سبتيميوس سفيروس وعائلة الأباطرة الحمصيين…
مقدمة
اشتهرت حمص في تلك الفترة بعبادة الشمس وهيكلها الفاخر الذي فيه الحجر الأسود الهرمي الشكل (كعبة حمص) وكان يُشتَرَط على كهنة هذا المعبد أن يكونوا من أعيان البلد، ومن أشهــر أفراد الأُسَر، وكان باسيانوس Basianus أو باسيان كاهن المعبد ذو أخلاق وثقافة عالية وآداب سامية وهذا ما هيَّأ لعائلته تبؤَ مناصب رفيعة في الدولة الرومانية.
وُلِدَت إبنته جوليا دومنا Julia domna حوالي سنة 166م وكانت على جانب كبير من الذكاء والجمال والثقافة لاسيما في العلوم الطبيعية والفلكية وتتكلّم اليونانية واللاتينية والآرامية. وكذلك شقيقتها جوليا ميسـا Julia maesa وإبنتيها جوليا سوميا Julia somia وجوليا ماميا Julia mamia كنَّ أيضاًعلى قدْر كبير من الثقافة والعلْم والثروة الكبيرة وذكرَ أحد المؤرّخين أن بابنيانوس Papinianus النابغة في فقه الحقوق هو إبن باسيانوس وآخرون ذكروا إنه قريبهم. وحدث أن أحد الأشخاص ويُدعى يوليوس إسكندر كان يترأس عصابة في منطقة حمص عاثت في البلاد فساداً لدرجة أقلقت السكّان وخشيَ الإمبراطور كومود (180ـ192) إبن أوُريليوس شرَّها فأرسل قائداً عسكرياً ماهراً لضرب هذه العصابة، هو سبتيميوس سيفيروس الذي توجّه إلى المنطقة التى اعتصمت بها العصابة، وطوَّقها وقضى عليها عام 179م. وأثناء وجوده في حمص وقع نظره على جوليا دومنا فسحره جمالها، وشعرَ بميل عظيم إليها لجمالها وثافتها، وتوسَّم لنفسه مستقبلاً عظيماً إذا تزوّجها، فطلبها من أبيها الذي لم يُمانع عن تلبية طلبـــه. علما انه كان يكبرها بعشرين عاماً، فتزوجا ورُزِقا من هذا الزواج عدة بنين: الأكبر باسيان وسُمّي فيما بعد كاراكلا Caracalla الذي وُلِدَ في ليون بفرنسا سنة 188م والأصغر جيتا Jeta…
فكيف وصل هؤلاء إلى حكم روما ؟
1 ـ الإمبراطور سبتيموس سيفيروس Septimus severus
من193 وحتى 211 م كان مواطناً من مدينة لبتيس ماغنا (Leptis magna) في ليبيا، وهي بالقرب مما ندعوه الآن طرابلس الغرب.
وُلِدَ في بلدة لبدة بتاريخ 11نيسان سنة 146 م من أصل فينيقي أفريقي، وثمة تيار قوي يقول أنه مــن أفاميا السورية من “قلعة المضيق” وكان يتكلّم اليونانية والفينيقية والامازيغية، ودرس اللاتينية لغة الامبراطورية ولو بلكنة لازمته طول عمره…
ودرس الآداب والفلسفة في أثينة، واشتغل بالمحاماة في روما، وكان رغم لهجته السامية من أحسن ابناء الامبراطورية تربية وأكثرهم علماً في زمانه، وكان مولعاً بأن يجمع حوله الشعراء والفلاسفة، ولكنه لم يترك الفلسفة تعوقه عن الحروب، ولم يدع الشعر يرقّق من طباعه. وكان رجلاً وسيم الطلعة، قوي البنية، بسيطاً في ملبسه، قادراً على مغالبة الصعاب، بارعاً في الفنون العسكرية، مقداماً لا يهاب الردى في القتال، قاسي القلب لا يرحم إذا انتصر. وكان لبقاً فكهاً في حديثه، نافذ البصيرة في قضائه، قديراً صارماً في أحكامه. وتولّى عدة مناصب حكومية في عهد الإمبراطور أوريليوس وإبنه كومود، ثم التحق بالجيش ولم يلبث أن أصبح قائداً لإحدى الكتائب الرومانية ليرتقي بعد ذلك إلى أعلى المناصب العسكرية، إذ أصبح قائدا عسكريا سنة 172م بإقليم في إسبانيا، ثم حاكما لمنطقة في أوربة الوسطى.وكان قد أحبه جنوده فقد كان قائداً عسكرياً ماهراً لإنه كان شديد العطف عليهم.
