القيم الاجتماعية والتشريع…
توطئة
لم تعان المدنية الحديثة في عصر من عصورها ازمة جانحة عنيفة كهذه التي تعانيها اليوم، وأغلب الظن لدى من تقرى اصولها واكتنه اسبابها انها في جوهرها ازمة قيم.
فلقد اطاحت أعاصير الحربين العالميتين، والحرب الباردة التالية، وسقوط احد المعسكرين العالميين الرئيسين الاتحاد السوفيتي وتفككه مع كل المنظومة الشيوعية، والازمات المشتعلة اللاحقة في كل مناطق العالم، وتفكك دول كبرى كالاتحاد اليوغوسلافي، ونشوء دول متعادية كانت منضوية في هكذا دول جامعة، وخاضت حروبا خطيرة فيما بينها غذتها الايديولوجيات الدينية والمذهبية والعرقية… وقد صارت بؤراً دائمة للتوتر كالشرق الأوسط، فدوماً فتيل الازمات ملتهب، يشعل فيها حرائق لاتبقي ولا تذر، وتقضي على الاخضر واليابس، كما في مادعي بمصطلح “الربيع العربي” المعد في اروقة السياسة العالمية والصهيونية، وحريق دول الشرق الاوسط بنتيجة هذا الربيع المزعوم امثال العراق وسورية وليبيا واليمن ولبنان ومصر والسودان والصومال… وكلها عواصف تكفيرية، مليئة بالطائفية والمذهبية المدمرة، وفعلاً كانت كوارثها اكبر من تحتملها دول عظمى، فما بالنا بدول ضعيفة محدودة الموارد عانت، ولا تزال، من الخطاب التحريضي الديني، اطاحت هذه الازمات المدمرة بالسلام الداخلي فيها وبتوازن مجتمعاتها، وزجت في ميدان الصراع التاريخي بأشكاله الدينية والمذهبية والعرقية بكتل فعالة منظمة من الجماهير والاحزاب، تصدعت امام حاجاتها ورغائبها وانطلاق امكانياتها أسس الكيانات الاجتماعية، واسوار انظمة الحكم، وافسحت لها في صدرها منزلاً رحباً. ومن البديهي ان يرافق هذا الانقلاب في توازن القوى الفاعلة في سير التاريخ انقلاب في الاوضاع الاجتماعية، وان يحاول انسان اليوم، وهو وليد هذه الثورة الانسانية العميقة الشاملة، إقامة العلائق الاجتماعية على اسس تنسجم وجدول القيم الجديد، بعد ان انهارت في عينيه قيم الأمس، وتبدلت مفاهيم السلوكين العقلي والخلقي معاً.
والتشريع هو الضابط الاجتماعي الأول، الناظم علاقات الفرد بالفرد من جهة، وعلاقات الفرد بالمجتمع من جهة أخرى، سواء اكان المجتمع قد بلغ في مراحل نشوئه ونموه شكل الأسرة، وهي الخلية الاجتماعية الاولى، او شكل العشيرة او المدينة أو الدولة او ما وراءها. ومن الطبيعي ان يتم التشريع عن وقائع الحياة الاجتماعية في اتجاهاتها المتولدة المتحركة الدائبة، وعن توازن القوى والمصالح فيها وان يتلمس صياغة الحلول السلمية العادلة للتناقضات التي يحملها النظام الاجتماعي في صلبه.
والتشريع، كسائر العلوم الاجتماعية، يرتكز على وقائع الحياة الاجتماعية وفعاليات الأفراد والجماعات وادراك قواعدها ورسم معطياتها، واكتناه قواها، وايجاد الصيغ العاجلة لخلق التوازن بينها، فالتشريع من هذه الناحية علم كسائر العلوم، يخضع في ولادته ونموه وانقراضه للقواعد الحياتية. واقول: “انقراضه” وذلك لأن القوانين تفنى بفناء المؤسسات الاجتماعية التي تعبر عنها وتصونها.
وكما تخلق الوظيفة العامة العضو في الحقل الحياتي، كذلك تخلق المؤسسة في الحقل الاجتماعي، وتحافظ عليه بالتشريع، حتى اذا ماتداعت الوظيفة الاجتماعية، تداعت المؤسسة، ومن ورائها نظامها الحقوقي.
بيد ان التشريع ليس علماً فحسب قوامه التجربة والملاحظة وتقرير قواعد العلاقات الاجتماعية الراهنة، ولكنه فن ايضاً، يهدف من حيث الأساس، الى تلبية مقتضيات النظام الاجتماعي في سيره نحو تحقيق مبادىء العدالة، كما يهدف من حيث الشكل الى هندسة الصيغ المثلى للتعبير عن هذه العدالة.
ان التشريع يجمع من معطيات الحياة الاجتماعية المواد الأولية ليشيد بها للعدالة صرحها.
وهذه المواد الأولية: إما أن تكون اقتصادية يُعبر عنها بالمصالح، وإما دينية خلقية يعبر عنها بالتقاليد والأعراف والعقائد، واما سياسية اجتماعية يعبر عنها بالمذاهب.
