قبل أن تبدأ الولايات المتحدة بتطبيق قانون «قيصرها» بحق سورية، ثمة أحداث وإجراءات حصلت على الساحة السورية ـ اللبنانية، قبل فترة وجيزة من الموعد المحدّد لبدء تطبيقه يوم 17 حزيران، لتطرح تساؤلات، وتثير علامات استفهام عديدة، كان لا بدّ من التوقف عندها، ونحن في مواجهة ما تضمره وتبيّته واشنطن حيال الدولتين التوأمين سورية ولبنان بشكل خاص، ولدول المنطقة والعالم بشكل عام.
لعلّ ما شاهدناه من تطورات في الأسابيع الأخيرة، ليدفعنا الى تسجيل بعض المواقف والحوادث والتطورات، على الساحتين السورية واللبنانية التي تصبّ في خدمة قانون قيصر، الذي يمعن في الضغوط على النظام، ويشدّد الخناق الاقتصادي والمالي والتجاري على سورية، وعلى مَن يتعاطى معها من دول المنطقة والعالم، بعد سريان مفعول القانون الظالم، الذي به تريد الولايات المتحدة، توجيه ضربات قاتلة لاقتصاد سورية وإنتاجها القومي، وايضاً، لمن يحاول أن يتجاوزه أو يتعاون مع النظام. ولعل الأحداث والتطورات الأخيرة، تدفع بالمراقب المتابع لها، إلى تسليط الضوء على أمور عدة أبرزها:
1 ـ لقد شهدت سورية مع اقتراب موسم حصاد القمح، سلسلة من الحرائق التي اندلعت بفعل فاعل، ولم تكن صدفة، حيث التهمت النيران مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالقمح، وهو الغذاء الاستراتيجي الذي تعتمد عليه سورية، والتي آثرت منذ عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، تحقيق الاكتفاء الذاتي منه، ليجنّبها مستقبلاً اللجوء الى الدول المصدّرة له، ويبعدها بالتالي عن الابتزاز السياسي من قبل بعض المصدّرين له.
هذه الحرائق المتعمّدة من قبل مجموعات داخلية إرهابية، ومعارضة، والتي تنسّق مع جهات خارجية، تستهدف ضرب الاقتصاد السوري في الصميم، وثروته الغذائية، وإرهاقه أكثر فأكثر، من أجل تحميل الدولة أعباء ثقيلة تضاف إلى الأعباء التي تتحمّلها، جراء الحرب المفروضة عليها منذ تسع سنوات وحتى اليوم. فما عجزت عن تحقيقه قوى العدوان في الحرب العسكرية على سورية، تريد أن تعوّضه بحرب اقتصادية شرسة مدمّرة. وما إحراق محاصيل القمح على مساحات واسعة، إلا ليصبّ في إطار التدمير الممنهج للاقتصاد السوري.
2 ـ في ظلّ الظروف الحساسة التي تشهدها دول المنطقة، علت أصوات في الداخل اللبناني، من قبل أطراف ما كانت يوماً إلا في خانة العداء ضدّ سورية. لتنبري فجأة تطالب بإقفال معابر التهريب، بذريعة أنها تضرّ باقتصاد ومالية لبنان.
لا أحد مع التهريب، ولا أحد ضدّ القانون. لكن أن نقفل المعابر غير الشرعية ـ وهذا حق ـ ونترك العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية مع سورية، دون ان نفعّل الاتفاقيات والبروتوكولات الموقعة معها، وعدم التواصل الفعلي والجدي مع المسؤولين السوريين، لتنظيم أطر العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية والجمركية، والتنسيق معاً في مواجهة تداعيات قانون قيصر على البلدين، فهذا أمر لا يصبّ في مصلحة لبنان وشعبه، حيث تشكل له سورية على الدوام رئته الشرقية الوحيدة، التي يتنفس منها وهو يطلّ من بابها بصادراته إلى العراق ودول الخليج العربية.
