الفنان الدمشقي في حفر ونقش الخشب…
كلمة الواجب والحق…
هو ابي، رحمه الله، وليس اصعب من ان يتحدث الإبن عن أبيه، لا سيما وانه عندي وعند اخوتي، واخوته وكل العائلة، مثال للهدوئين والطيبين والمحبين للجميع والحنان للجميع.
فعلا ابي جورج لم يكن اباً عادياً في سجاياه وخصاله الانسانية، كان المرحوم جرجي بن فارس زيتون اباً عادياً حنوناً كأي اب حقيقي، هو الأب المعطاء بلا حدود مع عائلته حتى انه كان مستعداً ان يطعمنا من لحمه، وكان فعلاً كذلك بالرغم من انه لم يكن غنياً بل كان مستوراً موصوفاً بالحنان والطيبة، مضحياً نحو عائلته زوجته واولاده واهله…كأمثاله ولكن لأنه ابي كان عندي غيرشكل…
اما في وجهه الآخر الذي يهم الوطن السوري، ومدينته دمشق الشام فهو لم يكن حرفيا عادياً بل كان الأميز في فنه فقد كان فناناً في حفر الخشب ونقشه على مستوى الوطن ككل.
تمهيد
منذ 1992 وحتى الآن كتبت، ولا ازال، عن كثيرين من أعلامنا الكنسيين، وأعلامنا الارثوذكسيين، وأعلامنا الوطنيين. منهم من كنت قد عاصرتهم ردحاً معيناً، وصرت اعرفهم حق المعرفة، وكانت شهادتي بهم شهادة العارف. ومنهم من لم اعرفهم، يعرفهم الغير، واستقيت عنهم من هذا الغير، فترجمتهم في موقعي، وفي دوريات يومية وطنية وارثوذكسية، كتبت بها قبلاً ولا ازال… اما والدي فقد تأخرت كثيراً في الكتابة عنه حتى الآن، وكان قد ارتقى مطلع عام 1995 الى عالم الخلود.
والدي هذا الانسان الحبيب الطبيب الذي انا اتمنى ان اماثله في الخلق والروح والفكر والهدوء وطولة البال ومحبة الناس له، فأنا كنت بكر اولاده الخمسة، وكان منذ فتوته وقبل زواجه يلقب بأبي يوسف، اي أتيت الى هذه الدنيا واسمي معي.
نعم اكيد تأخرت في الكتابة عن ابي، ولكن بشكل مقصود، لأني كلما ازمعت ترجمته كنت اتهيب، فان افرطت في المديح اخشى الملامة من البعض، وليس من عائلته وعارفيه ومعاصريه الذين يعرفونه حق المعرفة، وأخشى إن قللت في ترجمته فأكون ملوماً من نفسي اولاً، ومن عارفيه ثانياً، حيث لم أفيه حقه، لأنه اولاً
واخيراً هو ابي، الطيب والممدوح والمحبوب من الجميع، وأكيد فإنه مهما كتب المرء عن ابيه يبقى مقصراً عن ايفائه حقه. فأبي جرجي زيتون، كان هذا الانسان الطيب جداً والمحب جداً للجميع، والذي كان يتسامح حتى مع من آذاه… والجميع كان يحبه ولم يكن من احد يكرهه، وان كان الكثيرون يغارون منه (وخاصة متسلقي فنه) لنبوغه، وعلو كعبه في الفن الدمشقي الراقي حفر الخشب… رحمة الله عليه…
لابل لعله، كان هو الوحيد الذي ابدع في حرفة “نقش الخشب” الفنية، وهي تختلف عن حرفة حفر الخشب، وهذه حرفة غاية في الفنية لها اسرارها، وكان تعمل بها فقط بنات يهود الشام وبأزاميل صغيرة خاصة، لكن الفنان جورج زيتون كان وبخبراته، الفنان الدمشقي الوحيد، الذي نقش الخشب بأزاميل الحفر الكبيرة. واصلاً توقفت او كادت حرفة الحفر
الا من بقايا افراد بعدما دخلت الآلة، بينما حرفة النقش انتهت مع رحيل بنات اليهود من دمشق منتصف التسعينات ولكن والدي أحياها وبمفرده، وانتهت برحيله رحمة الله عليه إلى الأخدار السماوية.
رافقت ابي طفلاً وصبياً وفتى في دكانه الصغيرة (والمتواضعة جداً بأرضيتها الترابية المليئة بكسارة الخشب وجدرانها اللبن المكسوة برسومات وطبعات كرتونية) في العطل المدرسية والصيفية، قبل ان اعمل كغيري من بقية ابناء العائلات المسيحية الدمشقية المستورة في مهنة الصياغة، وعمل بها كل ابناء العائلة اخي عبد الله وابناء العمومة، الا انا لمتابعتي دراستي الجامعية والعالية.
ولكني رافقت والدي في فتوتي وشبابي ورجولتي (بعد زواجي) صديقاً اعتز بصداقته الرائعة، ومنه استقيت الكثير الكثير من مخزون ذاكرتي، ومنها معظم هذه السيرة، كان يستحق القول المأثور:” انسان تضيق بذكره المجالس في مكارم الأخلاق ومحبة الناس له وتسامحه المسيحي، وفنه المتميز”.
جورج زيتون قلما لا بل نادرا ماكان يثور”ويطلع خلقه”، او يسب اويجادل في شأن، حتى ولو كان محقاً في قضية ما. وحتى لواكلوا له حقه، ليس جبناً او خوفاً منه بقدر ماهو خجل ومحبة وقطع الطريق أمام الشقاق والمشاكل…
وكانت امي الحبيبة روزيت، رحمها الله، تغالطه احياناً في تفريطه بحقه، سيما وانها كانت مستودع أسراره وحبيبته وتتمتع بطيبته وحبه ذاتهما للناس، فالسجايا الفضلى ذاتها، (وهي ابنة خالته التي احبها وهي طفلة وهو فتى، وسعى لأجل الاقتران بها واقترن بها بعد نضال وصبر)… وكنت أحياناً أساندها في لومه، ولما ألحظ انه بدأ يزعل مننا من خلال تعابير وجهه، أُغمزها للتوقف عن الملامة، وبالتالي أُلطف او تُلطف الجو ونرضيه فتنبسط اساريره ويعود الى سجاياه الحلوة المثلى وضحكته الدائمة، رحمة الله على وجهه المشرق.
كان يتمثل قول الرب يسوع الذي كان مرافقاً له منذ لحظاته الاولى (إذ كان يتمنى ان يكون في طفولته راهباً ثم كاهنا وماكل مايتمنه المرء يدركه)، الى لحظة ارتقائه اليه”بالمحبة غلبت العالم.”
اكيد أنا أمام والدي لاشيء، ويتوجب علي أن أفتخر به فهو أعظم والد في الكون، كما يتوجب على كل الأولاد قوله، اذ لولا الآباء لما صار الأولاد في مكانتهم، ولكن ابي جورج زيتون الذي كان ذكره محموداً في المجالس وسيرته ممدوحة في كل مكان…الكل كان يحلف بحياته، الكل ممن يعملون بحرفته حتى المبتدئين من معارف واغراب، صغار كانوا ام كباركانوا يقصدونه للسؤال والتعلم منه، وهم خجلين منه سيما وانهم ضمناً حاسدين له، خاصة وانه كان يقابلهم من وافر علمه ومهنيته بدون حساب ولا تحفظ…وكم غالطته بذلك فكان يجيبني:” معليش لك ابي معليش، المنيحة احسن من العاطلة…”
فعلاً فأنا افتخر بك يامضرب المثل في المحبة والطيبة، وبكل تواضعك ياجرجي (اسمه بالهوية) زيتون…فأنت حبيب الكل، انت الكبير المتواضع بآن والقامة الفنية الدمشقية، لا بل السورية واللبنانية بلامنازع في مهنة اكتسبتها من ابيك المرحوم فارس، ولكنك ابدعتها بإزميلك المبدع ويديك المبدعتين بقفزاتٍ، انت وشقيقك الأكبر نقولا، انما كل في مجاله، انت الذي كنت تمني النفس بأن هذا الفن سيتكرس بابنك الأصغر الذي تتلمذ على يديك، فتعلم فنك واستقى طيبتك ومحبتك وهدوئك المتميز وكلامك الموزون دون إسفاف… شقيقي الأصغر الشهيد مروان الجريء والقبضاي، الذي كان المأمول به، استمرار هذا الفن بالعائلة واستمرار هذه العائلة الفنية به. لكنه ارتقى شهيداً للوطن الحبيب سورية، وهوبعمر 21 سنة فأدمى قلبك ولم تعد تشاهد بعينيك هذا البطل الفحل الهادىء الذي لايهاب، الذي كان رفيقك في دكانك يعمل في صدر الدكان الصغيرة على ذات السقالة، مع شقيقك نقولا الذي عمل قبله معك قي الدكان مقابلاً لك على السقالة ذاتها، في آخر عقدين من عمره رحمه الله، تلبية لدعوتك، لتعملان معا كما كنتما (في الطفولة مع ابيك) بعد تقاعد ابيك، وبعدما اغلق صاحب ورشة النجارة الذي كان كبيرالحفارين الفنان المعلم ابو فارس نقولا زيتون يعمل عنده، كي لايعمل عند غيره ثانية.
شقيقك الكبير نقولا الطيب بدوره الذي كان على مثالك، ولكنه يختلف عنك في قدرته على الاحتمال، اذ كان طيباً جداً ولكن خلقه ضيق كأبيه رحمهما الله بعكس ابي، وكان رجلاً شهماً وهوقد اطلق لقب ” ابو فهد”على مروان لرجولته وهو فتى وكان يحبه بدون حدود… ومنَّ النفس بدوره بالشاب مروان فناناً زيتونياً جديداً وكان كما يرشده في العمل بدون حدود كما كان ابي، هو بدوره فقد ابن شقيقه هذا الرجل الصغير وبكاه كثيرا وكثيرا جداً…
هذا اللقب “ابو فهد” حمله شقيقي الأصغر معه الى الجيش، وشُيِّع به شهيداً بعراضة عسكرية وكشفية وشبابية، لاتزال في ذكريات القصاع.
وبذا انقطع رجاؤك يا أبي وياعمي ورجاء العائلة كلها بالشاب أبي فهد فناناً زيتونياً كما كان فارس الأب وكنتما… تلك العائلة الفنية الدمشقية الاشهر (والأفقر لأن من كان يأكل الموارد الكبيرة والسمعة والنجاح هو المتعهد الا من فتات مالي لكما).
واكتملت وحدتك والمك يا ابي بوفاة عمي نقولا المقابل لك على السقالة ذاتها، فأرهقك قلبك المتعب بفقد صغيرك شهيداً.
الحق معك ياحبيب قلبي يا ابي، فقد قاومت ولكن قلبك الكبيرالذي كان في بدايات الآفة القلبية، اصبح متعباً، ومع ذلك كنت تصمت ولا تشكو من معاناتك، والصمت هو مؤلم بحد ذاته، وقلبك لم يصمد كثيراً، فلقد اختارك الله الذي احببته الى جواره في فردوسه وانت بعمر 66 سنة، اي في ريعان الكهولة، وفي وقت كان يجب ان ترتاح فيه من تعب الايام والجهاد في سبيل اللقمة الشريفة والعائلة المستورة فارتحت نهائياً، وحكمة ربنا أوسع، فخسر الوطن وكل معابد الشام المسيحية والاسلامية واليهودية على السواء، والمجلس النيابي
والقاعة الدمشقية في القصر الجمهوري، وفي رئاسة مجلس الوزراء، وفي الكثير من المؤسسات الرسمية والبيوت الفخمة وقصور وفيلات الأغنياء،وفيهاالصناديق التراثية المنقوشة والمصدفة التي كانت تستخدم في الماضي صناديق ثياب وبقج الأعراس حولت الى صناديق زجاجات المشروبات الروحية وبارات بعد تعديلها، وكم رمم منها صناديق تعود الى قرون خلت، ومنهم من صدروا الى الخارج…
كلهم خسروا فنك وأثمار يديك التي لاتذبل، ويبقى قاصراً عن ايفائك حقك تكريم الوطن لك بتقليدك في مرتين وسام المهارة الفنية وشهادة تقدير رفيعة، ودرعاً تقديرياً منح “للمعلم الحرفي الفنان جورج زيتون تقديراً لفنه الدمشقي المشهور”، وقُدم من معاون وزير السياحة واركان الوزارة ومحافظة دمشق مجتمعين اعترافاً بفنك بحضور المئات في أربعينك، في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع، تلك الكنيسة التي احببت في فتوتك، ان تصير كاهناً لتخدمها، ولما لم تتحقق امنيتك بترك المدرسة ومن ثم العمل بالحرفة مع ابيك، خدمتها طفلاً قندلفتاً كأقرانك، ومرتلاً مع جوقاتها، ومجملاً لها بتقدمات خالدة من انتاج يديك الخالدتين منذ صبوتك، وحتى آخر نسمة في حياتك…
رحمة الله عليك يا ابي الحبيب، المسيح قام وسيبقى ذكرك مؤبداً ليس عندنا فقط بل عند كل من عرفك وسمع بك…وانا اكتب سيرتك هنا لأذكر الناس بك مجدداً ايها الغالي.
أحبتي
لابد لي بعد هذا الاستهلال عن ابي وهو اقل من واجبي نحوه، لابد لي من التحدث عن الاسرة/ آل زيتون/ وان كان من الصعوبة بمكان علي ان اخوض في تاريخ عائلتنا، وهي ليست بالأساس من دمشق، الشام الحبيبة الخالدة، التي ضمتنا ورعتنا كأمنا الحنون، وفيها تعلمنا واكلنا من زادها وشربنا من فيجتها، بدمشقنا الشامة نفتخر وبسوريتنا نفتخر اكثر.
عائلتنا التي كما سيستبين اسرة صغيرة عددياً في دمشق، وتاريخها قريب في الشام، وهي كأي اسرة، كانت فقيرة، ثم صارت مستورة، كانت هي الوحيدة في الشام واقتصرت على جدي فارس وأولاده الصبيان الاربعة، اما البنات الاربعة ووفق طبيعة الأمور انتمين لعائلات أخرى واسسن أُسراً جديدة.
ونؤكد على وجود الكثير من عائلات زيتون المسيحية، وحصراً الارثوذكسية، من حمص وحوران واللاذقية
وبيروت وزحلة وحتى من حماة وكفر بهم… إضافة الى عائلات مسلمة ودرزية أكد لي من تابعتهم من كبارها قرابتنا… وكلنا من اصل حوراني…ومن حوران انتشرت في كل سورية الطبيعية بمافي ذلك فلسطين…
آل زيتون، بطاقة تعريفية
يعود اصل اسرتنا آل زيتون الى منطقة ازرع منذ القرن الخامس عشر كالعديد من الاسر المسيحية،
وقد خرجت منها وساحت في ديار سورية الطبيعية، وخاصة جهات وسط وجنوب سورية وجبل الدروز والجولان ومنها الى فلسطين، وكان منها بطن توجه الى بلدة راشيا الوادي (في جنوب لبنان اليوم)، وكانت راشيا وحاصبيا والبقاع منذ احتلال العثمانيين للمنطقة، وحتى بدء الاستعمار الفرنسي أي 1920 قبل تشكيل دولة لبنان الكبير تعتبر من أقضية دمشق ثم اقتطعها المستعمر الفرنسي والحقها بلبنان الكبير مابعد 1920.
ويمتد أصل نسب بطن عائلتنا في راشيا الى كفير حاصبيا مع كبيرها ايوب…فكبير العائلة في القرن 16 الذي كان في الكفير اسمه ايوب، وقد تكنت العائلة باسمه حين تطبيق الكنيات في بلاد الشام في القرن 17.