لم تكن حياة سيبتميوس تخلو من الحركة والتنقل من منصب إلى اخر، وتولى ولاية جنوب اسبانيا، ثم عاد إلى افريقيا كممثل للامبراطور، ثم كممثل عن العامة في مجلس الشيوخ بروما، حيث أصبح عام (173 م) عضواً في مجلس الشيوخ الروماني بدعم من الإمبراطور ماركوس اورليوس.
وكان مجلس الشيوخ قد أخطأ إذ أعلن تأييده لمنافسه ألبينس Albinus فذهب إليه سبتميوس وحوله ستمائة من رجال الحرس، وأقنعه بأن يؤيده في ارتقاء العرش، فلما تم له ذلك أعدم عشرات من أعضائه وصادر كثيراً من ضياع الأشراف حتى آلت إليه أملاك نصف شبه الجزيرة. ثم ملأ الأماكن التي خلت في مجلس الشيوخ بأعضاء اختارهم بنفسه من بلاد الشرق التي تدين بالنظام الملكي، وأخذ كبار رجال القانون في ذلك العصر (بابنيان Papinian وبولس Paulus، وألبيان Ulpian) يجمعون الحجج التي يؤيدون بها السلطة المطلقة لمصلحته.
وأغفل سبتموس شأن المجلس إلا حين كان يبعث إليه بأوامره، وبسط سلطانه الكامل على أموال الدولة على اختلاف مصادرها، وأقام حكمه على تأييد الجيش دون خفاء، وحوّل الزعامة إلى مَلَكية عسكرية ورائية، وزاد عدد رجال الجيش، ورفع رواتب الجند، وعمد إلى الإسراف في أموال الدولة حتى كاد ينضب معينها. ومن أعمله أنه جعل الخدمة العسكرية إلزامية، ولكنه حرّمها على أهل إيطاليا للحد من نفوذ الايطاليين، فأصبحت فيالق الولايات من ذلك الحين هي التي تختار الأباطرة لروما بعد أن فقدت العاصمة قدرتها على الحكم.
وفي عام 175 تزوج من باتشيا مارشيانا Paccia Marciana، ابنة لبدة أيضاً. وفي عام (179م) عين قائدا للقوات الرومانية المرابطة في سورية.
انتعشت حياة سيفيروس مع صعوده الوظيفي، وخاصة بعد انتقال الحكم من الامبراطور ماركوس اورليوس إلى كومودوس، فتولى العديد من المناصب الرفيعة كنائب قنصل ثم عمل في سورية كقائد ثم حاكم لمنطقة الغال (فرنسا الحالية) وصقلية والنمسا والمجر.
كان هذا المحارب الواقعي يؤمن بالتنجيم، وكان أكثر الناس براعة في تفسير النذور والأحلام. بالرغم من انه كان محارباً واقعياً، من ذلك الايمان بالطالع، أنه لما أن ماتت زوجته الأولى قبل أن يرتقي العرش بستة أعوام عرض على سوريّة غنية دل طالعها على أنها ستجلس على عرش أن تتزوجه. وكانت هذه الزوجة هي جوليا دومنا Julia Domna ابنه كاهن غني لـ “الجبل Elgabal” إله حمص. وكان نيزك قد سقط في تلك المدينة من زمن بعيد وأقيم له اي “الجبل Elgabal” إله في حمص ضريحٌ في هيكل مزخرف، وأخذ الناس يعبدونه على أنه رمز الإله إن لم يكن هو الإله نفسه مجسّماً.
في سنة 187 تزوج سيفيروس بها، وارتقت جوليا دومنا عرشها الموعود. وكانت أجمل من أن تقتصر على محبة سفيروس فالجميع كان يحبها، ولكن مشاغل سبتميوس لم تكن تترك له من الفراغ ما يسمح له بأن يغار عليها. وقد جمعت حولها ندوة من الأدباء، وناصرت الفنون، وأقنعت فيلوسترانس بأن يكتب سيرة ابولونيوس من تيانا Apollonius of Tyana ويخلع عليه الكثير من أسباب المديح.