3 ـ إنّ تحريك الشارع اللبناني الذي يشهد ظروفاً داخلية حساسة وخطيرة، وفي ظلّ أوضاع اقتصادية ومالية ومعيشية ونقدية واجتماعية قاهرة، بمظاهرات مشبوهة، تطالب بنزع سلاح المقاومة، وتحميلها مسؤولية ما يشهده الداخل اللبناني، والتصويب عليها عشوائياً، مدار استغراب واستهجان. فبدلاً من أن تركز هذه التظاهرات على الفساد والحالة المزرية التي أوصلتنا إليها الطبقة السياسية، جاء مرتزقة المظاهرات المدفوعة الثمن من قبل محرّضيهم، وموجّهيهم، ليشوّشوا على المقاومة، ويفرغوا حقدهم وتعصّبهم، تماشياً وتناغماً، مع سياسات وأهداف أطراف داخلية، وإقليمية وخارجية غربية، ما كان هدفها الأول إلا حصار المقاومة وتعطيل دورها، والنيل منها، ومن ثم القضاء عليها وإنهاء وجودها.
4 ـ انّ قرار الإدارة الذاتية الكردية، بمنع مزارعي محافظة الحسكة ـ وهي الخزان والسلة الغذائية الرئيسة لسورية ـ من تسليم محاصيلهم من القمح للمراكز التابعة لدمشق، يشكل سابقة خطيرة، نظراً لمفاعيله وتأثيراته السلبية الكبيرة على اقتصاد الدولة وعلى الأمن الغذائي للشعب السوري. رغم أنّ وقف تسليم القمح للسلطات السورية، ستترتب عليه خسارة لمزارعي القمح، وأيضاً كساد المخزون. هذا القرار الذي لم يأت من فراغ، وإنما بتوجيه وطلب من رعاة وداعمي الإدارة الذاتية الكردية، الذي ينسجم بالكامل مع قانون قيصر. والأسوأ من ذلك، أنّ مكوّناً من مكوّنات الشعب السوري، يفرض حصاراً على أبناء شعبه، من دون أيّ اعتبار إنساني أو أخلاقي، ليشكل هذا القرار إذا لم تتراجع الإدارة الذاتية الكردية عنه، قمة الخيانة والنذالة بحقّ وطن وشعب. لتثبت الإدارة الذاتية الكردية، مدى عمالتها وتواطئها ودعمها المسبق، من دون تحفظ لقانون قيصر.
5 ـ لم يقتصر الأمر على الإدارة الكردية، إنما تبعته إجراءات أخرى، لجأت إليها سلطات الاحتلال التركي في الشمال السوري، وفي المناطق التي تسيطر عليها، حيث تفاقمت ممارسات الاحتلال، من خلال سياسات التتريك الممنهجة للمناطق الخاضعة له، لا سيما في أرياف حلب والرقة والحسكة. إنّ الاحتلال التركي، لم يتوقف عن سياسة تغيير الديموغرافيا للبلدات والقرى، وبالذات العربية منها، وتهجير سكانها باستخدام العنف، وتوطين الفصائل الإرهابية وعائلاتهم مكانهم بالقوة والإكراه، وإجبارهم على اعتماد العملة التركية في المناطق المحتلة والتداول بها، وإقامة مراكز رسمية تركية فيها، كالبريد وربطه بالبريد التركي.
وفي سياق الحرب الاقتصادية على سورية، فرضت تركيا منذ أيام قليلة على مؤسسة الحبوب التابعة لها، بتسويق المحاصيل الزراعية في رأس العين، الى تركيا حصراً وبالأسعار المناسبة لها.