انتقلت عائلة ايوب بسبب العمل، وتمددت الى راشيا الوادي القريبة، وكانت “بندر المنطقة”، فاقتنت اراضي عامرة بكروم الزيتون، ومنذ الجد السادس /كما يفيد التقليد المتواتر/ كان كبيرها الخوري الياس ابن ايوب المذكور، وتكنت العائلة باسم ايوب ودونت في السجل العثماني، ولكن لم تكن الاسرة تُعرف باسم ايوب بمقدار ماكانت تُعرف بلقب “زيتون” والسبب بذلك محبة افرادها الشديدة لثمار الزيتون وكانوا يأكلونه باستمرار، وبالذات منه الزيتون الأخضر والاسود المكلس، حتى ان افراد الأسرة كانوا يضعونه في جيوبهم يتناولونه اينما كانوا، في الحقل، والبيوت، والمجالس والطرقات، كما يتناول الناس المكسرات والبزر والفستق… وكانت مؤونة الزيتون اكبر من ان توصف فهي تكبس بالخوابي في أقبية بيوت العائلة، ومن اجود الأنواع، إضافة الى خوابي زيت الزيتون… لذا غلب وصف الناس لهم على كنية العائلة ايوب، فعرفوا ب”آل زيتون”، على المقولة الوصفية الدارجة في بلادنا الشامية:
“اجو بيت الزيتون وراحوا بيت الزيتون” ومنذ الجد الخامس توثقت الكنية “زيتون” وبقي اقارب لنا من آل ايوب في الكفير وراشيا. ولاتزال هذه السمة اي محبة أكل الزيتون مرتبطة بالعائلة وحتى أولادنا وأحفادنا حالياً عندهم “الزيتون سلطان السفرة” كما كنا ولانزال، والتي تبدأ من اساسات العائلة في حوران.
عساف زيتون هو الشخصية المعروفة في آل زيتون منذ مطلع القرن 19 وهو كبيرها الذي عزز مقتنيات الاسرة من الاراضي الزراعية في راشيا، وعلى مايبدو في كفير حاصبيا ايضاً، ووصل بعائلتنا الى زحلة، ولكن صادر وسلب معظم هذه الاراض جيرانهم الدروز بقوة بطشهم، كما حصل ببقية العائلات المسيحية التي فقدت اراضيها وحقولها بعدما هَّجَّروهم.
وبنتيجة كارثة 1860 الطائفية المدمرة للوجود المسيحي في المنطقة وادي التيم (حاصبيا وراشيا) والبقاع وزحلة، وجبل لبنان، تلقت الاسرة ضربة قاضية، وفقاً لما سمعته في طفولتي من شهادات شفهية من
المرحومين جدي فارس وجدتي اسما ووالدي جورج، وتطابقت شهادة جدي ووالدي الشفهية عن العائلة مع ماأورده العلامة محمد كردعلي(1) الذي تحدث بكتابه عن مذبحة 1860 التي دمرتها كعائلة، وقضت على معظم افرادها الذكور، وعن دمار المنطقة المسيحية (زحلة وجنوب وبقاع لبنان حالياً) حتى ان الكثير من عائلات زيتون المسلمة (سنة وشيعة) والدرزية في المنطقة الممتدة بجنوب لبنان ومنطقة الزبداني ووادي بردى وشهاداتهم، أكدت لي (كما اسلفت) اننا ابناء عمومة، وان اصلهم من عائلتنا وانهم كانوا مسيحيين، والسبب هو هذه المذبحة وماقبلها بعقدين تقريباً أي بعد خروج الجيوش المصرية بقيادة ابراهيم باشا بن محمد علي والي مصر 1840، وقد اسلموا وتدرزوا وفق طوائف المنطقة للنجاة من القتل، كما حصل للكثير من العائلات المسيحية كآل الزين مثلاً.
وكانت الدولة العثمانية ومن خلال والي دمشق في عام 1845 الذي كتب سراً الى دروز حاصبيا، يحضهم على قتل المسيحيين، واستعداده لمدهم بالسلاح والذخيرة، وأوعز الى دروز حوران وجبل الدروز ان يبادروا الى نجدتهم، وسأل مثل ذلك مسلمي البقاع ليفعلوه، فهرب مسيحيو حاصبيا قبل الايقاع بهم، لكن الدروز انقضوا عليهم في جهات راشيا وفتكوا بمعظمهم، وتشتتوا في تلك الارجاء ومنهم من نجا فجاء زحلة، وكان من الناجين كبير العائلة جد جدي واسمه عساف(المتقدم ذكره) ومعه بعض من تبقى من العائلة، وكان موصوفاً بالشجاعة والاقدام، واستقر في زحلة، وفي عام 1849 وفي نكبة زحلة بعد مجزرة دير القمر بيد الدروز، وبتخطيط من قائمقام دير القمر، وبمساعدة الجيش العثماني، ارتكبت المجزرة الطائفية مجدداً في راشيا وكانت مروعة، حيث قضى فيها ثلاثة آلاف رجل من المسيحيين، استشهدوا في هذه المنطقة وفي البقاع كان منهم عدد من آل زيتون، وفي مقدمهم كبيرها عساف في زحلة وقضت اغلبية العائلة التي كانت موجودة في راشيا وحاصبيا والبقاع وكانت هذه الكارثة الثانية التي ضربت الاسرة بهذه الفتنة الطائفية التي امتدت من عام 1845 الى 1860.
عاش الناجون من العائلة مجدداً بين زحلة وراشيا وعملوا في ماتبقى من اراضيهم بعد استلاب معظمها من جيرانهم الدروز وهم صاغرين بغية السلامة…
من ابناء الجد الشهيد عساف كان كبيره نقولا زيتون الذي اقام في زحلة، وعمل عربجياً على عربة نقل ركاب بين بيروت وزحلة بعدما هجر الارض الزراعية، وبقيت فلول العائلة حصراً في راشيا ومنهم شقيقته كاترينا تعتاش من الزراعة، وتزوج بالسيدة حسيبة آغاتي، ورزق منها ببكره فارس (جدي) وذلك في عام 1890(وفق سجل البطريركية، وفي الواقع فان جدي كان يؤكد انه من مواليدعام 1896 وان تاريخ ميلاده المحدد عام 1890كان خاطئاً، والصحيح هو1896 (2)وكان الوقوع وقتئذ في الخطأ طبيعياً وفق تسجيل واقعات النفوس بسبب المكتومية والتنقل الديموغرافي والكوارث التي حكينا بها، فيلجا المخاتير ومأمورو النفوس الى تقدير العمرتقديراً. وبعض المأمورين كانوا يتلاعبون بذلك من اجل الجندية… بعد تقاضي الرشوات) ثم رزقا بشقيقته اسما بعده بثلاث سنوات تقريباً، وبعد مرور حوالي 13 سنة على زواجه وعيشه بشظف العيش و”القلة والدلة” والقسوة التي كان يتصف بها اساساً، واكتسبها اكثر من مهنته القاسية كعربجي، وذلك على زوجته حسيبة لكونها غير جميلة، وربما كان ندم لزواجه بها، كما اخبرني جدي رحمه الله الذي انتابه قسم كبير من قسوة ابيه. وكانت امه رحمها الله حنونة علينا نحن أبناء أحفادها وبالتحديد انا حيث كانت تحبني كثيراً، ودوماً تطلب من امي رحمهما الله ان تبقيني عندها في غرفتها التتخيتة ( وكانت واطية السقف وفوق دهليز البيت ومطلة من جهاتها الثلاث على الحارة وفوق باب البيت تسلية لها، وكانت تحكي لي حكايات الجدة، وتقول لي: “ياتيتي كيف بدي اترككم وموت الحياة حلوة” وتعبطني وتشمني وكنت دون الاربع سنوات وفق شهادة امي التي قالت لي ” قال الحياة حلوة وهي الحزينة ماشافت يوم حلو بكل حياتها، قلة ودلة وقتل وضرب من جوزها القاسي عليها وعلى اولاده فارس واسما وسفره لأميركا وتركهم جوعانين”
وكانت امي (كأي ام) سيما وانها ولدتني بعمر 15 سنة، كانت تسعد بكلام التيتي ام فارس عني بأني “سأكون يوما ذا شأن”
في عام 1908 تقريبا، سافر نقولا والد جدي فارس الى اميركا الشمالية بقصد العمل كالكثير من الرجال وقتئذ، نتيجة الجوع الشديد، والظلم التركي للمسيحيين، وسوقهم للقتال في اطراف امبراطورية مترامية الاطراف في الاناضول والروملي واليمن، وكم توفيت وفقدت اعدادٌ كبيرةٌ منهم، ولم يقتصر السفر بقصد العمل على الرجال فقط، بل سافرت الكثير من نساء العائلات تاركة رجالهن واولادهن، وهو امر مستغرب اواخر القرن 19 ومطلع القرن20 ولكن كان الدافع تأمين لقمة العيش، كما كان الحال لدى معظم مسيحيي جبل لبنان، وأقضية حاصبيا وراشيا ودمشق، ووادي النصارى، وكان السفر الى اميركا متاحاً، كانوايستقلون “البابور” او الباخرة بعد توفير ثمن بطافقة السفر، ولم تكن نيتهم من سفرهم هو عدم العودة،بل السفر بقصد العمل واكتناز مبلغ مالي والعودة به لفتح مشروعات عمل في الوطن، ومنهم من كان يرسل، (ومن كانت ترسل) نقوداً الى العائلة في بلاد الشام وخاصة في كل هذه البلدات…
وفي انتشار حمى السفر الى اميركا كما اسلفنا، سافر نقولا تاركاً زوجته حسيبة وإبنيها، ولم يحفل بتوسلاتهم لطباعه القاسية كبقية رجال زمانه، ولم يكن لدى جدتي ام فارس ماتطعمه لولديه، وانقطعت اخباره تماماً.
حطت رحال نقولا كبقية المهاجرين في بروكلن ولاية نيوجرسي، وهناك عمل عربجياً ايضاً، وانقطعت اخباره بسبب البعد الجغرافي وصعوبة المواصلات وتعثرالبريد. ومن ثم قيام الحرب العالمية الاولى.
وكان موقف الكنيسة السورية الناشئة والتي ينظم امورها اسقفها المجاهد روفائيل هواويني الدمشقي،(القديس روفائيل هواويني الدمشقي) “الارسالية السورية الارثوذكسية الأنطاكية” رافض قطعاً لاجراء اي زواج كنسي او خطبة شرعية للمهاجرين بدون الحصول على مطلق حال من كنائس الوطن، ولكن بالرغم من دقته وتفانيه في الخدمة الروحية لهؤلاء المهاجرين ومتابعته لهم بمساعدة قلة من الكهنة المهاجرين بدورهم الى العالم الجديد لجمع المال من التبرعات، وخاصة من رعايا بلداتهم الأصل، والعودة بها الى الوطن لبناء الكنائس والمدارس، وقد جندهم الهواويني في فترة وجودهم في اميركا للخدمة الروحية لأبناء الكرسيين الأنطاكي والأورشليمي الذين هم في اغتراب مخيف ومجاهل افنت اعداداً كبيرة منهم، اي بمعنى انه تابعهم حتى في ابعد المجاهل وكان يتنقل 40 ساعة بالقطار ليقوم بعماد طفل او مناولة مريض مدنف، او للقيام بأية خدمة روحية، اي كان خير معزي لهؤلاء، ولكنه كان شديد التمسك بالثوابت الارثوذكسية، وخاصة مايرتبط بأحوال الزواج والخطبة واشتراطه عليهم احضار “مطلق الحال”من الوطن، ولكن بموجب هذا الانقطاع الطويل عن التواصل والهجرة قرابة عقدين، وكوارث الطريق كما في مأساة الباخرة الشهيرة تيتانيك،
وقد قضى فيها الكثير من الانطاكيين عام 1911، ثم الانقطاع النهائي لفترات طويلة عن التواصل مع الوطن في فترة الحرب العالمية الاولى،، فقد بادر بعض المهاجرين من رجال ونساء الى الزواج ثانية بزواج بعقود مدنية، وفق القوانين الأميركية، ولم يثبتوا زواجهم كنسيا وفق الشريعة المسيحية والعادة في الوطن. لأنها ستواجه بالرفض قطعاً، فنشأت عائلات جديدة هناك شقيقة للعائلات الأصل في الوطن، فالأب، أوالأم، صار لكل منهما زوج آخر وأولاد، مستغلين تفاوت قوانين الزواج بين القانون الكنسي في الوطن، والقوانين المدنية في المهاجر، ومنها المهجر الأميركي، وهذا اقض مضجع الكرسي الانطاكي المقدس ممثلاً بالبطريرك غريغوريوس الرابع ومطارنة الابرشيات ومطران اميركا روفائيل، ولم تكن لديهم اية وسيلة لوقف هذا الشذوذ الذي يعد كنسياً، حالة من حالات الزنى، بتكرار الزواج لعدم انقطاع رابطة الزوجية بأشكالها من طلاق وفسخ زواج أوبطلان زواج، حتى الخطبة الشرعية التي تعد إيمانيا وكأنها نصف اكليل. ما اضطر المجمع الانطاكي المقدس، وكذلك الكنائس الأخرى، الى اتخاذ تدابير حازمة فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، وعودة المواصلات مابين الوطن والمهاجر، وبعد وفاة المجاهد روفائيل هواويني عام 1915، والكثير من المهاجرين عادوا الى الوطن واقاموا مع عائلاتهم الاصل كبطلان الزواج الثاني…(3)
قلنا انه نشأت عائلات ثانية هناك نتيجة الزواج الثاني وفق القانون المدني كانت احداها عائلة نقولا زيتون الثانية حيث تزوج هناك بلبنانية الأصل، وأسس أسرة وانجب اولاداً من عائلة زيتون بفرعها الاميركي في بروكلن، وهي اليوم من العائلات الشهيرة في كنيستنا الانطاكية الارثوذكسية في اميركا الشمالية، والأولاد هم شارلي، جوزيف، جان، وجوزفين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد الى بيروت ومعه ابنه جان الذي عاش في بيروت، وتزوج فيها وسكن في منطقة الحازمية، وبقيت بقية عائلته هناك مع زوجته، وتزوجت ابنته جوزفين لاحقاً من حمصي الاصل مغترب، عادت معه الى حمص وعملت في شركة النفط الاميركية (أ.ب.س) في مصفاة حمص في الاربعينات.ABC
بعد فترة وتقريباً في عام 1924 توفيت زوجته الأميركية، فتزوج بالسيدة شفيقة قريبته من راشيا بتدبير من كاترينا شقيقته المقيمة هناك، ورزق بأولاده توفيق ونعيم وبيرتا وعاشوا مابين راشيا وبيروت وزحلة. وكان نقولا جميل الطلة ممشوق القامة بسمرة جميلة ومهيب المظهر يلفت انتباه النساء، بينما كانت المسكينة حسيبة قصيرة القامة ولم تكن جميلة، لذا لم يعد اليها وان كانت وفق قيود البطريركية بدمشق لاتزال على ذمته.
وبالعودة الى 1908وبعد سفر زوجها بسنتين تقريبا، عض الجوع بأنيابه السيدة حسيبة وولديها فارس واسما فتركوا زحلة، وجاؤوا الى دمشق عاصمة الولاية حوالي 1910، حيث قطنوا بداية مع من هاجر من الرياشنة والحصابنة الى دمشق ومنذ مذبحة 1860 في ضاحية الميدان الدمشقية في ساحة الرياشنة، ولكن لم تطل اقامتها في الميدان اكثر من عدة اشهر، وقد عاشت هناك تحت خط الفقر، وعملت ببعض أعمال الحياكة البسيطة لتطعم ولديها مع إحسانات من جمعية حنانيا الرسول الميدانية. ثم انتقلت فسكنت في القصاع بنزلة الصوفانية، وكانت هذه المنطقة كضاحية جديدة نشأت بعد خروج ابناء من العائلات المسيحية المستورة والفقيرة من بيوت العائلات بعدما ضاقت بهم في منطقة باب توما القديمة، وحي القيمرية الحي المسيحي الارثوذكسي وقتها بالمطلق، بعدما ضاقا بسكانهما اضافة الى خروج النصف المتبقي من المسيحيين الاثوذكسيين الشاغوريين، وهناك عائلات تحمل اسم الشاغوري. وقد قضى نصفهم الأول في مذبحة 1860 وهناك قضى القديس يوسف الدمشقي غيلة وغدراً.