كانت قوة أخلاقها ونفوذها مما عجل السير بالملكية نحو الأساليب الشرقية التي وصلت إلى غايتها من الناحية الأخلاقية في عهد الجبل Elgabalus ومن الناحية السياسية في عهد دقلديانوس. ورزق منها بولدين: الاول ولد سنة 188 وسماه باسيانوس Bassianus وهو من عرف لاحقاً باسم الامبراطور كركلا والابن الثاني ولد سنة 189 واسمه جيتا.
عندما توفي الإمبراطور كومود مسموماً في 1 كانون أول سنة192م وبعد موته حدثت في أوائل سنة 192م انقسامات خطيرة بين كبار رجال الدولة الرومانية حول من سيتولى السلطة ويتبوأ عرش روما.
ولحل المشكلة، تولى الحكم مستشار الإمبراطور برتيناكس، ولكن هذا ما جعل سفيروس يعود بجنوده إلى روما بدعوى الثأر لإمبراطوره المقتول كومود. خلال عودته، واجه محاولات بعض الأعيان لشراء عرش روما بمساعدة الحرس الإمبراطوري الفاسد. لذا، وبعد أن ثأر للإمبراطور المقتول تخلص من أعدائه، وجلب أفواجا من سكان البوادي ليعوضوا الحرس الإمبراطوري. وتولّى مكانه برتينكس والي سورية الذي لم يستطع إرضاء الجند فقتلَ في 28 آذار سنة193م ثم استقرَّت المبايعة عــلى تولّي رجل غني جداً يُدعى ديديوس يوليان ونودي به إمبراطوراً ولما بلغ هذا الأمركتائب الجيش الروماني ولكون سبتيموس محبوباً من جنوده نادوا به إمبراطوراً فأسرع بجنوده إلى روما ودخلها بموكب عظيم وتبوّأ الإمبراطورية وللحال أصدر المجلس العالي الروماني حكماً بقتل ديديوس يوليان كمجرم فقُبضَ عليه وقُتِلَ بعد حكمَ دام 26 يوماً . ثم قضى على خصميه نيجر وألبيوس وأصبح إمبراطوراً بلا منازع.
اصلاحاته
بعد توليه مقاليد الحكم قام ببذل الجهود الكبيرة في سبيل الإصلاح، وتحسين أوضاع الجيش والقضاة وإزالة مساوئ الفتن الأهلية. ووجه العناية إلى الولايات فأقام فيها الكثير من المنشآت والأبنية العامة والحمامات وسواها. وجعل الخدمة العسكرية إجبارية في كل الولايات عدا أهل ايطاليا، ثم قام بحلِّ الجيش الامبراطوري وأحدث حرساً جديداً جمع عناصره من سائر الولايات بعد أن كان هذا الحرس إيطاليّاً فقط.
كان لا يشبع من أكاليل الغار التي يحظى بها بسبب انتصاراته، ثماني عشرة سنة وهو في حروب مستمرة وسريعة، وقد زاد عدد الجيش، ورفع رواتب الجند، وقاتل منافسيه، وقضى على الفتن، وقاتل لاسترداد مناطق قديمة، وضم مناطق جديدة للإمبراطورية، دك بيزنطية بعد حصار دام أربعة سنوات، و غزا بارثيا واستولى على طشقونة، كما ضم بلاد الرافدين لهذه الإمبراطورية.
في الحقيقة انه أعاد لعرش روما مكانته، وخلص الإمبراطورية من تركة فساد متراكم من استبداد كاليكولا وبلاهة كلوديوس وجنون نيرون وطغيان انطونيوس.
تميز بتشجيع الاقتصاد وتنمية الزراعة والتجارة ولكنه شدد الخناق على اعضاء مجلس الشيوخ الروماني وحد من صلاحياتهم فرادى ومجلس، وكذلك على ابناء الأسر الأرستقراطية الرومانية وزاد بشدة الاضطهادات على المسيحية رئاسة ومؤمنين ليستفرد بحكم شبه مطلق للأمبراطورية.
ومما قاله عن نفسه وهو في آخر حياته الحافلة: “لقد نلت كل شيء ولكن ما نلته لا قيمة له”.