6 ـ منذ بداية الحرب على سورية عام 2011، اعتمد الكرد ـ دون ضوابط أو محاذير ـ على الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، بما فيها «إسرائيل»، سياسياً، وعسكرياً، ومالياً، ولوجستياً واستخبارياً. وهم الآن ليسوا في وارد العودة الى الحضن السوري، والوقوف بجانب الدولة والقيادة والشعب، وهم في مواجهة قانون قيصر. كما أنهم أيضاً ليسوا بوارد التنصّل من القرارات الأميركية ذات الصلة بسورية، أو عدم الالتزام بها، او تحييد دورهم عنها. فطبيعة العلاقات الأميركية الكردية، وتأثير واشنطن الكبير على الكرد، وتحكّمها بقراراتهم وسياساتهم ومصيرهم، سيجبر الإدارة الذاتية الكردية، كي تكون حصان طروادة لقانون قيصر، الى جانب أحصنة عديدة في المنطقة والعالم. فهي ستشارك من دون حدود، وفق ما يرسمه لها الأميركي، في حصار سورية وشعبها، أياً كانت الأسباب والذرائع الواهية، والنتائج الوخيمة.
7 ـ ما تريده واشنطن من قانون قيصر، شلّ اقتصاد
سورية، وتضييق الخناق على شعبها، ثم تحميل النظام في ما بعد، المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع، ودفع السوريّين إلى التظاهر والعصيان، مدعومين من قوى خارجية معادية، تقوم بترويج لحملة إعلامية واسعة النطاق، ضدّ دور إيران وروسيا، وتشويه دور وتواجد المقاومين من لبنان إلى جانب سورية في مواجهتها للإرهاب، على أنهم السبب الذي دفع بواشنطن الى فرض العقوبات التي يعاني من نتائجها الشعب السوري.
الحقيقة الواضحة هي انّ الولايات المتحدة التي لم تستطع مع حلفائها، وبالذات مع العدو الإسرائيلي، ان تأخذه من سورية بالحرب التي فرضت عليها منذ تسع سنوات، تريد ان تحققه من خلال حرب اقتصادية شرسة ناعمة، متعددة الجبهات والقطاعات، ترمي إلى تركيع النظام، وتجويع الشعب السوري، والاستفراد به، ووضع الدولة السورية أمام خيار واحد من خيارين:
أما القبول برحيل النظام وتسليم السلطة للمعارضة، وأما الخضوع للعقوبات، والحصار والتجويع، وبعد ذلك الاستسلام لمشيئة واشنطن في كلّ صغيرة وكبيرة، من دون قيد او شرط.
8 ـ لا يقتصر قانون قيصر على سورية لوحدها، كما يظنّ البعض في لبنان، انما يستهدف أيضاً كلّ دولة، وكلّ كيان، أو هيئة أو مؤسسة او أفراد في العالم، يريدون التعاون مع دمشق بأيّ شكل من الأشكال. كما يمنع قانون قيصر، ايّ جهة تقوم بنشاطات تجارية، او مالية، أو صناعية، او استثمارية، لا سيما في قطاع النفط والغاز او غيرها من النشاطات، او تقديم المساعدات وإنْ كانت مجانيّة، لتنشيط القطاعات الصناعية والزراعية والإنتاجية أو المصرفية، مما حمل بعض المصارف الأجنبية العاملة في سورية، الى وقف نشاطها، وإقفال مكاتب فروعها، قبل بدء سريان مفعول قانون قيصر.
9 ـ انّ قانون قيصر لن يوفر في مفاعيله السلبية لبنان ودول المنطقة، التي تواجه القرارات المذلة، وسياسات الهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة، بحق الشعوب الحرة للمنطقة، الرافضة لصفقة القرن، والتطبيع مع العدو. والخضوع للإملاءات الأميركية. اذ قانون قيصر وانْ استهدف بالدرجة الاولى سورية، إلا انّ تطبيقه، سيلحق الأذى بلبنان واللبنانيين، ودول الجوار. لأنه سيغلق الباب أمام اللبنانيين ويمنعهم تحت التهديد بفرض العقوبات عليهم، من أي تعامل تجاري، او صناعي او خدمي او استثماري. وهذا الأمر سيلحق ضرراً كبيراً باللبنانيين، خاصة بعد إطلاق ورشة إعادة بناء سورية ما بعد الحرب، مما سيحول دون تخفيف الأعباء المعيشية والمالية والتجارية عن اللبنانيين داخل بلدهم. حيث سيحرم قانون قيصر، الصادرات اللبنانية، الصناعية منها والزراعية، ومختلف البضائع من دخول الأراضي السورية، ومنها الى دول الخليج، وهذا ما سيلحق ضرراً كبيراً بالمنتجين، والأفراد والتجار، والصناعيين في هذا المجال.