وكان يسكن في البيت الواحد في كل حي القصاع الناشيء وتفرعاته كالصوفانية… عدة عائلات كل منها بغرفة واحدة فقط وكانت المنافع ( مرخاض ومطبخ) مشتركة وكان الحمام في حمامات السوق عموماً، وقدعاشت حسيبة وابنيها في غرفة، وكانت البطريركية وجمعية نور الاحسان تقدم لها بعض المعونات النقدية والطحين مع مشارف مجاعة سفر برلك (1914-1918) وفي فترة المجاعة ايضاً، اضافة الى الخوف والرعب من اضطهاد الضباط والجنود الاتراك للمسيحيين خصوصاً وانتهاك حرماتهم بسبب المجاعة، وسوق اولادهم تعسفياً ولو كانوا دون سن التجنيد ونقلهم فوراً الى جبهات القتال البعيدة.
وكان جدي فارس يروي لي بحسرة، كيف كانت امه تسبقه (ومنذ 1913 الى حين طرد الاتراك من دمشق) إلى أول الحارة لتكتشف له الطريق ليذهب إما الى المدرسة أو العمل وهي تأخذه من يده، خوفاً من سوق العسكر/ وهو حدث/ وذات مرة ألقت دورية جندرمة التركية القبض عليه وكانت معه وبالرغم من توسلاتها، وساقوه الى معسكر سوق العسكر في منطقة القنوات وكان فيها الآلاف من امثاله تمهيداً لنقلهم فوراً الى قناة السويس (حرب الترعة) عام 1914، التي قضى فيها مأسوفاً عليهم كل شباب سورية، في حرب دولية لاناقة لهم فيها ولا جمل، بعدما قرر السفاح جمال باشا الهجوم على الانكليز في قناة السويس عبر فلسطين وقضى الكثيرون في الطريق جوعا وتشرداً اضافة الى استشهادهم بضربات طيران الحلفاء في فلسطين والنقب وسيناء وقبل وصولهم الى القناة وباءت اول حملة بالاخفاق بعد افناء كل الشباب السوري، ولكن العناية الالهية (في تلك الفترة) شاءت بأن أغارت طائرات الحلفاء على معسكر السوق في محلة القنوات، فوقع مئات الشهداء والجرحى من المكلفين الدمشقيين، وهرب من بقي حياً، وكان منهم الفتى فارس ، فالتجأ مع من نجا الى جبل الدروز، الى بلدة القريا الى حصن سلطان باشا الاطرش راعي الاحرار، (والذي كانت تهابه السلطات التركية وفي مقدمها السفاح جمال باشا حاكم سورية وقائد الجيش الرابع)، حيث ضاع جدي في الطريق مدة طويلة، على وصفه لي، وقد صار منظره كالمشردين الجائعين وثيابه قذرة ممزقة، وبعد وصوله الى مضافة سلطان الاطرش في القريا وكانت تضم الكثير من الشباب الفارين من الجندية واللاجئين اليه، حيث بقي جدي في ضيافته لمدة ثلاثة اشهر، استرد فيها عافيته، ثم عاد خلسة الى الشام وكانت امه قد بكته طويلاً لظنها انه استشهد بقصف طائرات الحلفاء، وكانت عودته قد اعادت الروح الى هذه المنكودة المعترة التي كانت تعمل في الخدمة والتنظيف بالمستشفى الافرنسي كبقية النساء الفقيرات وتتحنن عليها البطريركية والجمعيات الخيرية.
وكالعادة، بقيت امه تداريه خوفاً من سوقه مجدداً للجندية، كان جدي فارس قد درس في المدرسة الآسية بدوامها الليلي قبل سوقه المشؤوم الى معسكر السوق في الجيش التركي، ونجاته من الموت، وكان في الآسية قد تتلمذ على يد الارشمندريت اثناسيوس كليلة الذي كان مديراً للمدرسة ومعلماً فيها، وقد روى لي وهو مسن عن ان الارشمندريت المذكور كان يداعب جدي ببيت الشعر التالي:
” اسموك زيتوناً وما انصفوا……. ولو انصفوا لسموك شحروراً
لأن الزيتون فيه زيت يضيء……. وانت لازيتاً ولا نوراً”
والسبب ان جدي كان كسولاً، لم يكن يحب المدرسة اطلاقاً، اضافة الى انه زيتوني البشرة فكانت سمرته غامقة، وكان نحيلاً طويلاً لذا كان كليلة يداعبه معنفاً له على كسله بسمرته على غرار الشحرور الذي هو اسود اللون، وانا اعجب من ذلك لأن كليلة بدوره كان اسمر البشرة غامقها وطويلاً ونحيلاً…
وفي الوقت ذاته كان الفتى فارس يعمل نهاراً في ورشة نجارة في نزلة سفل التلة بباب توما القديمة عند المعلم نقولا(نسيت كنيته) الذي كان طيباً شهماً وحيداً لأمه أعزبا، ولم يكن عنده شغيلة، فحزن على مأساة هذا الفتى واشفق عليه، فرعاه وعلمه المهنة، وكان يعمل نجاراً وحفاراً للخشب، فعلمه مهنته بكل اريحية، فبادله الفتى فارس باخلاصه في خدمته وخدمة امه في البيت، وبرع في حفر الخشب اكثر من النجارة، واخلص في عمله لمعلمه نقولا وكان مستعدا ان يقوم بأي امر مهما كان خطيراً من اجله، ان اقتضى الأمر، وقد اوردنا ذكره في مقال(4) لنا في موقعنا، وكانت هذه الورشة تقع في اول سفل التلة مقابل باب مدرسة الرعاية الخاصة اليوم، ولاتزال في موقعها انما بمهنة اخرى، وذلك يمين الصاعد من باب توما الى نزلة الآسية وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي.
بعد هروبه من السوق للجندية ونجاته، عاد جدي فارس مجددا للعمل في ورشة معلمه نقولا فأطلق يده في مهنة حفر الخشب، بينما انصرف هو للعمل في النجارة. فبرع جدي فارس في حرفة الحفر، وكانت وقتها تسمى “الخط العربي” بالنسبة للحفر العربي وارضيته التي تسمى “دق الرمل”، وبرع في انماط الحفر الاوربية الناشئة وقتها المعروفة ب” لوي كاتورز اي لويس الرابع عشر، ولوي كانز لويس الخامس عشر،ولوي سيز ” لويس السادس عشر…
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى تزوجت شقيقة جدي اسماء الى المهجر الأميركي من ثري دمشقي مغترب من بيت معتوق، حيث هاجرا ولم تلتقِ بشقيقها فارس الا وصار عمره حوالي 80 سنة، عندما زار جدي وجدتي ابنيهما عمتي الكبرى ماري المتزوجة في اميركا من جوزيف عجمي من اصول حلبية منذ عام 1946 وعمي حنين الأصغر بين الذكور الذي هاجر حوالي 1960الى اميركا، وتزوج فيها ولم يرزق بأولاد وقد وافته المنية رحمه الله العام الماضي، وزار جدي اخوته من ابيه المقيمين في اميركا شارلي وجوزيف وتوفيق وكلهم من الفعاليات المحترمة اقتصاديا واجتماعياً وكنسياً في ابرشية اميركا الشمالية في ولاية نيوجرسي، وقد كتبت الصحافة المحلية في ولاية نيوجرسي عن لقاء الأخوين فارس واسما زيتون بعد انقطاع لأكثر من ستة عقود. وكان ذلك تقريباً في عام 1978. وتواصل جدي بزيارات عائلية مع اخوه جان في بيروت وذاك زارنا عدة مرات مع العمة كاترينا واذكر ذلك وكذلك زار مراراً عمته كاترينا في راشيا، وابناء عمومته في زحلة وراشيا واخيه جان في بيروت…
وكان انه في عام 1920 تزوج جدي فارس بجدتي اسما بنت انطون عبد الله طحان من مواليد دمشق 1902 وهي من عائلة الطحان الارثوذكسية الحمصية المهاجرة الى دمشق في القرن 19 مع العديدة من العائلات الحمصية الارثوذكسية، ومن ابناء عمومة مع البطريرك الكسندروس طحان الدمشقي ( الكسندروس الثالث).
وبقي جدي فارس يعمل عند معلمه نقولا مابعد زواجه فترة جيدة من الوقت وطور مهاراته بحرفة حفر الخشب، ولشدة حبه له سمى أول اولاده الصبيان على اسمه نقولا، وتشاء الصدفة ان نقولا ايضاً هو اسم والده، وبالرغم من ظلم ابيه له وانقطاع العلاقة بينه وبين أبيه كان واجبه ان يسمي كبير اولاده الذكور على اسمه، وفق العادة الدمشقية، فاجتمعت الرغبتان.
قلنا ان والده نقولا وبعد وفاة زوجته الثانية في اميركا وحصوله على شهادة اطلاق حال من دوائر النفوس الاميركية، قام بالزواج من شفيقة من راشيا مع هجر كامل لزوجته حسيبة منذ 1908 ولكنه بادر الى زيارة ابنه فارس في دمشق وصار يصطحب معه زوجته الثالثة حسيبة واولاده.
وقد تأكد لي ذلك من معلومة استقيتها من وثيقة بطريركية عبارة عن كراس يحمل يعود الى عام 1925 وفيه احصاء قام به مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع بزيارته الرعوية (النورية) حيث زار كل رعيته الارثوذكسية الدمشقية في دمشق القديمة والتوسع في القصاع والصالحية ومحطة القنوات ايضاً… وبدأها في نيسان 1925 وختمها في 6 ايار ش 1925 بصلاة الغروب في كنيسة القديس انطونيوس ابي الرهبان في القصاع في حارة دف التوت ( مكانها الآن الشارع المؤدي من القصاع الى ساحة جورج خوري( حيث كانت الكنيسة مؤقتة في بيت عربي).
وقد زار البطريرك بيت جدي فارس في حارة “عين الشرش”(5)رقم 11 ويبدو ان نقولا والده كان في زيارة لهم بمفرده بحيث ورد في هذه الاحصائية عن عائلتنا ما يلي:” نقولا عساف زيتون امرأته حسيبة ابنة موسى آغاتي، أولادها فارس متزوج أسما انطون عبد الله الطحان، اولادهما ماري وايفون ونقولا.”.
اما حارة عين الشرش سكن عائلتنا، كانت فيها عين ماء تسمى عين الشرش، وتسمت ايضا ولا تزال بتسمية “الفاعور”نسبة لتاجر بناء حمصي الأصل قام ببناء بيوت هذه الحارة، وكلها عربية شعبية متماثلة ( ولاتزال بعض البيوت كما بناها) وقام بتأجيرها الى العائلات الفقيرة منهم عائلتنا.
بعد حوالي نيف وثلاث سنوات، انتقل جدي مع زوجته اسما وامه ” ستي ام فارس” واولادهم السالف ذكرهم، اضافة الى والدي جورج وعمتي جوزفين المولودين في بيت عين الشرش، الى منطقة جناين الورد في القصاع خلف المستشفى الافرنسي والمحصورة بشارع القصاع شرقاً وشارع حلب غرباً، وكانت عبارة عن بساتين غناء، وبيوت ريفية من طبقة واحدة والبيت عبارة عن غرفة واحدة و”ارض ديار” كحال مساكن كل العائلات المستورة، بحيث ان الغرفة كانت تُفصل بساتر قماشي ليلاً الى مايشبه الغرفتين، تعيش “ستي ام فارس” في واحدة مع الاولاد حيث يفترشون الفرشات على الارض، وفي الثانية يعيش جدي وجدتي.
رزق جداي بتسعة أولاد أربعة ذكور وخمس اناث، توفيت واحدة منهن واسمها جورجيت، وكانت صغيرة بحادثة اليمة. وكانت جدتي تعمل في خياطة صداري رجالية تقليدية خاصة بالقنابيز في البيت لمساعدة جدي فارس في اعالة هذه العائلة الكبيرة، ككل العائلات المستورة وقتئذ.
والأولاد هم
الاناث
ماري الكبرى وهي من مواليد 1922 التي سبق الحديث عنها وايفون مواليد 1924زوجة السيد جورج شمعون، وجوزفين زوجة السيد نمر الزين، وجانيت زوجة السيد فائز اسعد. والمرحومة جورجيت مواليد
1936
الذكور
المرحوم نقولا مواليد 1926، ووالدي المرحوم جورج مواليد 1928 والمرحوم جوزيف مواليد آخر 1929، والمرحوم حنين مواليد 1936تؤام المرحومة الطفلة جورجيت.
في هذا البيت المتواضع، تم استقبال مثلث الرحمات البطريرك الكسندروس، وحاشيته البطريركية عام 1932، حيث زار بعض البيوت من طائفته، ومنهم ابنة عمه اسما، وكان قد اعد له آل الطحان وانسباؤهم استقبالاً حافلاً في بيت جدتي، وكان من المستقبلين لغبطته الاب العلامة ايوب نجم سميا كاهن محلة القصاع، وهو شقيق جدي فارس وقد تآخيا بالدم. وكان استقبالاً حافلاً فاخر به آل الطحان وآل زيتون والمختصون بهم طويلاً، ووجب علي ان اثبته بتاريخ العائلة التي تعتبر هذا البطريرك العلامة كبير الاسرة.
صار جدي يعمل في مهنة حفر الخشب، في دار البيت السماوية صيفاً وفي الغرفة الوحيدة بالبيت شتاء. وتعلم طفلاه نقولا وجورج المهنة عليه، في حين ان عمي جوزيف لم يحب هذه المهنة فتعلم مهنة الصياغة.
اما حنين فكان الوحيد الذي تابع دراسته، وفي مدرسة الآسية، وان كان لايحب الدراسة كثيراً، فنال الشهادة الاعدادية، ثم تعين موظفاً ليلياً في اذاعة دمشق في فترة الستينات.
وكانت الاحوال الاقتصادية العامة في حي القصاع، تقضي بأن يدرس الاولاد في الليل في مدارس ليلية ويعملون في النهار لمساعدة ذويهم، وغالباً ان كانت الحرفة عائلية. وكانت حرقة قلب لوالدي (وقد اعترف لي بها يوم رجوته ان يعلمني مهنته الفنية فلم يقبل لئلا تأخذني من اكمال تعليمي، بقوله لي رحمه الله:” انت تحب العلم وانا مابدي ياك تترك المدرسة لتشتغل معي… وانا حرقة بقلبي لك يا ابي انو جدك الله يطول عمرو طلعني من المدرسة وماكنت كسلان…كنت شاطر، وياما بكيت، وياما ستك اسما، وستي ام فارس ترجوه، حتى ابونا ايوب، ليخليني ضل ادرس بالليل واشتغل بالنهار معه، فما قبل بل كان يجاوب الكل: “خليه يتعلم المصلحة فهي انفع الو والنا”) وكان ابي قد اجتاز الصف الرابع (اي قبل حيازته شهادة الدراسة الابتدائية السرتفيكا وقتها وكانت في الصف الخامس) وكان متفوقاً، في صفوفه في مدرسة الآباء اللعازريين الابتدائية، وهي بالمجان لفقراء حارة القصاع، وكذلك فان عمي نقولا وعمي جوزيف تعلما مع ابي في المدرسة ذاتها، ولكنهما كانا لا يحبا المدرسة، فتركاها للعمل، وعمل نقولا مع ابيه بحرفة حفر الخشب وتميز بهذا الفن، اما جوزيف فتعلم حرفة الصياغة، وبرع فيها واصبح من كبار المعلمين بمهنة الصاغة، وكان (شيخ كار متميز) لجرأته ودفاعه عن ” الكار واهل الكار”، وكان يعتذردوماً وفي كل عمره من إجماع الصياغ عليه نقيباً لهم. اما البنات فقد درسن في المدرسة ذاتها الى حين زواجهن عدا جانيت التي درست في مدرسة يوحنا الدمشقي ثم الآسية.