فالمصالح والتقاليد والعقائد والمذاهب هي العناصر الرئيسة التي ينبغي على التشريع ان يحل محلها من التقدير والاعتبار عند تنظيم العلائق الحقوقية.
واذا كانت مقتضيات العدالة تستلزم انتقاداً وانقضاضاً على واقع اجتماعي ظالم يحميه التشريع القائم، فعلى المشترع ان يعرف ماهي القوى الاجتماعية المعاكسة التي تفيد من بقاء هذا الواقع الاجتماعي والتي تبذل جهدها للاحتفاظ به والاستمرار فيه ولذا فالتشريع ينطوي على قوتين متصارعتين:
– قوة سكون واستقرار وجمود ومحافظة تدعو الى إقامة نظام حقوقي ثابت متين والى دعم النظام الاجتماعي الراهن وإقراره وإلباسه لباس المشروعي وحمايته من عبث العابثين.
– وقوة حركة وتطور وتقدم تستلزمها تقلبات الحياة الاجتماعية وتحولات علاقات الأفراد ورغائبهم وحاجاتهم. وهذه القوة المتحركة المولدة ترمي الى بلوغ مثل أعلى في العدل.
والعدل ليس واقعاً يمكن تدوينه في صلب قالب معين، ولكنه مثلٌ أعلى يجهد المشترع نفسه لبلوغه وتحقيقه عند تحديد العلائق الاجتماعية، وتعيين قواعد سلوك الأفراد والجماعات.
فالاستقرار، او الأمان الحقوقي كما يسميه بعضهم، هو إذن اول القيم الاجتماعية التي يهدف التشريع الى تحقيقها في المجتمع منذ ان كان التشريع وكان المجتمع…
إنه قوام الحياة الاجتماعية وشريطة لازمة من شرائط وجودها واستمرارها، بل هو الركيزة الكبرى لانطلاق الفعاليات الفردية والجماعية وانصرافها الى الأخذ بأسباب السعي لكسب السعادة والى الانشاء والانتاج والتقدم. الأمان الحقوقي هو اشاعة الاحساس بالأمن بين الناس، هو ايمان الفرد بالتحرر من الخوف وشعوره بالاطمئنان الى يومه وغده، هو يقينه بأنه سيدَ قَدَّره وانه لا يضار في سلامة شخصه ولا في حريته ولا في ثروته ولا في كرامته، لأن جميع هذه المقدسات والحرمات هي في ذمة النظام الحقوقي وفي حمى القانون. الأمان الحقوقي – بكلمة موجزة – هو توطيد دعائم السلم والنظام والأمن والاستقرار في المجتمع.
ويكتسب التشريع هذه الفضيلة الكبرى، فضيلة الأمان الحقوقي والاستقرار الاجتماعي بالوضوح والدقة والسهولة والانسجام، فليس أدعى الى قلق المواطن واغتمامه، ولا أقرب الى تعسف الحاكمين من غموض القوانين وتعقيدها وتشعبها وهلهلتها واضطرابها، ومن شرائط حصول الطمأنينة أن يشعر المواطن بأن التشريع القائم إنما هو تعبير عن رغائبه وحاجاته، ولا سبيل الى غرس هذا الشعور الا اذا اقتنع بأن القوانين إنما تصدرها السلطة صاحبة حق التشريع، وانها تصدرها بوحي من نفسها لا بوحي من غيرها، وأنها تسن قواعدها مستلهمة وجدانها الحقوقي كسلطة آمرة مسؤولة لا تستلهم افراداً او جماعات غير مسؤولين، وانها لاترمي من ورائها الى حماية مصالح فئة او ايذاء مصالح فئة اخرى. فليس ثمة أدعى الى انهيار النظام الحقوقي وضياع حرمته من النفوس من ارتياب المواطنين في مشروعية السلطة التي تصدر عنها القوانين والأنظمة والقرارات وشكهم في سلامة وجدانها الحقوقي.
وقد تقتضي سلامة الأمة وحماية مصالحها العليا في العهود الانقلابية او الثورية، عندما يتمخض المجتمع عن نظام حقوقي جديد، يعبر عن قيم جديدة ووقائع اجتماعية جديدة، ولكن من الخير كل الخير لمثل هذا المجتمع وافراده أن لايطول امد المخاض، وان يعجل بخلق الصيغ الجديدة لتوازن القوى الاجتماعية وتنسيق مصالح الأفراد والجماعات، وسن القواعد لتحديد اختصاصات السلطات، وعلاقاتها ببعضها على ضوء القيم الاجتماعية الجديدة التي اسفر عنها المخاض، وليس الاسراع في تحقيق هذا الهدف شرطاً من شرائط النجاح والاستقرار والديمومة فحسب، وانما هو ايضاً وفي الدرجة الاولى قاعدة اساسية من قواعد الحكم الصالح الذي يرمي الى الاحتفاظ بوحدة الامة وسلامتها وصيانة مصالحها الكبرى.