ولا يقتصر مفعول القانون على لبنان وحده، وإنما سيطال أيضا إيران، رغم أنّ هذه الأخيرة تواجه في الأساس، عقوبات أميركية صارمة.
واشنطن تريد من قانون قيصر، أن يطال بشظاياه دولاً تراها الإدارة الأميركية متمرّدة عليها. فهي تريد من سورية فكّ ارتباطها النهائي مع إيران، ومع المقاومة في لبنان، ووقف الدعم لها. كذلك فكّ ارتباطها مع روسيا، وتقليص العلاقة معها، والعمل على وضع حدّ للتمركز العسكري الروسي ـ الإيراني، وإخراج قوى المقاومة وإبعادها عن سورية. إذ ترى واشنطن، انّ تمدّد التمركز الروسي الإيراني في سورية، وكذلك قوى المقاومة، يشكل تهديداً استراتيجياً لمصالح الولايات المتحدة، و»إسرائيل»، وحلفائها في الشرق الأدنى، لا سيما في منطقة الهلال الخصيب.
10 ـ انّ المسؤولية الوطنية والقومية، تحتم على الجميع، العمل على احتواء قانون قيصر بكلّ أبعاده وأهدافه، اذ إنّ سورية، ليست معنيّة به وحدها، وهذا لا يتمّ إلا بتضافر الجهود والتنسيق الكامل، بين سورية ولبنان والعراق وروسيا وإيران والصين وغيرها من دول العالم. إذ لا يمكن لهذا القانون التعسّفي، الأحادي الجانب، الذي سنّته دولة بكلّ عنجهيتها، خارج إطار القانون الدوليّ، والشريعة الدولية، لتفرضه في ما بعد، على دول العالم، وتلزمها التقيّد به، غير عابئة بسيادتها، وكرامتها، واستقلالها وحرية قرارها.
لا بدّ من تحرك دولي لكسر هذا القانون، الذي يجسّد شريعة الغاب بكلّ المقاييس، شريعة تعوّدت عليها الولايات المتحدة، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من سلوكها اللاإنساني المقيت، حتى ولو دمّر هذا السلوك وطحن شعوباً بأكملها.
على اللبنانيين أن يدركوا، رغم التهويل بفرض العقوبات عليهم، انه من غير المقبول ان يؤخذ لبنان رهينة بيد قانون قيصر، ومن غير المقبول ان يظلّ أسيراً، ورهينة في يد من يريد السير به الى فلكه، والتحكم بقراره ومصالحه الوطنية، ومنعه من التنفس من خلال رئته الشرقية الوحيدة ـ سورية. يتوجب على لبنان، وعلى مسؤوليه، تفادي الانزلاق والوقوع في الفخ الأميركي المرسوم. لأنه سيكون وبالاً على لبنان وشعبه، عاجلاً أم آجلا. إذ لن يفيده ولا يجديه نفعاً في نهاية المطاف العسل الأميركي المشبع بالسمّ القاتل.
واشنطن تريد إسقاط سورية، لأنه بإسقاطها، ستتهاوى دول المنطقة المعارضة للسياسة الأميركية، كأحجار الدومينو. وهنا تكمن مسؤولية الجميع، للحفاظ على سورية، ودورها، ومكانتها، ومقاومتها، والوقوف الى جانبها مهما كلف الأمر، ولحين إسقاط قانون القرصان
وزير الخارجية الأسبق