بقيت العائلة تسكن في بيت جناين الورد الى عام 1947، ثم انتقلت الى بيتها الأخير، وكان بيتاً عربيا من البيوت الشامية الصغيرة (البسيطة)، ومكون من ارض ديار سماوية، وغرفتين “مربعين” متقابلتين، مع تتخيتتين صغيرتين متقابلتين بسقف منخفض، مع قبو لتخزين المؤونة، وحمام ومطبخ وبيوت مؤونة حطب ومازوت بأرض الدار وبئر ماء يستمد ماءه من هذه الارض المروية من السواقي العديدة ومنها ساقية كانت تمر تحت بيت عمتي ايفون الواقع في اول الحارة وتتجه الى بيت جدتي.
وكان في بيتنا داليتي عنب بلدي زيني، ولا اطيب سبحان الخالق، وشجرتي ليمون بلدي ونارنج، ولكن لم يكن في ارض الدار بحرة مائية فهو بيت صغير وبسيط، في آخر الحارة تنبع “عين الشرش”، وهي عين ماء رائعة ببرودتها في الصيف، وموقعها الآن في ساحة جورج خوري، وكانت في صدر بستان ورد لصاحبه كبير آل افتيموس، وهو رائد زراعة والاتجار بالورود في الشام. وتخرج ساقية من البستان من تحت الدك الى خارجه، وتنساب بحيث يستفيد منها السكان في الغسيل والجلي، ثم تنساب نحو البساتين، وكانت هذه المنطقة التي تسمت حين تنظيمها (ساحة جورج خوري)، كانت بدورها ضاحية سكنية تشابه الريف المتمدن سكانها خليط من الوافدين المسيحيين المستورين من كل ارجاء سورية، وخاصة منهم
ابناء وادي النصارى، وجميعم اما موظفون بالحلقات الوظيفية الدنيا، اومتطوعون من افراد وصف ضباط في الجيش والشرطة والدرك، بينما كان سكان حارتنا “الفاعور او عين الشرش”، من العائلات الدمشقية التقليدية المستورة، وتسكن عدة عائلات في بيت واحد، اضافة الى عائلات يونانية لاجئة الى دمشق من كيليكيا ولواء الاسكندرون من المجازر التركية…
وكانت عماتي المرحومتين ماري، وايفون، وعمتي جوزفين (اطال الله عمرها) قد تزوجن جميعهن وخرجن الى بيوت ازواجهن.
وبقيت جدة العائلة “ستي ام فارس” حسيبة تعيش في بيت ولدها فارس الى حين وفاتها.
ولكن قبل وفاتها وكما اسلفت فان زوجها نقولا كان يقوم بزيارة بيت ابنه، ومعه زوجته الثالثة، هذه الزيارات كانت تغيظ ستي ام فارس وابنها جداً، ولكن الاصول الواجبة، وطيبتهم واخلاقيتهم، كانت تفرض عليهم بالرغم من ظلمه لهم، ان لايقابلوه الا بالاحترام. وعندما صار في مرض الموت منتصف الخمسينات، ارسل في طلب جدي فارس، فذهب ومعه والدي الى راشيا، وهناك وهو في حالته الصحية المتردية هذه، عندما دخل عليه ابنه فارس وحفيده جورج ابي بكى كثيراً وحاول تقبيل يد ابنه
، وكان يبكي بمرارة راجياً ابنه ان يسامحه عن ظلمه له ولوالدته، ورجا من ابي جورج ان يقنع ستي حسيبة لتسامحه، وهو “الآن في يدي الله” كما قال لهم، ودعاه وعادا الى الشام، وبعد ايام معدودة، اسلم الروح. واذكر على قول والدي الذي لعب دوراً ايجابياً عند ستي ام فارس لتسامحه، واستطاعا انتزاع المسامحة منها ، خاصة انها كانت تحب والدي جداً، لذا رضيت معه مرغمة وقالت:”الله يسامحه”.
وتوفيت رحمها الله في آخر العقد الخامس من القرن العشرين بعمر ناهز الثمانين سنة.
سكن ابناء العائلة الذكور في بيت الاهل كعادة الشوام الى ان تستقيم امورهم باقتناء بيوت خاصة بهم، وهم: عمي نقولا الذي تزوج 1948 بخالتي اراكسي
اواكيميان ابنة خالته، وسكن في مربع ارضي، ووالدي جورج تزوج بدوره والدتي روزيت اواكيميان ابنة خالته، وشقيقة اراكسي “اختي سلفتي” في 7تشرين الأول 1951 وسكنا بغرفة بُنيت خصيصاً لزواجه على السطح، وعمي جوزيف الذي تزوج بجوزفين بغدان وكانت خياطة شهيرة، من سكان دمشق، وهي من مواليد بلدة عربين عام 1956 وسكنا ايضاً على السطح في الغرفة الثانية الملاصقة لغرفة اهلي كان قد تم بناءها ايضا خصيصاً لاقامته. وعمي الأصغرحنين وعمتي الصغرى جانيت (أطال الله عمرها) التي تزوجت من فائز اسعد من قرية البيضا عام 1959.
وشهد هذا البيت أيضا عمادات كل أحفاد العائلة ماقبل خروجهم، واكليل عمتي جانيت، وكان مطرحاً لنزول عمتي ماري في زياراتها ومعها عائلتها مرة كل
خمس سنوات للوطن من اميركا (وكانت ثرية) فهو بيت العائلة، وعيب ان لاتنزل فيه وان كان يضيق بسكانه، ومنه غادر عمي حنين الى اميركا بتشويق من شقيقته ماري لضعف راتبه الشهري في عمله بالاذاعة السورية عام 1960، وعاد بزيارة واحدة له الى الوطن بعد 20 سنة، لأنه بقي فقير الحال، وتزوج هناك ولم ينجب اولاداً، وبقي يعمل بعمل عضلي، حتى انهكه المرض، فأقام في آخر حياته مع زوجته وهي مصابة بدورها بمرض عضال في دار المسنين بباترسن، وتوفي مأسوفاً على طيبته ومحبته في العام الماضي.
وكما شهد هذا البيت وداع جدة العائلة ستي حسيبة ام فارس، كذلك جدي فارس 1982وجدتي اسما 1994الى مثواهما الأخير، وكان الاولاد جميعهم قد انتقلوا من بيت العائلة الى بيوت شخصية لهم بعدما اقتنوها، حيث بقي المرحومان جدي وجدتي الى آخر عمريهما بمفرهما،
وكانت رحمها الله وبالرغم من تَعَوُّق رجلها بكسر قديم في الفخذ، كانت من العضوات الناشطات في جمعية مار اليان للسيدات وفي اخوية سيدات كنيسة الصليب وكلتاهما تسعيان للخير والاحسان، وكانت في كل قداس الهي تتأبط جدي وقد صار عاجزاً وتأخذه الى كنيسة الصليب لذلك تمما كلاهما واجباتهما الدينية حتى انتقالهما مسنين محترمي الكبرة والسمعة الى الأخدار السماوية كان جدي عضوا اساسياً في جمعية القديس جاورجيوس الارثوذكسية الخيرية لدفن الموتى الى ان شاخ.
كانا يستعينان بمعيشتهما اضافة الى مدخراتهما الضئيلة، وكان ابي رحمه الله ومنذ تقاعد جدي يقوم بموجبات الرعاية لوالديه طيلة حياتهما، وكانت جدتي مدبرة في مصروف البيت، وتقوم على تأجير غرفة اواثنتين لطلاب او طالبات جامعيين من وادي النصارى، وآخر المستأجرين كنت اناعند زواجي منذعام 1980 الى حين بيع البيت بعد وفاة جدتي الى تجار بناء عام 1995 أقاموا مكانه، والبيتين الملاصقين، بناية واحدة سكنتُ انا وعائلتي في شقة صغيرة بها.
جورج زيتون، السيرة الذاتية
من مواليد 1928 في بيت العائلة في جناين الورد، درس في مدرسة راهبات اللعازرية الابتدائية في برج الروس بالقصاع، حيث اجتاز الصف الرابع الابتدائي بنجاح، وكان يرغب (كما اسلفت) من كل قلبه متابعة الدراسة، اسوة برفاق صفه كان منهم من صار معلماً شهيراً كالأستاذ انطون مارين استاذ الرياضيات الشهير، ومحامياً شهيراً كالاستاذ انطون ديوانة…لكن والده اصر على إخراجه من المدرسة لأنه كان قد برع في مهنة حفر الخشب، وليساعده في مصروف هذه العائلة الكبيرة، هذه الحال كانت عامة عند كل العائلات الدمشقية المستورة المماثلة، ليتعلم الولد مهنة تفيده ويساعد ذويه، سيما وان جدي رحمه الله كان صارماً، بالرغم من توسل جدتي زوجته وامه ليبقي جرجي في المدرسة الذي كان يبكي باستمرار ليبقيه في المدرسة، ولا سيما انها كانت مجانية لأبناء العائلات الفقيرة، وكان الاب ايوب سميا شقيق جدي بالدم وبالرغم من كل مكانته ككبير العائلة، قد سعى له ليكون بمدرسة القديس يوحنا الدمشقي الارثوذكسية بالدوام المسائي وبالمجان وتمت الموافقة، الا ان جدي اصر على اخراجه من المدرسة!!! وكما اسلفت بقي ابي جورج رحمه الله متأسفاً على عدم اكماله دراسته، حتى آخر لحظة من حياته.
وكما اوردت قبلاً حينما أصر ابي على أن أتابع انا في دراستي، وما ذلك الا احتجاجاً مبطناً على ماضيه، وتعويضاً لذاته من خلالي، سيما وان شقيقيَّ الأصغرين المرحومين عبود ومروان تركا الدراسة بدورهما والتحقا بالعمل…
وكانت فترة الحرب العالمية الثانية فترة ركود اقتصادي عالمية، وانعكست على سورية الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي، وتعثر واقع الحكومة السورية تحت نير الانتداب، وحالات الاضراب والفاقة الاقتصادية، فتوقفت مهنة حفر الخشب تقريبا حيث بقي جدي يعمل بالكاد بمفرده، بينماعمل ولداه نقولا وجورج في كل مهنة، او في كل خدمة متاحة، بمافي ذلك العمل في البناء، وذلك لمساعدة والدهما، وقد عمل والدي، وكان طفلاً في تلك الفترة، في معمل أكعاب الاحذية النسائية (أكعاب الاسكربينات) في معمل أجمان مع اولاد ونساء العائلات القصاعية الفقيرة، وما اكثرهم في حينه (ولايزال هذا المعمل مستمراً من خلال سليل آل أجمان، صديقنا العزيز السيد نبيل أجمان، الذي ورث المهنة عن جده وأبيه وعمه) كما عمل والدي ايضاً في عيادات اطباء، حيث يذكر لي والدي انه عمل طويلاً كصبي للتنظيف والخدمة على التتابع في عيادتين لطبيب اسنان وطبيب بشري في منطقة الشهداء بمنطقة الصالحية، وكان يتنقل سيراً على الأقدام من بيتهم في محلة جناين الورد بالقصاع الى منطقة الصالحية عبر شارع بغداد (مدحت خاطر حالياً) وكان طفلاً يتراوح عمره بين 8- 12 سنوات يتنقل في شارع يُشَقْ حديثاً بين البساتين الواصلة مابين ساحة السبع بحرات وحي القصاع، وكان يتم شق الطريق ذهاباً واياباً بحفره يدوياً ب”القزمة والكريك” (على وصفه لي)، بحيث كان يذهب يومياً، ويداوم في عمله بين 8 صباحاً و7 مساء ومعه زوادة (شطيرة زيت وزعتر).
روى لي رحمه الله انه وهو حدث صغير، وبالرغم من أخطار المرور في البساتين، وخاصة في المساء، وكان يعود على مهله ليستمتع بجمال الطبيعة، ويتوقف ليشرب من سواقي عين الكرش العذبة بجانب جامع لالا باشا، ويحاول التقاط الثمار من أشجار الفواكه الشامية المثمرة من توت وجوز ومشمش وعوجا وإجاص وخاصة أشجار الدراق الختمي والزهري الصغير المتكئة على السياج البدائي الذي اقيم على مسار الطريق، وكانت على وصفه ” يخزي العين هالشجرية والبساتين حاملة من عيونها” وكان فيها المقام الاسلامي المقابل لمقبرة الدحداح التي كانت بدون سور، ليحضرمنها الى البيت ليأكل الجميع حيث حنانه كان يدفعه الى ان يغص لهم لأنه منذ طفولته كان باراً بالجميع.
وتتفق رواية ابي مع كتابات المؤرخين المعاصرين، بأن شق هذا الطريق في اول مرحلة منه بدأ عام 1922 وتنامى تحديداً عام 1925 اي مع بدء الثورة السورية (1925- 1927) بأمر من الجيش الافرنسي، لتسهيل نقل جرحى الجيش الفرنسي الى المستشفي الفرنسي في القصاع،هذه لم يعيها انما عرفها من اهله، ثم تم توسيع هذا الطريق الى وضعه الحالي في الاربعينيات، وعاين هو هذا التوسيع.
وعندما دخلت قوات فرنسا الحرة عام 1941 بقيادة الجنرال كاترو مدعومة بقوات انكليزية الى دمشق، وطردت قوات حكومة فيشي الفرنسية المتحالفة مع المانيا النازية، قام الانكليز كعادتهم بكسب ود السكان
المحليين الفقراء نتيجة الحرب العالمية الثانية، من خلال اقامة مشاريع فورية، فقاموا مثلاً بانشاء الجسر الحالي في باب توما بعدما كان جسراً خشبياً، وقد عمل في هذا المشروع المرحومان الفّتِّيان عمي نقولا وابي جورج، مع بقية فتيان ورجال القصاع، مقابل اجرة يومية زهيدة… “المهم ان تشتغل الناس وتكسب مصاري” (على قول ابي).
وبعد استقرار الاحوال وعودة الحياة الاقتصادية، عادت مهنة النجارة وحفر الخشب الى الحياة مجدداً، وعاد الشابان للعمل بها لكن نقولا خرج للعمل في ورشات النجارة عند الغير باجرة يومية، وكان بارعاً في وضع رسوم الطبعات، وحفر المفروشات الافرنجية، فتخاطفه اصحاب الورش الشهيرة، بينما برع والدي في حفر المفروشات العربية التراثية وفي وضع رسوماتها.