ويقول هيروديان إن “كركلا قد أغضبه أن تطول حياة أبيه… فطلب إلى الأطباء أن يعجلوا بموت الشيخ بأية وسيلة بمتناول أيديهم”. وكان سبتميوس قد لام أورليوس حين سلم الإمبراطوريّة إلى كومودس، ولكنه هو نفسه أسلمها إلى ابنيه كاركلا وجيتا، بهذه النصيحة الساخرة: “وفرا المال لجنودكما ولا يهمكما شيء غير هذا” وكان آخر إمبراطور مات في فراشه وبعمر الثمانين سنة.
اصلاحاته نحو ليبيا
لم تلهه مشاغله عن وطنه الاساس ليبيا الذي لم يعلن جنوبه بعد الولاء لامبراطورية روما بل وبات يشكل تهديداً علي المدن الساحلية الليبية وأمنها واستقرارها. ولكنه علي الرغم من هذا فقد علق سفيروس أهمية كبرى بالاقتصاد الليبي، فوجه عناية خاصة للاهتمام بالزراعة التي ازدهرت بتوجيهاته إزدهاراً ملحوظاً، واهتم كذلك بالتجارة، وكانت ليبيا تسمي آنداك “مخزن الغلال في الشرق” وكانت مركزاً تجارياً هاماً يشكل همزة وصل بين الشرق والغرب، وبين أواسط أفريقيا وسواحل البحر الابيض المتوسط. وفي الاساس طور مسقط رأسه لبدة الكبرى فأنشأ فيها العديد من المباني والحمامات ووسع الكثيرمن الأسواق والمسارح.
رغم شيخوخته وكبر سنة وإصابته بداءالنقرس، إلا إن ذلك لم يقعده عن الحروب وتسجيل انتصارات وتسجيل اسمه في صفحات التاريخ ، وهو بهذه الحالة قد وصل إلى كالدونيا وانتصر على الاسكتلنديين في عدة وقائع، ثم عاد إلى بريطانيا. وهناك عندما وصل إلى يورك سنة 211م كان على موعد مع الموت. قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة : ” لقد نلت كل شيء، ولكن ما نلته لا قيمة له”، وكانت آخر وصاياه”الحفاظ على الأسرة الامبراطورية والعمل على استرضاء الجيش”.
اصلاحاته نحو سورية
لم يكن سيفيروس حمصي المَوْلِد لكنه حمصي العاطفة، وكان لزوجته جوليا الأثر الكبير في الدولة فقاسمته المكانة والسلطان والنفوذ وكانت تدير معهداً في العلم والأدب والسياسة وتتكوَّن شخصياته من الرومان وأعيان السوريين، واستعانت بنوجين كاتب التراجم وديوكاشيوس المؤرّخ، وبفيلوسترات الفيلسوف السفسطائي وبابنيانوس الفقيه في فن الحقوق الذي عيّنه مستشاره القانوني، ورئيس مجلس المستشارين. كما عيّن يوليوس باولوس Julius paulus (من مواليد حمص ) الفقيه والحجة في القوانين الرومانية، واعتمد على أختها جوليا ميسا وإبنتيها جوليا سوميا وجوليا ماميا حيث كنّ على قدْر كبير من الثقافة والعلم والثروة المالية الكبيرة وأكَّد المؤرخون إن زوجته جوليا دومنا لطَّفتْ كثيراً من أخلاق زوجها العسكرية القاسية وحملَت العديد من الألقاب: “أم القياصر”، “أم الجيوش”،”أم الوطن”، “أم الشيوخ”…
واسم دومنا وهي تحريف عن الكلمة السورية “مارتا” وتعني “السيدة بالغة الجلال” ، كما نُقِشَت صورتها على النقود وأقيم لها تماثيل ومعابد عديدة.
كان حظ سورية عموماً وحمص خصوصاً حسناً بعهد هذا الإمبراطور، فأولى عناية كبيرة بالبلاد التي أقام فيها مدة طويلة لاسيما الفترة من سنة 182-184 م في منطقة حمص التي اقترن بها بجوليا دومنا. فعرِف ما تحتاجه البلاد من عناية فبذل جهده بتأمين الطرقات، وتعويد الشعب على العمل المجدي والإنصراف عن الشغَب. وصيانة الحصون التي بلغ عددها في عهده 42 حصناً وتمتد مابين دمشق وتدمر وأطلال بعلبك.