ولكن الأمان الحقوقي – هذه القيمة الاجتماعية التي تستهدفها القواعد الحقوقية- بجميع ماتستلزمه من اشاعة الشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار وتوطيد دعائم النظام، قد لايكفي وحده لبلوغ الغاية من التشريع مالم يقترن بقيمة اجتماعية اخرى ألا وهي العدالة. واية فائدة تجنيها الامة او المواطن او يجنيها الفرد او المجتمع من الحفاظ على الأمن والنظام وتحقيق الاستقرار، اذا لم يشعر الجميع افراداً وجماعات بعدالة النظام الاجتماعي، الذي يرمي التشريع القائم الى حمايته واستمراره. فالعدالة اذن في تاريخ تطور الحقوق في العالم هي مفهوم ديناميكي، يدعو الى الثورة على كل وضع راهن ظالم، ولو اقره التشريع القائم، ولا بُدع في ذلك فان توخي العدالة يدعو باستمرار الى اعادة النظر في الاسس التي ترتكز عليها المؤسسات الاجتماعية، وتعديل التشريعات التي تعمل على ابقائها تعديلاً يزيل عنها مظالمها ويمحو مساوئها، ومهما اختلف رجال القانون والاجتماع والأخلاق في تعريف العدالة وتعيين مضمونها فانهم متفقون على التفريق بين عدالة التعامل وعدالة التوزيع.
فالعدالة في التعامل
او عدالة المعارضة، كما يقول عنها ارسطو، هي مايعبر عنه مفكرو القرن الثامن عشر بالمساواة امام القانون.
وتتجلى هذه العدالة في حيز السلوك الاجتماعي بمفهومي المسؤولية والحرية ولا سيما حرية التعاقد، وتدعى في السياسة بالمذهب الحر، وفي الاقتصاد بالمذهب
الفردي فهي اذن عدالة فردية لاتهتم بتنسيق العلائق الاجتماعية وتنظيمها قدر اهتمامها بمنح جهود الافراد في فعالياتهم الاجتماعية اكبر قسط ممكن من الحرية.
اما العدالة في التوزيع
فهي العدالة الاجتماعية ولها ركنان:
اولهما تكافؤ الفرص وماينجم عن هذا المبدأ من تشريعات تهدف الى محو الفوارق والامتيازات المصطنعة الناجكة عن غير الكفاية وترمي الى تساوي جميع الافراد في نقطة الانطلاق.
ثانيهما فهو انتقاء الأنسب واحترام الكفايات.
ومعنى ذلك ان يتمتع كل فرد من الافراد بخيرات المجتمع الذي ينتمي اليه بالنصيب الذي تؤهله له قابلياته وكفاياته. وقديما قيل:” الويل للمجتمع الذي يسود عليه اشراره ويُقصى عنه اخياره.”.
والنظام الاجتماعي العادل هو ذلك الذي يسمح للصفوة من ابنائه، وللصفوة وحدها، ان تتولى مناصب الصدارة في قيادة المجتمع وتوجيهه، وكل تشريع يرفع غير الصفوة، ويقيس بغير مقياس الكفاءة ويصد العبقريات عن مصاعدها، ويُعيق النخبة عن القيام برسالتها والشعور بمسؤوليتها ويلهب بالحرمان والخيبة نفوسها لايمكن اعتباره ظالماً فحسب، وانما هو تشريع خطر ينسف قواعد سلامة المجتمع من اساسها، وتغدو اجهزة الحكم في ظله فماً يلتقم ويداً تنتقم، والعدل الاجتماعي وحده هو الذي يؤمن للأمة غنيها وفقيرها كبيرها وصغيرها، هذا القاسم المشترك الذي لاغنى عنه لسلامة وحدتها، وتمتين اواصر التضامن بين ابنائها واستمرار بقائها.
ومن البديهي ان نتساءل الآن: لماذا نريد من التشريع ان يحقق النظام والأمن والاستقرار والطمأنينة وان يسعى الى إقامة قسطاط العدل وماذا وراء ذلك كله؟
انه التقدم الاجتماعي الذي ينم عن توق الانسان الدائم الى بناء مجتمع افضل وحياة ارغد وعالم أمثل. وعلى التشريع ان يسعى للتعبير عن هذه القيمة الاجتماعية الانسانية في القواعد التي يضعها, وليس حفظ النظام والاستقرار والعدل الاجتماعي الا رسائل تهدف الى تمكين الأفراد والجماعات من التفرغ للتسامي بالقوى الانسانية الى أقصى امكانيات الازدهار والتفتح والانطلاق، والا فأية قيمة للأمان والعدل في مجتمع لا مجال للتسامي فيه ولا يبيح لأفراده وجماعاته مسايرة الركب الانساني والمساهمة بقسط متواضع في بناء المدنية، هذا التراث الانساني المشترك الذي يحقق للانسان انسانيته وللجماعات ازدهارها ورفاهيتها واتساقها.
الأمان أو الاستقرار الاجتماعي والعدل الاجتماعي تلكم، هي القيم الاجتماعية الكبرى التي تجعل من التشريع الناظم الأكبر للعلاقات الاجتماعية والمهندس الأعظم في تنسيق جهود الأفراد والجماعات وتعاونها لاقامة صرح المدنية الحديثة وبلوغ الانسانية مرتبة الكمال حيث التمتع المطلق بقيم الحق والخير والجمال والحرية.