لم يرض والدي بترك ابيه، وعاد للعمل معه وطور المهنة، عما كانت عليه زمن جدي، وللمناسبة فإن جدي فارس وولديه نقولا وجورج وهم في بيت جناين الورد عملا في حفر مدرج وقاعة المجلس النيابي السوري، ومفروشاته، وكان المتعهد هو السيد محمد علي الخياط الشهير، حيث كان والدي رحمه الله والى آخر لحظة من عمره، وكلما ظهر مدرج البرلمان على التلفزيون، يتأثر، ويقول لي بتهدج: “رحم الله ايدين جدك وعمك نقولا وقد حفرنا هذا الخط العربي بس ماكان حدا بيعرف مين الحفارين، لأن المتعهد محمد الخياط كان هو المبَّين، وكان يطير عقلو من شغلنا وهو فنان بالأساس، وكان يجبلنا عا بيتنا في الجناين الادد لنحفرها، واول مرة
زارنا استغرب انو هذا الشغل الفني المرتب كان شغل هالعيلة اب وطفليه وبهدا البيت الفقير…” وتابع:” سقى الله لك ابي كله راح الكل راحو لرحمة ربن” وكنت اجيبه: “الله يديم ايديك يا ابي انت اسطورة بهالفن”، ويتابع: ” كان أملي بأخوك الصغير مروان (وبكى) الله يرحمه طلع عمرو اصغر من جدو وعمو ومني كنت عم ابني عليه استمرارية فن الحفربعيلتنا الفنية لأ، والاصعب علينا انو مات صغير قبل الكبار الله يرحمو، وراحت مهنة العيلة”.
وقتها اكد لي ان من عاصرهم في هذه المهنة، كانوا اربع عائلات ثلاث منها مسيحية، اضافة الى عائلة الفنان محمد علي الخياط الذي اشتهر بأخذ التعهدات لكل مفروشات دوائر الدولة. بينما كانت المهنة قد “رخصت كثير” وحطت مكانتها لنزول متسلقين كتيرين من الغوطة الشرقية من سقبا وعربين وجوبر وعين ترما، وكلهم فتحوا دكاكين بالقيمرية، وكانوا يخبصون حتى ان بعضهم في بداية عمله، استخدم اداة بدل المطرقة الخشبية قبقاقبه الذي كان يلبسه مع الشروال.
كان الكبار منهم يلجأون له للتعلم والاستشارة، وواحد منهم تعلم الحرفة في مدرسة الصناعة، ولكنه كان يأتي ليتعلم اصول الكار من الخبير ابي، وخاصة في حفر التماثيل الصغيرة. وكان ابي لايبخل عليهم بالشكل العام، الا مايختص بعمله هو، مع انه كان يعرف ان بعضهم كان يكرهه لسببين: الأول لأنه المعلم والخبير وليس مثله معلم اي مانسميه (كراهية اهل الكار)، وثانياً وبكل اسف هو مرتبط بالأول، لأنه مسيحي، وقد وصلت هذه الى والدي من بعض جيرانه المسلمين المحبين له ليأخذ حذره ولكنه لم يغير تعامله معهم ابداً.
وانا ولأني كنت اعرف شغل أبي من بين عشرات النماذج، أسعدني الحظ بأن طاولتي (مكتبي) في رئاسة مجلس الوزراء، وكانت محفورة حفراً عربياً من شغل ابي، وعليه طابعه الشخصي يضعه في مكان خفي كنت اعرفه، وكان مكتبي جزءاً من غرفة مكتب كبيرة بكنباتها ومكتباتها وطاولات السكائر المثمنة، وكان يشغلها احد كبار الموظفين المسؤولين في رئاسة مجلس الوزراء، وبقيت انا اعمل على مكتبي الى حين ترفعي في العمل الوظيفي وتعييني بمنصب عال فتم تخصيصي بغرفة مكتب بمفروشات حديثة، واذكر ان مكتب امين عام مجلس الوزراء المرحوم الاستاذ انور مريدن كان من شغل والدي، وقد أريته الطابع الشخصي لوالدي بعمله، فأعجب جداً بوالدي دون ان يعرف، وعند وفاته رحمه الله جاءنا معزياً في البيت واطلع على عمله وترحم عليه، وكان بيت الاهل قطعة فنية من مفروشات حفرها الوالد بيديه…
دكانه في القيمرية
تعود تسمية الحي: “القيمرية” الى اصلها اليوناني الرومي: “ايا ماريا” اي “القديسة مريم” بالعربية، وهي تسميتها منذ العهد الرومي لتجاورها مع الكاتدرائية المريمية، حيث كل محيط المريمية او كنيسة مريم، كان يتشرف باسم العذراء مريم، وحتى الدرب الموصل من غرب المريمية اليوم الى باب السلام مروراً ومتقاطعا مع القيمرية، كان يسمى “درب مريم” وفيه دير لليتيمات على اسم “القديسة مريم” في محلة ساحة الخمارات اليوم، ليصبح ديراً للراهبات بعد اعتناقهن الرهبنة لما يبلغن هذا العمر، وهو مقر ميتم “جمعية القديس
بندلايمون لليتيمات” حاليا، وقد تحرف الاسم “آيا ماريا” تدريجيا ليصبح “القيمرية” في العصور التالية للعصر الأموي، وكانت من الاحياء المسيحية الارثوذكسية الصرف ( وخاصة بعد انشقاق الروم الكاثوليك منذ 1724 والفرز السكاني وفق الطوائف المسيحية) لاحاطة الارثوذكس بدار بطريركيتهم الارثوذكسية، وبكنيستهم المريمية وكنيسة يوحنا الدمشقي الى عهد قريب وتحديداً بعد مجزرة 1860 بحق المسيحيين الشوام ومن التجأ اليهم من اخوتهم من جبل الشيخ وجبل الدروز وقرى القلمون. واحترق وتدمر بالكامل في مذبحة 1860كونه كان حياً مسيحياً بالكامل لجهة السكن ولجهة العمل كما اسلفنا.
وبعد هدوء الاحوال نزح منها من بقي حياً منهم، وبدأ النزوح وخاصة بعدما ضاق الحي وبيوته بالسكان في العقد الأخيرمن القرن 19 بعد ان تم حرقه بالكامل بيوتاً وخانات الحرف وخاصة منها خانات سدي الحرير التي كان قد عمل بها كثيرون من اعلامنا المسيحيين الارثوذكس (منهم عندما كان صغيراً القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي، ومطران بيروت غفرئيل شاتيلا الدمشقي ومطران اميركا القديس روفائيل هواويني الدمشقي والبطريرك ملاتيوس الدوماني الدمشقي) بيد الرعاع واعيد تعميره وهاجروا الى الحي الجديد او ضاحية القصاع وامتدادها شارع حلب، وحل محلهم بادىء الامر مسيحيون وافدون للعمل في الوظيفة العامة، والمتطوعون في الجيش والشرطة منذ الانتداب
الفرنسي من محافظات حمص وحماة واللاذقية، وخاصة في الدخلات الأقرب الى باب توما اضافة الى الغلبة المسيحية السكانية الكبرى منذ القديم في حارة الجورة، بينما الآن الاغلبية هي من الاخوة المسلمين الشيعة، واليوم ايضاً صار حي القيمرية اسلامياً بسكانه بنسبة 70%… في قسمه الشرقي الى المصلبة، ومنها الى الغرب والنوفرة اسلامي 100% كما صار في الاحياء المسيحية في محلة الميدان، وقد حل المسيحيون الحوارنة ومن جبل الدروز محلهم بداية، واليوم صارت تقريباً كلها اسلامية مع وجود ثلاث كنائس تراثية، هناك واحدة في باب مصلى، واثنتان في حارة القورشي.
وكانت القيمرية من جانب آخر، حياً حرفياً تنتشر فيه دكاكين الحرف كلها تقريبا لأربابها المسيحيين الأرثوذكسيين، لذا ولكونه حياً حرفياً انتقل جدي ووالدي للعمل فيه مطلع عام 1950، فاستأجر والدي وبعقد ايجار باسمه دكاناً صغيرة وسط القيمرية، اتسعت بالكاد لسقالة العمل، وكانت ارضيتها مرتفعة درجتين عن ارضية الحارة وترابية بدون تبليط وحيطانها من اللبن، فأبقاها على حالها لأن “الجمل بفلس ومافي فلس” على قوله.
ووزع على جدرانها ازاميله، وقد علقها بطريقته كمعلم، وكان يعرف موقع كل ازميل، مع طبعاتأعماله
الكرتونية فوق بعضها، ومع ذلك كان يعرف مكان كل طبعة ولو بعد 40 سنة، وكان للدكان سقيفة يضع فيها الشغل الذي تركه اصحابه لبينما يأتون لاسترداده، والكثير منها وفق عرف اهل الفن تعتبر كنوزا اشتغلها رحمه الله ولم يتقاضى اجورها، وبقيت عنده بالحفظ والصون امانة لأصحابها… حتى وفاته.
وقد بقي رحمه الله يعمل في الدكان 45 سنة حتى انتقاله الى الاخدار السماوية عام 1995، وعمل معه في الدكان على الطرف المقابل من السقالة جدي فارس حوالي 10 سنة الى ماقبل عام 1960 حين تقاعده عن العمل، وان استمر لعدة سنوات بالنزول للتسلية عنده يومياً، وكان والدي يمتطي دراجته العادية، ويعودان سوية سيراً الساعة 12 ظهراً للغداء، ووالدي كان يجر دراجته جراً،(ولم تكن الشوارع بهذا الازدحام الحالي) وبعد الغداء وتقريباً حوالي الساعة 2 ظهراً يكون والدي قد عاد الى عمله قائماً على رأس عمله حتى الثامنة مساء الى حين اغلاق كل الدكاكين.
اما الحرف والمهن التي كانت في حي القيمرية، وفي الحارات الموصلة اليه، وقتئذ كانت فيها خانات مخصصة للنول والنسيج، وخانات خاصة بصباغ القماش كانت بملك اليهود وهم يعملون بها مع اولاد ملتهم، كان يتم
العمل في هذه الورش بثلاث ورديات، اضافة الى ورشات نجارة الموبيليا، ومحلات خراطة الخشب، بآلية عمل بدائية، (بأن يسند الخراط بقدميه ازميل الخراطة، وحرفة المخرق، وحرفة المبردخ والبخاخ اي كل الاعمال المرافقة لنجارة الموبيليا، اضافة الى محلات المحايري للخشب والبلاكية… ودكاكين متنوعة الحرف كالحفارين والصدافين ( مهنة الصدف) والسكابين (سكب النحاس) وباعة الدجاج الحي وهي لليهود، اضافة الى فرنين للخبز ( ابو الياس المعلولي والشاويش) وفرن للخبز المشروح في تلة القاضي، ومحلات لبيع الفول، والابرز هومحل ابو فاروق وشقيقه شكري وعندهما اطيب لقمة فول وتسقية، وفي الصيف كان يغلقا محل الفول ليفتحا محل الليموناضة الجامدة اللذيذة، ولايزال قرب المصلبة قبل الجامع، وكان هو محل الليموناضة الجامدة والسوس الوحيد في الشام.
اي ان القيمرية وهي اليوم هذا الحي الجميل والسياحي، كانت ذاك الحي الشعبي الى العقد الأخير من القرن 20 قبل ان تصير الهجمة العارمة على تحويل البيوت الشامية الى مطاعم ومقاهي وفنادق كما فندق “الشهبندر” اول الحي حالياً.
كان حي القيمرية بالأدق قرية صغيرة فيها كل شيء، فهي حارة سكنية متلاحمة بسكانها وعمالها بأديانهم.
ولأن جدي وابي كانا يعملان معاً، لذا كنا نأكل عائلتنا وعائلة جدي معاً، لذا تولى والدي مصروف البيت، وكان يتسوق احتياجات البيت يوميا من خبز ولحوم وخضرة وفاكهة من القيمرية، حيث يمر الباعة الجوالون ويضعها في شنطتين على مقود دراجته العادية،ولا ازال اذكر كلمته:”كنا بخمس ليرات نعبي الشنطايتين خبز ولحمة وخضرة وفواكي” وكانت جدتي اسما وبمعونة امي تتولى الطبخ والغسيل و…وبقينا على هذه الحالة العائلية الى حين خروجنا الى بيتنا الجديد، وبقي والدي براً بوالديه يقدم لوالده مايكفيه وجدتي من مصاريف الحياة، واستمر على هذه الحال حتى وفاة جدتي رحمها الله، وترافقه بدعواتها كما كان جدي يفعل:” الله يرضى عليك ياجرجي”
وبالمقابل كان عماي نقولا وجوزيف قد استقلا بموضوع الطعام عن العائلة كاستقلالها في العمل منذ اول زواجهما.
عندما كنت طفلاً كان والدي في كل اسبوع تقريباً في فصل الصيف، من السبت ظهرا يسافر الى زحلة ب”البوسطة” الى ورشة الخواجا شمعون وهو من كبار النجارين في زحلة وكل لبنان، وكان هذا يُحَّضِّرْ الشغل لوالدي الذي يجب عليه حفره في ورشته بزحلة في يومي السبت والاحد، حيث كان والدي وجدي يعطلان
اسبوعيا من السبت ظهراً الى صباح الاثنين ككل الفعاليات الحرفية المسيحية الدمشقية، كما الحال في لبنان، حيث كان يعطل ايضاً في الوقت ذاته، الخواجا شمعون في زحلة، لكن كان والدي الآتي من الشام يعمل فيها مستغلاً عطلته الاسبوعية، ويكون الخواجا شمعون الشغل وبعض الطعام في هذين اليومين حيث كان والدي رحمه الله يعمل بشكل متصل، وبدون نوم أواستراحة منذ وصوله بعد ظهر السبت الى صباح الاثنين “ليلحِّق
الشغل ويعود الى دمشق صباح الاثنين” حيث يفتح الخواجا شمعون ورشته في اول الاسبوع ليستلم منه الشغل، وكان يشيد بوالدي المعلم جورج، ويكيل له المديح ويعطيه اجرة الشغل “ويحاول القرمطة عليه” مع الاستكثار بخيره “ويسلموا ايديك الحلوين يامعلم جورج” ووالدي كان خجولاً فيقبل صاغراً، ليعود الى دمشق مباشرة الى الدكان، ويلتقي بجدي ويعطيه العائد الذي جناه كله كونه ابناً مرضياً، وكأنه شغيل عند جدي، (مع التأكيد على ان عقد الايجار كان باسمه ، ويقوم هو بكل العمل، وجدي يذهب للتسلية في الدكان) وتبدأ المشادة مع جدي، لأنه تسامح مع “الشمعون”، ومع ان جدي كان طيباً ككل آل زيتون، (ولكنه كان عصبي المزاج انفعالياً، متسرعاً وقاسياً في غضبه، وقد ورث هذه الطباع عن والده، وهو يشبهه حتى في خلقته وطوله وسمرة وجهه، بعكس جدتي اسما الرايقة والهادئة وطويلة البال، وكانت ممشوقة القامة جميلة جداً، بيضاء البشرة على غرار آل الطحان اي “طحانية” ووالدي كان مثلها خلقاً وخلقة)، وبعد المشادة والمسبات من جدي “للشمعون” وابي ساكت، يهدأ جدي ويروق، ويعطي والدي اجرته عن عمله كأنه شغيل عنده، مع اجرة الطريق ذهاباً واياباً كأنه المعلم!!! كان والدي بعد تعب ثلاثة ايام وبدون نوم، على وعيي، يرتاح بعد الغداء يوم الاثنين فقط نصف ساعة ليعود الى الدكان ويكون على رأس عمله في الثانية ظهراً.
وكان يُحضر لنا معه من لبنان (وكنا ثلاثة اولاد عنده) علبة (بسكويت 555 انتاج غندور لبنان) كانت امي تعطيني بسكوتة منها صباحاً عند ذهابي الى المدرسة مع السندويشة، وواحدة لكل من شقيقيّ الأصغرين عبود ومروان في البيت لأنهما دون سن المدرسة.