وقسَّم سورية إلى قسمين جعل القسم الأول سورية الشمالية الممتدّة من أقصى الشمال إلى غاية السهول الممتدَّة على ضفَّتي العاصي حتى أنطاكية، والقسم الثاني سورية الفينيقية والسواحل البحرية وشرق لبنان، ويضم هذا القسم بعلبك وحمص ودمشق وتدمر، ترك سفيروس مآثر عدة أهمها قوس اللاذقية بسورية الذي لازال شاهدا إلى اليوم على عظمة هذا الإمبراطور وزوجته الحمصية السورية.
2 ـ الإمبراطور كاراكلا Caracalla من 211 وحتى 217 م
تركَ سيفيروس المُلْكْ من بعده لولديه كاركلا وجيتا اللذين سبق أن أشركهما معه في الحكم وأعطاهما لقب( قيصر) وذلك تفادياً من تغلُّب أحدهما على الآخر بعد وفاته، فحكما البلاد معاً سنة 211 م حوالي سنة واحدة، ولكن كانت الضغينة في قلب كل واحد على الآخر، وكانت والدتهما جوليا تُصْلِح بينهما باستمرار فلم يطل الأمر على هذا النحو وأثناء عتاب بينهما وبحضوروالدتهما هجم كاراكلا على أخيه جيتا وفتك به وكان ذلك سنة 212 م .
ورأت والدته أن تقف إلى جانب إبنها كاراكلا كونه في ريعان الشباب ولم يتجاوز عمره 23 سنة، وكان السبب الذي حملَ فيه إسم كاراكلا أنه كان يرتدي “الكاركال”، و”الكاركال” رداء سوري يُشبه العباءة.
لعبت والدته دور الوزير الأمين له خلال العامين 214 ـ 215 م، ومن أعماله إنه أنشأ الرواق والعرَصة أمام الهيكل في بعلبك، وأصدر القانون الذي منح بموجبه الجنسية الرومانية لكل سكَّان الإمبراطورية، فأدّى ذلك إلى إملاء الخزينة بالرسوم التي تقاضتها الإمبراطورية من الجميع الذين كانوا يؤدُّونها بطيبة خاطر لحصولهم على الجنسية الرومانية، وكان يمدّ يد العون لكل من يلوذ به، ومن حسناته ان ضميره كان يوبِّخه على قتل أخيه جيتا. وقتل الفقيه بابنيانوس وهو في عمر 37 سنة.
وعيَّن أولبيانوس Ulpianus (وهو من مواليد بيروت أو صور وتلميذ بابيانوس) مستشاراً له ورئيساً على الحرس. وكان كاراكلا كثير التجوال في الولايات التابعة لإمبراطوريته. وفيما كان يحاول إخضاع البارثيين في الشرق، اغتاله رئيس الحرس مكرينوس في الرها شمال سورية سنة 217 م. وأرسل رماده إلى أمّه التي استقرّت في أنطاكية وحزنت عليه وامتنعت عن الطعام حتى توفّيت بنفس العام ثم أعيد رفاتها إلى المقبرة الإمبراطورية (أوغست) في روما باحتفال مهيب برعاية وتدخُّل أختها جوليا ميسا وخلّدت روما إمبراطورها كاراكلا بإنشاء الحمّامات الكبيرة على إسمه التي مازالت آثارها قائمة وتتّسع لـ 1600 زائراً.
3 ـالإمبرطور إيلاغابال Elagabalus من 218 وحتى 222م
بعد إغتيال كاراكلا أبعدَ مكرينوس كلاً من جوليا ميسا، وجوليا سوميا زوجة كاراكلا، وولدها أفيتوس باسيان، وجوليا ماميا وإبنها الكسندروس سيفيروس من روما فعـادواجميعهم إلى حمــص.
النسوة جاورنَ هيكل الشمس وقدّمنَ أنفسهن ومالهن للمعبد، واستلمت جوليا ميسا مفاتيح الهيكل. وأقامت أفيتوس كاهنا للهيكل وارثاً لجدِّه باسيانوس، وله من العمر 14 سنة. وكان جميل الصورة معتدل القامة وأظهر من التقوى والورع ما جعله محبوباً من الجميع، لاسيّما الجند الذين حقدوا على مكرينوس لقتله كاراكلا وتسببه في وفاة والدته جوليا دومنا بهذا الشكل المأساوي، وإبعاد كل مايرتبط بهذه العائلة من روما.
