “الخليقة دون الخالق”. الشيء نفسه نستخلصه من المقاطع الأخرى من العهد القديم مثل (تثنية 19:4) “وكيلا ترفع عينيك إلى السماء فترى الشمس والقمر والكواكب، جميع قوات السماء، مما جعله الرب إلهك نصيباً لجميع الشعوب التي تحت السماء فتُجتَذَب وتسجد لها وتعبدها”، وأيضاً (تثنية 7:5) “لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي” وغيرها. من خلال هذه كلها يدعو محاربي الأيقونات لكي يفهموا الكتب جيداً وأن لا يلتصقوا بالحرف لأنه حسب الرسول بولس “لأن الحرف يميت والروح يحيي” (2 كور 6:3)
القديس يوحنا الدمشقي يدعم أن الكتاب لا يمنع السجود لمصنوعات الأيدي غير الناطقة. يكتب بهذا الصدد: “إقبل مجموع أدلة الكتاب والآباء، لأنه حتى ولو قال الكتاب “أوثان الأمم فضة وذهب صنع أيدي البشر” (مز 12:133) فهو لا يمنع مع ذلك أن توقّر الأشياء المحسوسة الجامدة والمصنوعات اليدوية، بل صور الشياطين”
الدمشقي يعتبر أن المادة حسنة ويقول: “تجعل المادة شريرة وتدعوها غير مكرَّمة؟ هكذا يفعل المانيون. ولكن الكتاب المقدس يدعوها حسنة ويكرز قائلاً “ونظر الله إلى كل ما صنعه وكان حسناً جداً” (تكوين 31:1). أنا إذاً أعترف أن المادة هي صنع الله وأنها حسنة، أما أنت فتدعوها شريرة، فإما أن تعترف أنها ليست من الله أو أنك تجعل الله سبب الشرور”. يبدو أن محاربي الأيقونات يساندون الرأي المعاكس تماماً لهذا الرأي
بواسطة المقاطع الكتابية يؤسس القديس رسم الأيقونات والسجود لرسم المسيح، لعجائبه ولآلامه، وأيضاً لرسم أيقونات القديسين. يستعمل المقطع (يوحنا 23:5) “فمن لم يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله“، لكي يقول أن “من لا يكرّم الأيقونة لا يكرّم المرسوم فيها”. على حجج محاربي الأيقونات أن “تكريم أيقونة المسيح هو شيء مسموح وضروري، ولكن هذا لا يسري على أيقونات القديسين” يجيب القديس بقول الرب يسوع (متى 40:10): “من قبلكم فقد قبلني“. هذا يعني أن من لا يكرّم القديسين فإنه لا يكرّم الرب نفسه
في دفاعه الأول عن الأيقونات يشير إلى الموضوع نفسه بطريقة مختلفة، حيث يقول: “ويقال: “إصنع صورة المسيح أصورة والدته والدة الإله واكتف بها”. يا للسخافة! إنك تقرّ تماماً أنك عدو للقديسين. فإذا ما صنعت صورة للمسيح ولم تصنع البتة صورة القديسين، فجليّ أن ما تحرِّمه ليس هو الصورة بل هو الإكرام المؤدى للقديسين، وهذا ما لم يجرؤ أحد منذ الدهور على فعله أو تعهّده بوقاحة مماثلة. إذ إنك تصنع صورة المسيح لأنه ممجّد، أما تصوير القديسين فتنبذه باشمئزاز لأنهم محرومون من المجد بلا ريب حسب رأيك، وتحاول أن تظهر هكذا بأن الحقيقة إنما هي أكذوبة”
السجود للمسيح يقارنه بالسجود لكتاب الناموس أي للكتاب المقدس. يكتب بهذا الخصوص: “وكما تفعل أنت ساجداً لكتاب الناموس، لست تسجد بسبب طبيعة الجلد والحبر وإنما لأقوال الله الموجودة فيه، هكذا أنا أيضاً أسجد لأيقونة المسيح ليس بسبب طبيعة الخشب أو الألوان، حاشا، ولكن للمسيح المصور بواسطة الأشياء غير الناطقة، وأؤمن أني ماسكٌ المسيحَ وساجدٌ له“
السجود لأيقونة المسيح يؤسسه على القول الموجود في (متى 17:22-21) و(لوقا 21:20-24) والذي فيه يجيب على السؤال حول واجب إعطاء الجزية للإمبراطور. في جواب المسيح مع إظهار العملة: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله“ الدمشقي يجد برهاناً قوياً على واجب تقديم الإكرام لصورة المسيح
كثيرة هي المقاطع من الكتاب المقدس التي يستعملها القديس يوحنا الدمشقي في أقواله في الدفاع عن الأيقونات المقدسة. هذا العرض الذي قمنا به لكي نبين مدى حجم واتساع استعمال الكتاب في أعمال الدمشقي هو نوع من مثال فقط ولا يعني أننا اخترنا أهم الأمثلة عن استعمال الدمشقي للكتاب، لأنها كلها لها نفس الأهمية. القارئ لأعمال القديس يتحقق أن مخزن أسلحة القديس هو الكتاب المقدس، الذي يستعمل آياته إما لكي يجابه تعاليم الهرطقات أو لكي يفسّر، أو لكي يوسّع ويؤسس حقائق الإيمان الأرثوذكسي القويم. القارئ المتعمّق لهذه الأعمال يتحقّق، ليس فقط من استعمال القديس بغزارة للمقاطع الكتابية ولكن من أن نصوص كتابات القديس نفسها مرتوية ومشبعة من لغة ومن مصطلحات الكتاب المقدس. كمفسّرٍ للكتاب، بالمعنى الواسع للكلمة، يتبع المنهج النقدي – التاريخي والعقائدي. حقاً يعتبر اللاهوتي العقائدي الأول لكنيستنا. كلامه واضح، مفهوم وقاطع. ملاحظاته مصيبة، براهينه تجرّد الآخر من سلاحه. بمقدار ما يدرسه الواحد منا، هكذا يستطيع بالأكثر أن يفهم عظمة الأرثوذكسية.
للأستاذ يوحنا غالاني (كلية اللاهوت – جامعة تسالونيك)
عربه عن اليونانية الأرشمندريت دمسكينوس الكعدة