عائلة ابي (عائلتنا)
تزوج والدي بوالدتي روزيت اواكيميان ابنة خالته وداد طحان،
وابيها كان القائد العسكري والفدائي الارمني(6) ديكران اواكيميان،(وبالأساس هو ابن عائلة ثرية جداً ووجيهة في منطقة فان الارمنية في هضبة ارمينيا، وكان يتقن سبع لغات قراءة وكتابة هي الارمنية والتركية والعربية والفرنسية
والانكليزية والروسية واليونانية وبعض الايطالية، كان لاجئاً ارمنياً من منطقة فان في آسية الصغرى)، ناجياً من الاعدام، وكان قد احترف الجندية ضابطاً في الجيش التركي، في عهد الاتحاديين الذين بداية افسحوا المجال لكل العناصر غير التركية بعد تطبيق الدستور 1908 بدخول الجيش، وعندما بدأت الحرب العالمية الاولى وتم تشديد الخناق على الارمن الا من يعلن الولاء لتركيا الفتاة، وقد اعلن ولاءه ظاهرياً للقيادة الاتحادية التركية، بينما هوفي الواقع كان قد نظم خلايا فدائية سرية، كانت تقوم بضرب مؤخرات الجيش التركي وخاصة على الحدود الشمالية مع روسيا، وكانت خليته مؤلفة من 19 خلية اصغر يرأس كلا منها قائد، كلهم، دون ان يعرف احد منهم الآخر، فقط هو رئيسهم ويعرفهم جميعاً، (لذا صعب جدا القاء القبض عليهم جميعاً الا من قبل المخابرات الألمانية الحليفة لتركيا) وكان جدي واتباعه يقومون بتهريب السلاح من مستودعات الجيش التركي الى نساء الارمن لقتال الاتراك، بعد ان اباد هؤلاء رجالهن، وعندما اكتشف الاتراك بمعونة الاستخبارات الحربية الألمانية امر الخلية الفدائية السرية، والقي القبض عليهم بعد طول زمان،وقد تم اعدامهم جميعاً وكان عددهم 19 ضابطاً، وكان الأخير او ال20 هو جدي وهوقائدهم
ويومها وكما اوردت في مقالي عنه بموقعي هنا وهو بعنوان:” افتخر بك ياجدي الارمني” استطاع النجاة قبيل إعدامه باقتحام الجيش الروسي للمعتقل الذي كان على الحدود مع روسيا، وتحرير السجناء وتم تحرير جدي (لذلك كان يقول وحتى وفاته:” الارمن ابي والروس عمي”) وهرب متخفياً الى القدس مع قافلة جمال كواحد من الجمالين، حيث عمل هناك قندلفتاً في كنيسة القيامة بقسمها الارمني، ثم اتى الى دمشق في زمن الملك فيصل 1920، وفتح مشغلاً راقياً للخياطة الرجالية والنسائية فوق محلات بكداش للبوظة في سوق الحميدية وصار خياطاً للطبقة الحاكمة والثرية، وتم النصيب بزواجه من جدتي وداد، وهي شقيقة المرحومة اسما طحان جدتي لأبي بعد معاناة لاتوصف، لاحجام مطرانية الارمن عن تزويج الارمن من ذكور واناث الا بأرمن للحفاظ على وحدة الشعب الارمني المنكل به ومنه اتت الكنية (يان)، ولم توافق المطرانية على زواج ديكران ووداد الا بعد ان اثبت ان ام وداد وهي من آل الخيمي الحلبية واصولها من ماردين ومن طائفة الارمن الكاثوليك.
رزقه الله بأربعة اولاد ذكرين وانثيين، هم خالي فريج، وخالتي اراكسي وهي الكبرى، وامي روزيت الثالثة
في الترتيب، وخالي الاصغر غيفونت، الذي توفي بحادث مأساوي وهو طفل بعمر 5 سنوات، بعد وفاة جدي شاباً بتأثير حادثة دهس سيارة في ساحة البرج ببيروت، وكان يبحث عن عمل هناك بعدما اغلق ورشته بدمشق نتيجة مؤامرة من مبغضيه، وكان كل اولاده صغاراً، الكبيرة اراكسي بعمر 8 سنوات وامي بعمر 3 سنوات وغيفونت الصغير كان رضيعاً، لتبدأ رحلة عذاب لهذه العائلة بعد وفاة جدي ديكران، وكانت امي حينما تزوجها والدي بعمر دون 14 سنة وهي من اجمل بنات العائلة، وقد احبها والدي بشغف، وكانت جميلة جداً فقد خطبت خطبتين لجمالها بالرغم من صغر سنها، وقد اختارت والدي، وكان عمي نقولا قبلاً قد تزوج بشقيقتها الكبرى اراكسي، وسكنا في بيت جدي فارس.
بوفاة جدي ديكران انتهى حلمه بتأسيس جيش ارمني لتحرير ارمينيا، وكان يحلم بتأسيس كلية حربية ارمنية في سورية أولبنان في اربعينيات القرن 20 وهو من ساهم مع غيره بتأسيس الكوماندوز الارمني السري الذي بقي يناضل حتى تسعينيات القرن 20، لذلك اسمى بكره فريج ويعني الثأر، وخالي غيفونت احد اهم ملوك الارمن، وخالتي اراكسي وهو اسم نهر اراكس في هضبة ارمينيا، وامي روزيت على اسم امه اليونانية الاصل.
تم اكليل والديّ في بيت العائلة في 7 تشرين الأول 1951 وكان اشبينه عمي جوزيف،
والاشبينة كانت عمتي جوزفين، وبارك الاكليل الأب ايوب سميا راعي الرعية وكبير العائلة. واذكر قوله لي دوماً ” والله لك ابي يوم اللي تجوزت مافي بجيبتي الا مائة ليرة سورية”
وقد سكن والدي ووالدتي في بيت العائلة بغرفة على السطح بناها لأجل سكنه.
رزقه الله بأولاده الصبيان الثلاثة في غرفتنا ببيت جدي: انا في 23 حزيران 1952، وقد تمت عمادتي في البيت من قبل الأب ايوب سميا في 16 آب1952 وكان الاشبين هو عمي جوزيف، والاشبينة هي عمتي الكبرى ماري زوجة جوزيف عجمي، وكانت في زيارتها الاولى الى دمشق، وقد كانت ولادتي حصلت ليلة وصولهم من اميركا وطلبت من اهلي ان تتبناني حيث ان الله رزقها بابنة ولن ترزق بغيرها وفققول الاطباء، طبعاً والدايَّ رفضا بالحاح، وتوسلته عمتي كثيراً فحسم الامر بقوله لها: وبركي انا لك اختي الله ماطعمني غيره…” فأجابته:” انك وروزيت لسه صغار فلا شك ان اللله سيرزقكم غيره بينما انا صرت كبيرة، لن ارزق باولاد بعد “بري جين” التي حبلت بها بعلاج طويل”، وكانت بري جين وقتها قد صار عمرها 5 سنوات والاطباء اكدوا لعمتي انها لن ترزق بغيرها بسبب كبر سن عمتي.
حين مولدي وعلى قول امي رحمها الله :”انني ارعبتها وارعبت الجميع بوجود برقع على وجهي”، لكن الداية
نور كساب طمأنتها وطمأنت الكل بأن ذلك فأل حسن ودليل سعد في حياتي وعمري طويل، وكان البرقع وهو غلالة جلدية رقيقة، مربوطة بالأذنتين كأنها زر وعروة، وقام والدي رحمه الله بوضع البرقع في حجاب قماشي بعد تجفيفه في الشمس وبتمليحه وفق ماأشار عليه اهل الخبرة، ومباركته بالصلاة عليه ونضحه بالماء المقدس، وبقي يضعه بدبوس شكالة على قميصه الداخلي الى حين وفاته رحمه الله، واعطتني امي رحمها الله هذا الحجاب بعد وفاته وهو معي الآن. ثم ولد شقيقي عبد الله (عبود) في بيت العائلة في 10 آذار 1956 وتم عماده بيد الأب ايوب في آب في العام ذاته في ارض دار البيت. وكان عمي جوزيف ايضاً هو اشبينه واشبينته كانت عمتي جوزفين، وفي 9آذار 1959 ولد شقيقي الشهيد مروان واعتمد في البيت في 1تشرين الثاني 1959
مع اكليل عمتي جانيت، والأب ايوب هو من عمد شقيقيَّ عبد الله ومروان في بيت العائلة وكلل عمتي جانيت.
وكانت تترافق كل هذه الفعاليات الروحية الفرحة بموائد عامرة مع الغناء، فالعائلة فنية تحب الموسيقى والطرب وسهراتها العائلية مشهورة عند الجيران، حيث كان جدي وعمي حنين يعزفان على العود ووالدي مشهور بالعزف على الطبلة وتميز جدي وعمي نقولا ووالدي رحمهم الله بالصوت الجميل الرخيم وحبهم الشديد لمحمد عبد الوهاب وام كلثوم…
اول من خرج من بيت العائلة كان عمي نقولا وعائلته بعدما اقتنى بيتاً، وهو قبو في شارع بورتو اليكرة ببرج الروس، عام 1959 تبعه والدي بعد ثلاث سنوات اي في عام 1962، فاقتني بيتاً في اول شارع بغداد مقابل اسعاف مستشفى الافرنسي حاليا بجوار بقالية سامي، وكان قبواً عميقاً رطباً جمع ثمنه بعد كل هذا النضال المرير لتوفير بيت صغير مستقل له ولعائلته، وكنت انا في الصف الرابع بمدرسة القديس يوحنا الدمشقي الخاصة،
وشقيقي عبود في الصف التحضيري فيها، بينما كان الشهيد مروان لايزال طفلاً في البيت عند امي، ولا ننسى التدبير المثالي لأمي في تربيتنا، فكانت تخيط ثيابنا بيديها وتقوم بتدويرثيابنا من الكبير الى الأصغر، وتخيط ثيابها بيدها وبقيت تخيط بعض ثيابها حتى آخر لحظة من عمرها، وكانت “انيقة الابرة” كما يقولون، وسيدة الترتيب في ثيابنا وثيابها، وكانت مدبرة ولم تكن متطلبة على والدي، (كالكثير من النسوة)، بينما هي كانت تعمل مع زوجها وفق المثل الشعبي:
“الرجال جنَّا والمرا بنَّا” اي ان الرجل هو من يوفر المال، والزوجة الصالحة هي التي تبني البيت بتدبيرها. علماً ان والدي رحمه الله، سواء كان مسؤولاً عن مصروف بيت العائلة عندما كنا ببيت جدي، اوعائلته الشخصية بعد خروجنا الى بيتنا الجديد، لم يقصر ابداً علينا نحن اولاده وضمن امكانياته المتواضعة، بل كان خيّراً في كل امر متاح، وقد ربانا ولم نشتهِ شيئاً فكل شيء يمكن ان نشتهيه كان يوفره لنا ولو بالحد الضيق فالتفاحة تقسم بين اثنين مثلاً طبعاً هو وامي لم يكونا يأكلان. حتى الذهاب احياناً الى السينما كان يتم تقريباً في كل شهر مرة مساء يوم احد، وهي الفسحة الوحيدة للعائلات المستورة، وكان يأخذنا الى معرض دمشق الدولي للفرجة والنزهة اكيد طبعاً بدون حضور مسرحياته. في هذا البيت رأت شقيقتي سمر النور في 18 تشرين الثاتي عام 1964 وشقيقتي رويدة في26 تشرين الثاني 1966.وجرى عماد كلاً منهما في هذا البيت بعد اربعين يوما على ولادتهما على يد كاهن الرعية الأب ايوب سميا الذي كان يزورنا في بيتنا الجديد باستمرار.
تابع والدي العمل في الدكان بمفرده، وفي منتصف السبعينات كما اسلفت دعا عمي نقولا ليعمل معه فيها بدلاً من العمل “مصانعة” عند الغير، حيث قال له:” لك اخي تعا نشتغل سوا في الدكان واللقمة منقسمها سوا” وافق عمي على العمل في الدكان انما، كل في شغله الخاص، شاكراً لوالدي والسبب برأيه كان ان لكل منهما طريقة عمله الخاصة به، وله زبائنه الخاصين، لذلك عمل كل منهما بعمله الشخصي وحتى وفاة عمي رحمه الله منتصف التسعينات.
وفاته
وعاد والدي للوحدة في عمله وفي دكانه حوالي عشر سنوات الى حين تردي وضعه القلبي فجأة، ودخل بسببها المستشفى الافرنسي حيث بقي فيه لمدة اسبوع أمضى نصفه في العناية المشددة، ونصفه الثاني في غرفة، وقد توفاه الله باحتشاء قلبي صاعق في 6 شباط1995 وكنا وكل العائلةعنده جميعاً وكأنه اراد ان يكون كل آل زيتون عنده فأيده القدر والتففنا حوله وأمام طبيبه، وارتقى الى العلا ولم تنفع كل المحاولات .
وهكذا انطفأت شمعة نيرة من شموع المحبة والخير والاحسان والتواضع، وطويت صفحة فنان قل نظيره لفن دمشقي أعطاه بصماته وروحه وقلبه وملأ معابد دمشق من كنائس لكل الطوائف ابرزها كنيسة الصليب والكاتدرائية المريمية وكنيسة حرستا ودير سيدة صيدنايا وكنيسة القديس كيرلس. اضافة الى جوامع تاريخية وكنيس يهودي تاريخي اعاد بعث منابرها التاريخية بازميله المبدع وفكره النير.
وكانت جنازته حافلة جداً في كنيسة الصليب المقدس غصت بها الكنيسة داخلاً ومحيطاً وشاركت فيها فرقة مراسم الصليب المقدس الكشفية كاملة واضفت بموسيقاها الضاربة جواً من المهابة، وكانت جنازة حافلة عكست محبة الناس له وبحضور اكليريكي متميزحيث تقدم الحضور الوكيل البطريركي المطران الياس كفوري والسادة المطارنة المعاونون البطريركيون ونقل لنا تعازي غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع (وكان خارج البلاد) وافاض بذكر مناقبية والدي:” ومحبته وما قدمه من اعمال وتقدمات، من عمل يديه الفنيتين، ومن ماله الشخصي، تركها للحياة الابدية التي اكيد ينعم بها عند الله، كونها زينت كنيسة الصليب، ومعابد الله وترتفع الصلوات لراحة نفسه عند كل خدمة الهية مع البخور الصاعد للعرش الالهي، وجعلت ذكره مؤبداً”.
اما والدتي الحبيبة روزيت، فقد بقيت حية في البيت الذي كانت بصماتها في كل زاوية منه، كما كان ابي، فهو من زيَّن البيت بابداعات يديه، وهي من رتب فرشه ووجوه التنجيد وبتدبيرها، وعاشت معها شقيقتي الصغرى رويدة، فيما كنا انا واختي سمر واخي عبود كل في بيته بعد زواجهما..
انصرفت بكليتها الى المشاركة في الاعمال الخيرية من خلال اخوية سيدات كنيسة الصليب المقدس، كما كانت قبلاً، مع جمعية مار اليان الحمصي للسيدات.
وكانت رحمها الله يطير عقلها، عندما تزور البيوت الفقيرة مع الاخوية للاطلاع على حالتها من اجل المساعدة، وخاصة في هذه المرحلة الاليمة المتمثلة بالحرب على سورية، وازدياد اعداد المنكوبين باستشهاد وجرح وخطف اولادهم، فهي المجروح قلبها، وقد سبق لها وقدمت شهيداً، بقيت تبكيه حتى لحظة انتقالها اليه…
في مطلع ايلول 2016 تردت صحتها بسرعة فائقة وتم نقلها الى مستشفيين ومالبثت ان انتقلت الى فردوس العرش السماوي في 6 ايلول ويقينا هي فوق في الجنة مع الابرار بسبب ماقامت به من اعمال الاحسان وبصمت لم تعرف بها يسارها مافعلت يمينها وجعلت ذكرها مؤبداً. وبعد ستة اشهر تقريبا توفي شقيقي عبود بأزمة قلبية صاعقة في بيته لم تمهله، قضى مأسوفاً على رجولته بعمر 60 سنة، المسيح قام.