4 ـ ألكسندروس سيفيروس Alexandrus severus من 222 وحتى 235 م
بعد مقتل إيلاغابال نودي بإبن خالته ألكسندروس سيفيروس الذي وُلِدَ سنة 205م، وكانت والدته جوليا ماميا من الشهيرات بعلوّ المدارك والثقافة الأدبية واللغات. وأحبّه الجند كثيراً وبدأ بإصلاح ما أورثه أسلافه من الخلل، مُستعيناً برأي جدّته جوليا ميسا ووالدته جوليا ماميا. وعيّن يوليوس باولوس الفقيه بالحقوق رئيساً لحرسه الملكي بطلب من والدته، وأقام ديواناً للمشورة مكوّناً من 16 عضواً اختارهم من خيرة الرجال. وأقام مجلساً بلدياً لروما يتكوًن من 14 عضواً، كما رفع شأن المرأة إلى المستوى اللاّئق بها، فأقام ندوة للنساء ترأستها جدّته ثم أمّه، وأعطاهن سلطة واسعة في تهذيب كل امرأة تتجاوز حدود اللياقة، وأكثرَ الضرائب على الصاغة، ليقلّل أسباب الترف. وحارب المُرابين وأحبّ جنده كثيراً. وكان مقتصداً في معيشته ولباسه، وكتب على باب قصره
“لاتفْعل بالغير ما لاتريد أن يفعله الغيْر بك”
وفي سنة 231 م دفع الغرور ملك الفُرْس لمحاربة روما فجهّز الإمبراطور حملة لمحاربته، ورافقته أمّه في هذه الحملة، ويظهر من خطبته التي ألقاها في 19 إيلول سنة 233 م إنه انتصرَ على الفرس، واستردَ كل البلاد الواقعة ما بين النهرين وغنِمَ غنائم وافرة. ثم بلغه أن الجرمانيين ثاروا واتّجهوا إلى فرنسا فسار بجيشه إليهم تصحبه أمّه أيضاً وخيَّم معسكره مطلاً على الرّين وسعى إلى استرضاء الجرمانيين بالمال لتجنّب نكبات الحرب، لكن أحد قوّاد الجيش ويُدعى مكسيمنوس Maximenus رفض هذا التصرّف، وقال إن الأموال من حق الجنود، وانصاع الجنود إليه ونادوا به إمبراطوراً، وساروا إلى خيمة الكسندروس وقتلوه وأمّه في 19 آذار سنة 235 م.
الخاتمة
كانت فترة مزدهرة في الامبراطورية الرومانية، هي فترة الأباطرة الحمصيين اسرة الامبراطور سبتيميوس التي دامت نحو 42 سنة مع نسائهم، حيث النسوة كن ّاليد القوية في مساندتهم بإدارة الحكم لما كن يتمتّعن به من ثقافة وأدب وحكمة، لاسيما جوليا دومنا ذات أثر كبير لحمص.
وتخليداً لذكراها فقد أصدر مجلس مدينة حمص قراراً بتسمية إحدى الشوارع الرئيسة في حي حمص الجديدة (الوعر) بإسمها . وفي عهد الأباطرة الحمصيين بلغ العمران في المنطقة درجة عالية حيث بُنِيَ في هذه الحقبة أكثر من مئة مدينة في مسافة لاتزيد عن 180 كم على ضفاف العاصي، وعرف سكان هذه المدن كيف يستغلّون مياه نهرهم العظيم (أورانتيس) العاصي في الزراعة. فارتقى العمل الزراعي بحمص، وازداد إنتاج الحاصلات الزراعية ما اقتضى الأمر إيجاد أسواق لها خارج المنطقة، فأقام تجّارها لأعمالهم مراكز في معظم مدن أوربة لتصريف إنتاجهم، ومما ساعدهم على ذلك إقامة الطرق، حيث وجد الأثريون أثراً واضحاً للطريق الرومانية الممتدّة من ميماس حمص حتى مصياف، وبعدها يتّجه نحو تل سلحب مجتازاً جسر العشارنة إلى قلعة المضيق في سهل الغاب. ويُرَجِّح بعضهم إنه يصل إلى أنطاكية فمنطقة القسطنطينية كما بنوا عند كل 8 كم من الطريق محطة للبريد فيها 40 فارساً لنقله ليلاً ونهاراً فكان البريد يقطع في اليوم نحو150 كم.
وأخيراً أفلا يحقّ لحمص أن تفخر بأسرة الأباطرة السيفيريين.