شقيقي الشهيد مروان
ولأن لشقيقي مروان دوراً هاماً في حياة والدي، افردت له هذا الشطر…
كان مروان قد ترك الدراسة بعد نيله الشهادة الاعدادية، وعمل مع والدي في الدكان، وكان بعمر 15 سنة، ولم يرض ان يتابع تعليمه، واصر على تعلم حرفة والدي والتتلمذ عليه، وكان والدي وقتها يقوم بالعمل في مشروع حفر القاعة الدمشقية في القصر الجمهوري (من خلال متعهد)، ووقتها ساعده شقيقي وتعلم المهنة وظهر نبوغه فيها بسرعة اسعدت والدي وعمي، و كان ابي معروفاً بسرعته القصوى في انجاز الشغل وبكل اتقان، وكان بذلك يفرض على المتعهد والنجار ان يمدانه على الدوام بالخشب الخام المجهز للحفر بالسرعة، لذا وبعد حوالي السنة انجز مشروع “القاعة الدمشقية”، وبناء على مسعى من والدي عمل شقيقي مع مؤسسة الاسكان العسكرية في قسم النجارة وحفر الخشب، وكان هذا القسم يعمل في مشروع القاعة الدمشقية في مطار دمشق الدولي برئاسة معلم ماهر صديق لوالدي وعمي، حيث كان القصد من العمل في هذه المؤسسة العسكرية ان يخدم جنديته حين يُدعى اليها، اضافة الى اكتساب مهارات جديدة مغايرة عن خبرات ومهارة ابي، وكان المقرر ان يعود بعد جنديته الى حوزة الوالد ليعملا معاً، ثم يتسلم العمل بعد تقاعد الوالد. لكن حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر، اذ بمجرد انتهاء المشروع تم انهاء العقود المؤقتة مع عمال الورشات، ومنهم مروان الذي عاد للعمل عند ابي، وقد اكتسب من خبراته وخبرات ومهارة عمي نقولا، وخاصة مهارة رسم الطبعات، بالرغم من صغر سنه.
ودعي للالتحاق لخدمة العلم في1/7 / 1078، وكان نصيبه في الجيش ان يكون من سلاح الدبابات وصار سائقاً للدبابة، وتلم ببراعة قيادة الآلات الثقيلة من دبابات ومصفحات وشاحنات ثقيلة وتراكسات ونال شهاد سواقة بها، كان مثالاً للاخلاص والشهامة، لم يبق من احد لم يحبه سواء من قادته أومن رفاقه في السلاح، حتى انه كان في عهدته ثلاث دبابات بعد تسريح اثنين من سائقي الدبابات، وكانت قطعته العسكرية على طريق السويداء.
وبعد قرابة السنة والنصف في جنديته، حصل معه حادث مدمر، عندما وقعت دبابته في مناورة ليلية في هاوية مخفية في طريق اجبارية، وذلك قبل تسعة اشهر من حادثة استشهاده، وقد اصيب بارتجاج في الدماغ ونقصان الرؤية بشكل حاد في عينه اليمنى، وبعد تسعة اشهر على اصابته هذه، وفي مناورة ليلية بحقل رمي الدبابات وبالذخيرة الحية، ليصاب بتلك الحادثة المأساوية التي ارتقى بها شهيداً مأسوفاً عليه عن عمر 21 سنة، فكُسرت قاعدة الجمجمة بواسطة برج الدبابة نتيجة خطأ غير مقصود من قائد الدبابة وقضى في النقطة الطبية التي نقل اليها تمهيداً لنقله الى المستشفى العسكري. وكان ذلك في27 تموز 1981فكانت مأساة عامة وخاصة لدى لكل العائلة وخاصة لدى ابي وعمي، ولدى رفاقه في الكشافة وكان عريف طليعة الصقر في الفوج الثاني الكشفي وقائداً مدرباً للفرقة النحاسية، وتمثل ذلك في فخامة جنازته كشفياً واجتماعياً وعسكرياً فقد شارك فيها كل الفوج بعدما تم ايقاف المخيم الكشفي العام في منطقة طرطوس والعودة الى دمشق للمشاركة في تشييعه، وشارك وقتها في هذه الجنازة آلالاف … وكانت حديث القصاع مدة طويلة.
وشارك فيها كل الاكليروس البطريركي، ورئسها ئلاثة مطارنة باسم غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع الذي مالبث ان زارنا في بيت العائلة في الطابق الرابع (بالرغم من تقدمه في العمر) للصلاة وتقديم العزاء وقد خجلنا من تصرفه الابوي رحمه الله، ومرد كل ذلك اكراماً لي فأنا كنت في خدمة البطريركية بعملي وانا في اعلى مكان في الدولة وهو رئاسة مجلس الوزراء واقدم كل خدمة ممكنة، واكراماً لوالدي ووالدتي وهي عضوة في الجمعيات الخيرية واخويات الكنيسة وسمعة آل زيتون العطرة وحميتها وحضورها الكنسي…
والأكثر ايلاماً انه لم ينل حق الاستشهاد، كما كان قد تمنى “ابو فهد” فارس الدبابة لينال عز الشهادة ويغسل بدم رأسه المكسور فولاذ دبابته، وللذكرى كان سبق له قبل اسبوع من ارتقائه شهيداً، قد قال لأمي وهو باسم الثغرعن توقه للاستشهاد ليحصل على عز الشهادة، وعلمنا من رفاق السلاح انهم كانوا كلما مروا ذهاباً واياباً الى قطعتهم العسكرية من امام مقبرة الشهداء في نجها، كان يقول لهم دوماً القول ذاته والتمني ذاته :” اشتهي ان اقضي شهيداً… لأنال عز الشهادة”، أمه ككل أم اسكتته”سددت له حلقه” بقولها على الفور وبعتب:” بعيد الشرعليك يا امي تقبرني، سد حلقك”… كانت حرقة قلب له ولنا جميعاً، ولي على وجه الخصوص بعدما ركضت في كل الاتجاهات برحلة عذاب طالت لثلاث سنوات، لتحقيق حلمه بتسجيل اسمه مع الشهداء في سجلهم الخالد، وتبخر هذا الحلم الذي كان من الممكن ان يرضيه بتحقيق امنيته ويرطب قلبه وهو في قبره، ووالدي ووالدتي…، لكن بيروقراطية القوانين الناظمة، ذبحت الامنية :” لأن الموت في المناورات الليلية وحقول التدريب يعتبر في الخدمة وسببها”.
القانون بذلك كان صريحاً، وقرارات اللجان العسكرية التي نظرت في استرحامي المتكرر، لم تنص على اعتبارشقيقي شهيداً، وان كان قد استشهد بمناورة ليلية بالدبابات وبالذخيرة الحية وبظروف القتال ذاتها، وحتى أصعب لأنها ليلية، وكانت قبيل الانطلاق لتلبية نداء الواجب في لبنان الشقيق بمواجهة العدو الصهيوني الطامع باجتياح لبنان. ولا انسى ماحييت كلمة امين سجل الشهداء في مكتب شؤون الشهداء وكان مسناً برتبة مساعد اول، وقد قال لي معنفاً لي، ومتألماً على تعبي، وقد مل من مراجعتي له ثلاث سنوات وقد قال لي: ” لك ياعمو حاجة تعذب حالك، مالح يعتبرو شهيد، بس الله سبحانه وتعالى جعله شهيداً، وهو عنده فوق اليوم بالجنة وهو تعالى كتبه شهيداً بيده في سجل شهدائه، ياحبيبي اخوك فوق شهيد وفوق احسن بكثير من قراراتهم لهدول الظالمين.”
ومن وقتها لم أعد أراجع مكتب شؤون الشهداء، ولو شئت الكتابة عن معاناتي في هذه السنوات الثلاث لكتبت سجلاً ممزوجاً بالدموع.
لا زلت أذكرك يا ابي ونحن في اول موكب جنازة وليدك مروان، نسير بعد جثمانه الملفوف بعلم الوطن المفدى والمحمول على سواعد رفاقه شباب القصاع بعراضتهم ومعهم العسكررفاقه في السلاح والكشافة اخوته، وكنت اتأبطك والجميع معنا، وانت تشدنا جميعا، تشدنا كلنا شداً سريعاً وعنيفاً بقوة لم اعهدها بك قبلاً بالرغم من قوة زنودك بنتيجة عملك العضلي، وكأنك تحاول اللحاق بشهيدك، وانا اهدأك ايها الحبيب، وكانت فرقة موسيقى فوجنا الكشفي الارثوذكسي جاورجيوس الضاربة بعددها وعديدها (وهي من تدريبه هو رحمه الله اذ كان مبرزاً في العزف على الترومبيت وبقية الآلات النحاسية)، تعزف اللحن الجنائزي لقائدها، وانت يا ابي تشدنا بقوة وعنف لنسيربسرعة خلف صغيرك او لتسابق نعش وليدك، وانت تبكي وتصرخ كالطفل (وبكاء الرجال اليم جداً وابكيت الجميع): “وين رحت يامروان وتركتني يا ابني، كسرت ضهري يارفيقي الصغير يابنيي” اذ
بالرغم من صمودك وهدوئك المشهودين لك، لم تستطع وقتها المكابرة وكل الحق معك، ايها الاب المكلوم، كبقية آباء الشهداء، كان الله في عونهم، فكنت تصرخ ملتاعاً ودموعك على خديك الطاهرتين، نعم اضفت لوعة وهيبة ابكيت معها الجميع، حيث رقص الشباب رفقته بشكل شبه هستيري مع التصفيق والدموع، وهم يحملون التابوت الابيض المجلل بالعلم الوطني الحبيب ويهتفون وراء كبير العراضة وهو اخص رفيق له يهتف والكل يردد وراءه (يامار جريس دستورك والبطل مروان جاي يزورك، راحت وردة من حارتنا هي الوردة الجورية) مع العزف بالمعزوفات الحزينة والفوج كله يضع الشارات السود. مشهد حزين بقيت القصاع تذكره والآن تكرر مع شهداء الوطن منذ سبع سنوات وحتى الآن.، فجرحك اكبر من ان يندمل ولم يندمل، وبقيت تحمله حتى ودعناك وضممت شقيقي وهو ضمك في المسكن الأخير مدفن العائلة… ولحقت بكما امي الثكلى، ثم مؤخرا شقيقي عبود… حقاً يا ابي اليوم سيرتك فتحت جروحي الغائرة المندملة وابكتني كثيرا وانا اتذكر تلك اللحظات الاليمة واكتبها هنا.
بعض من سيرتي
وانا وبسبب تأثيروالدي رحمه الله في شخصيتي وتكويني وطباعي حتى وماحققته لابد من اتحدث عن نفسي في هذا الشطر، كما كان لأبينا ايوب سميا تأثيراً هائلاً في تحصيلي العلمي، واهتمامي بتاريخ الكرسي الانطاكي عامة، ودمشق المسيحية خاصة…
هذا الاب الجليل ايوب وهو من قب الياس، (7) الذي كان شقيقاً لجدي بالدم على قبر المسيح، كان يزور بيت العائلة باستمرار، ونجلس كلنا متحلقين حوله على الارض ليحدثنا احاديث انجيلية ويستهل جلساته الروحية ( وكان يفعل ذلك مع كل الرعية) بالترتيل بصوته العذب وهو ما حفر في حباً بالترتيل مارسته منذ ذاك الوقت
في كنيسة الصليب وانا صغير مع الشماس ( ثم المرتل) السيد فوزي بشارة. واحيانا تكون بحوزته بعض كتب التاريخ، ومنها كتب ذبائح اليهود لأطفال المسيحيين واستنزافهم من اجل فطير عيد الفصح لديهم، وكنت بعمر صغير لكن ذلك اثر جداً في نفسيتي فأحببت التاريخ وتألمت كثيراً على ماقاسيناه نحن المسيحيون من ضنك عبر تاريخنا ومن الجميع في بلادنا سورية التي كان هو يعشقها واورثني عشقه لها، ولم انس حرفاً من كل كلمة قالها وكنت اسأله باستمرار وكان ابي وامي يسعدان بأسئلتي له فيقول لهم ان زوزو ( اسم الطفولة) يجب ان يصير كاهناً والمستقبل له، وسأرسله حتماً وكان يطلب ان اسمعه مايرتله وكل العائلة كانت ترتل معه ومعي وجميعهم محبون للترتيل، ذات مرة طلبت خالتي زوجة عمي نقولا ان يرسل ابنها طوني (وهو اكبر مني باربعة اشهر فقط) معي الى البلمند للاكليريكية الا انه اعتذر وكان معروفاً بأجوبته الصارمة” لأ فزوزو له مستقبل كهنوتي”، وقد تضايقت خالتي ولكنها لم تبد ذلك بحضوره فهو كبير العائلة ومهابته كجدي اضافة الى مهابته الدينية.
في عام 1962 قرر هذا الكاهن الجليل ان يرسلني الى دير البلمند للانتظام في الاكليريكية، فوافق اهلي على الفور وبسعادة لأنه افهمهم ان البيت الذي فيه كاهن تحل فيه النعمة، وانا بنظره سأكون راعياً وكاهناً ولي مستقبل في الكهنوت لنباهتي وحبي للدين وللتاريخ والعلم وبالمناسبة هو كان يستضيفني مع ابي باستمرار في بيته بالدخلة الضيقة الذي كان اشبه بصومعة الراهب، وكنت استمتع بهذه الزيارات وكنت اسأل ابونا عن الكتب واغلفتها الأثريةن وعن قطع المستحاثات الموجودة لديه والتي كان يلتقطها في رحلاته التنقيبية والاستكشافية في كل مكان بمحيط دمشق والجنوب السوري وجبل الشيخ وهو كان يجيبني بسعادة وانا اتفرج على كتبه وقلت لأبي مرة امامه: “اتوق ان تكون عندي مكتبة مثلها في كبري” وتشاء محاسن الصدف ان اعمل على مكتبته التي نقلت بعد وفاته الى المكتبة البطريركية لما كلفني مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع عام 1987 بتنظيم وفهرسة المكتبة وتكشيف الوثائق البطريركية وكانت سعادتي لاتقد فطار عقلي من الفرح بعدما تذكرت الكثير الكثير من طفولتي مع مكتبة ابونا ايوب.
قرر ابونا ايوب فجأة ان يرسلني الى البلمند في مطلع العام الدراسي القادم وكنت بعمر 10 سنوات قاصداً حصولي في المدرسة البلمندية الابتدائية على شهادة السرتفيكا، ومن ثم اتابع في الاعداديةالاكليريكية والرهبنة، وبعدما حصل على وعد على مايبدو من رئاسة الدير بقبولي استثناء من السن المحددة، وكان قد سبقني اليها ( السيدان دامسكينوس منصور حالياً مطران البرازيل وجوزيف الزحلاوي حالياً مطران نيويورك واميركا الشمالية وهما ابنا خالة وخالتهما الثانية امرأة عمي جوزيف) وقام ابواي رحمهما الله بتجهيز مايلزمني في حياتي الجديدة الداخلية الديرية من البسة وكسوة…
وبعد تأمين كل مالزم من التجهيز، اخبرنا بحزن ان التماسه رُفضَ لصغر سني، لأن الحد الادنى المقبول هو عمر 12 سنة وانا 10 سنوات، وكانت خيبة امل مريرة له ولأهلي ولي.
ادخلني والدي في الفوج الثاني الكشفي جاورجيوس عام 1961 وكنت بعمر 9 سنوات شبلاً واسرتني الحياة الكشفية بثيابها والطلعة الكشفية بالموسيقى الى كنيسة المريمية بالصيام والاعياد وايضاً بكنيسة الصليب وكنت اتمنى ان اتعلم العزف على الطنبور ولكن مع تمادي الزمان صرت من امهر العازفين على الترومبيت ومدرباً ثم قائداً للفرقة الموسيقية عام 1971 وقائداً للفوج عام 1974
انتقلنا الى بيت جديد بعدما كبرنا وصرنا خمسة اولاد ثلاثة صبيان وابنتين وصار يجب ان يكون للصبيان غرفة وللبنات غرفة، هو بيت اهلي الحالي في الطبقة الرابعة وكان ذلك في 1/1/1970 في اول شارع اليبرودي مقابل الباب الجانبي حالياً لكنيسة الصليب، بعدما باع البيت الذي كنا نسكنه، واستدان مابقي عليه من ثمن البيت الجديد، وكان قد استدان وقتها حوالي 20 الف ليرة سورية، وهي تشكل ثروة عليه، سيما وانه استدان بالفائدة الغالية ليشتريه لنا، واتكل على الله بقوله لأمي: ” الوافي الله” وقام بفرشه ومن انتاج يديه ومن شغل النجار خالي فريج اواكيميان وهو من النجارين المتميزين في الشام، فصار البيت عبارة عن قطعة فنية متكاملة واذكر ان احدى قريباتنا من اميركا وهي في زيارة لسورية والعائلة عندما دخلت البيت صرخت بالانكليزية “رائع” فعلاً هو تحفة فنية رائعة من حفر يدي هذا العظيم ابي الحبيب جورج زيتون… وقد طرح الله عز وجل البركة بين يديه واعطاه وابلاً غزيراً من الشغل، واستطاع وفاء الدين بأقل مماكان يتوقع، وانفق على فرش البيت هذا الفرش الغالي والانيق “فهو بيت العمر” وامتنعت امي عن شراء اي شيء لنا من ملبوسات خلال فترة وفاء الدين، لم نكن نحن وحيدون في هذا الأمر التدبيري بل سمة عامة عند امثالنا، وكانت للحياة لذة وطعمة وهي ذكريات من الزمن الجميل.سقى الله
بعد نيلي شهادة الثانوية الصناعية اختصاص حرف الخراطة والتسوية، وكنت ااخترتها لأن وزارة التربية اعطتنا الأمل بأننا سنكون من طلاب المعهد العالي الصناعي اي كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية، ولكن كانت ضربة قاسمة لنا بأن لم يقبل اي خريج منا في المعهد العالي الصناعي، واستبدلونا بخريجي الثانوية العامة، الفرع العلمي، وقاموا بفرزنا على المعاهد المتوسطة وكان فرزي انا على معهد حلب، فلم التحق به اذ يكفي ماعلى والدي من ديون، وتقدمت الى الكلية الجوية كطيار حربي وكانت الاختبارات في الكلية الجوية بحلب ونجحت بكل شيء الا في فحص البصر وكان آخر الفحوص الطبية، ومن وقتها وانا البس النظارات الطبية. وقد انكسر خاطري وعدت محبطاً من حلب، ففرحت امي، لكن ابي تضايق يومها وان بادر للتخفيف علي. وكان ذلك في عام 1970.
تواصلت سراً مع عمتي ماري الثرية في اميركا، لتأخذني الى اميركا بمعرفة امي وتساعدني في الدراسة الجامعية التي كنت اتوق لها وهي (ميكانيك طيران) ورجوت صهري ان يؤمن لي عملاً اعتاش منه وافيه مايصرفه علي لبينما انتج، فوافقوعمتي، ولكنهما اشترطا موافقة خطية من ابي وامي، ولكن والدي لم يوافق بالرغم من توسل امي، وقد حزم بكلمة صريحة: ” انا لا ارسل ابني على نفقة احد حتى ولو كانت اختي، انا مانسيت عمك حنين المعتر شوف وضعه البائس، بالغربة مافي حدا بيقرب حدا، روح لك ابي دور على شي وظيفة بالبكالوريا والله يوفقك.”
يومها زعلت جداً ونقمت على ابي، ولكني نظرت الى خوفه علي وحنانه وايقنت انه السبب اضافة الى عزة نفسه. فانتسبت وقتها الى ادارة المساحة العسكرية، والتحقت فوراً بالجيش في خدمة العلم بسلاح الخدمات الطبية، وفي الفترة مابين 1972 – 1975 بمافيها حرب تشرين التحريرية وجرحت نتيجة اصابة مرتين في جبل الشيخ وفي قلعة جندل وكتب لي الله النجاة. وكنت قد تقدمت لامتحان الشهادة الثانوية الفرع الأدبي ونجحت واخترت كلية الحقوق، وعند تسريحي من الجيش كنت في الصف الأول… وعدت الى عملي في المساحة العسكرية مساحاً ورساماً طبوغرافيا وهكذا كان وفي 1978 تخرجت، وفي 11 شباط 1980تزوجت بالآنسة جانيت بنت جان كويتر في كنيسة الصليب المقدس وكان الاشبينان شقيقي عبود وشقيقتي سمر.
وكانت زوجتي وهي حائزة الاجازة في الآداب / قسم اللغة الفرنسية تعمل مدرسة في مدرسة الرعاية الخاصة،دروس خاصة للطلاب اضافة الى تدريس وبدأنا سوية من الصفرولم نكن نملك شيئاً، واستأجرنا وبمساعدة من ابي غرفتنا الاساس في بيت جدي التي ولدت فيها، وسط ترحيب من جدي وجدتي رحمهما الله وكانا في رعايتنا الى حين وفاتهما جدي 1991 وجدتي 1995.
وكنت تعلمت الترتيل والنوتة الرومية على يد الآباء (المطارنة حالياً) الياس كفوري، دامسكينوس منصور، وجوزيف الزحلاوي.
رتلت في كل كنائس دمشق والريف متطوعاً، وكنت عضواً في جوقة الترتيل التابعة لحركة الشبيبة الارثوذكسية، ثم عينت مرتلاً في كنيسة القديس جاورجيوس شرقي التجارة منذ احداثها حوالي 1992 وانشأت جوقة للكنيسة حيث اعتذرت عن المتابعة عام 2005 لأسباب ترتبط بالعمل.
وكنت قد عينت مرتلاً منذ 1979 للقداس الالهي الأول في كنيسة الصليب المقدس، وقد مرت علي حتى الآن مدة 38 سنة مرتلاً رئيساً فيها، ولا ازال الى الآن في الكنيسة ذاتها بالرغم من معاناتي الصحية نتيجة اجراء عملية القلب المفتوح لي منذ سنة ونيف، ولكني اعتبر ذلك متابعة لرسالتي في خدمة الكنيسة التي كنت بداتها طفلاً متمنياً الكهنوت.
كنت تابعت في التحصيل العلمي العالي: (دبلوم في القانون الدولي العام 1981 ثم الماجستير فالدكتوراه 2000 من جامعة يريفان الحكومية / ارمينيا، وثانية في التاريخ العام 2005 . ومنذ عودتي للعمل في ادارة المساحة العسكرية وانا اعمل بعد الظهر في اي مجال من مجالات العمل، فعملت بداية محاسباً ومديراً لاستوديو تصوير، ثم عملت صائغاً في ورشة شقيقي عبود وشريكه حتى عام1987.
وكنت في عام 1980 قد تقدمت الى مسابقة للجامعيين اجرتها وزارة الخارجية موظفاً دبلوماسية وفقاً للدبلوم الذي احمله في القانون الدولي، ولم أُقبل!!!
ثم وعلى الفور تقدمت الى مسابقة ثانية اجرتها رئاسة مجلس الوزراء فنجحت فيها وانتقلت من وزارة الدفاع/ المساحة العسكرية الى رئاسة مجلس الوزراء بشق النفس، فعينت رئساً للديوان لأشهر ثم انتقلت الى مديرية اخرى اسستها هي مكتب التوثيق والارشفة وكانت الغاية منها جعلها الذاكرة الوطنية للدولة وهذا ما انجزت قسمه الاكبر. عندها قال لي ابي رحمه الله:” شفت لك ابي كيف رضى الاب والام بيوصلوا الابن لبرالامان الله يرضى عليك لها الشي انا ماردتك تترك علمك وتشتغل عندي، وانا بتنبألك انك بدك تصير وزير في يوم من الايام” وكادت تتحقق نبوءته فقد رشحت بعد نيلي براءة الدكتوراة في الحقوق الدولية الى منصب من ثلاثة (معاون وزير او دبلوماسي بسبب الدكتوراه في القانون الدولي، او مدير عام مؤسسة) لولا المكائد والضغينة فاضطررت الى الاستقالة عام 2003 وانتقلت الى التقاعد بعد خدمة نقية لمدة 33 عاماً قمت بها بواجبي
الوطني والمهني منها 33 سنة مسؤولاً عن تعيين المهندسين في دوائر الدولة، وتوليت ملف التنمية الادارية في رئاسة مجلس الوزراء وعضوية المنظمة العربية للتنمية الادارية وهي احدى منظمات جامعة الدول العربية، وكنت قد ارتقيت في وظائف مجلس الوزراء الى رتبة مدير عام، وكنت قد استنفذت الترفيع منذ اربع سنوات لدخولي صغيراً الى الوظيفة العامة، وكنت بالتالي بحاجة الى استثناء ترفيع بمرسوم جمهوري حسب الاصول وبالرغم من ان خروجي من الوظيفة بسن الستين كان يوجب علي البقاء حتى عام 2012 الا اني تقدمت باستقالة مبكرة بسبب ماعانيت من محاولات ايذاء وايقاع من حاسدين، وانصرفت بكليتي للاهتمام بتكشيف الوثائق البطريركية، بعد ان كانت جزئية.
وبتعبي على حالي في الكشفية التي انتسبت اليها طفلاً بعمر 9 سنوات في الفوج الثاني جاورجيوس وهو الفوج الارثوذكسي الدمشقي، وكان من اهم واعرق الوحدات الكشفية واقواها وتأسس عام 1912
وتدرجت في رتبه ومسؤولياته الكشفية وحزت الشهادات والاوسمة الكشفية، واخيراً حزت شهادة قائد تدريب كشفي دولي السنة 2007 وهي اعلى شهادة كشفية عالمية، وحزت عضوية قيادة كشاف سورية ومسؤولاً عن التدريب في مفوضية دمشق، وكنت بعد توقيف الحركة الكشفية السورية وحل الوحدات الكشفية عام 1985 من الذين كانت لهم مساهمات في الحوار مع السلطات المختصة لاعادة الحركة الكشفية الى سورية. واسست فرقة كشفية وفق الاصول عام 1993 في مدارس الآسية بتكليف من رئاسة كشاف سورية المحدثة وقتها، بصفتي مارست التدريس في الآسية (كعمل رديف لمدة 13 سنة من 1988-2001)، ثم اسست وبمساعدة اخوة وابناء قادة فوج كشافة الصليب الشهير (فرقة مراسم الصليب المقدس الكشفية)عام 1993، وتوليت قيادة الفرقتين الى حين استعفائي عام 2007 لفسح المجال للقيادات الشابة حيث انا الآن المؤسس والاب الروحي لفرقة الصليب…
وكان مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع قد شرفني في عام 1987 بتكليفي بتكشيف الوثائق البطريركية ومنحني لقب “امين الوثائق البطريركية” وتوليت المكتبة البطريركية وكانت سعادتي لاتوصف بالعمل على موجودات مكتبة معلمي مثلث الرحمات مؤرخ الشام المسيحية والكاتدرائية المريمية الخوري ايوب سميا من كتب ومخطوطات تاريخية ومخطوطات يده، ومنحني الله شرف اظهار الكثير من اعلامنا الارثوذكسيين، وفي مقدمهم الخوري يوسف مهنا الحداد الذي تم اعلان قداسته من المجمع المقدس عام 1993 بعد ان وضعت مخطوط سيرته، واصلحت الكثير من التاريخ المعروف والمرتبط بدمشق المسيحية وسورية والكرسي الانطاكي، ومن خلال الوثائق البطريركية، وبقيت في هذه المهمة حتى 2007 متواصلاً مع مركز الدراسات والابحاث الانطاكية في جامعة البلمند وعضوا فيه، ثم انتقلت الى جمعية القديس غريغوريوس الارثوذكسية مديراً ادارياً ومديراً للميتم وحتى نهاية ايلول 2015 حيث شرفني غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر الحبيب مجدداً بادارة شؤون المكتبة البطريركية وامانة الوثائق البطريركية ولا ازال الى الآن. وشاركت في العديد من المؤتمرات التوثيقية والتاريخية وفي القانون الكنسي في عدد من الجامعات ( البلمند- دمشق- عمان- القاهرة-
اليرموك- واليسوعية- والكسليك- واللبنانية…) ومؤتمرات وحلقات بحث في الرعاية البديلة للأطفال فاقدي الرعاية الوالدية والحركة الكشفية في سورية بوزاراتها المختصة و بعض الدول العربية وقبرص واليونان وروسيا…
وكنت في عام 1988 قد كُلفت من ادارة مدرسة الآسية بتدريس مواد التاريخ، والفلسفة وعلم النفس والتربية المسيحية للصفوف الثامن والعاشر والحادي عشر وبقيت مدرساً لهذه المواد حتى عام 2001 عندما لم يعد بامكاني الحصول على اذن للتدريس بسبب توليتي منصب مدير عام للعلاقات العامة في رئاسة الوزراء.
ولداي…
رزقنا الله بابني مروان في 11 شباط 1982 وكنا قد نذرنا للعذراء (وكانت زوجتي حبلى به عند استشهاد
مروان) ان نسميه باسم مروان لو رزقنا الله بصبي، فكان يشبهه لله السبح… وهو اليوم متزوج وعنده طفل ومقيم في ارمينيا وحائز الماجستير في الهندسة الالكترونية وكان سافرعلى نفقتي للدراسة هناك في العام 2000. وفي27 تموز عام 1985 رزقنا الله بابننا الثاني جورج فحمل اسم الوالد… ودرس ادارة الاعمال في جامعة دمشق، وهو من الموهوبين في هندسة الصوتيات ويمارسها كمهنة بشكل لامع.
بعض مآثر ابي الفنية
التقدمات الى كنيسة الصليب
عندما اعتلى مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع السدة الانطاكية وكنت موجوداً بشكل دائم بعد الظهر في البطريركية، بسبب توقي لاعتناق الكهنوت، وكان وقتها عام 1979 قد حضر من اليونان الآباء دامسكينوس منصور( مطران البرازيل حالياً) وجوزيف الزحلاوي ( مطران اميركا الشمالية حالياً) وجورج ابو زخم ( مطران حمص حالياً) واقاموا في البطريركية، وبحكم قرابتي مع الاولين وصداقتي المزمنة معهما ومع الأخير اي المطران جورج، كانوا يزوروننا باستمرار في بيت العائلة ثم بعد زواجي في بيتي، وذات مرة احضر الاب دامسكينوس كاتالوغاً بمفروشات كنسية محفورة تعتمده كنائس اليونان، ولكنه يتم هناك بالآلة وأهداه للوالد، ليستفيد منه في النهضة المعد لها في دمشق بعهد البطريرك اغناطيوس الرابع، وربما يتم تزويد كنائس بها، هنا تدخلت انا واقترحت على الوالد ان يضع في كنيسة الصليب ابواباً ملوكية ثلاثة من حفر يديه كما فعلوا مع جدي عندما كانوا صغاراً بحفر العرشين البطريركي والاسقفي لصالح النجارالشهير الباوندي،
وبذا يُخَّلد مع عمي نقولا ذكرهما وتعب يديهما فوافقني على الفور، وانتقى الابواب المطلوبة من الكاتالوغ ورسم طبعاتها واتفق مع النجار، ولكنه طلب مني ان يقوم غبطته بتزويدنا بكتاب موجه الى مؤسسة عمران باسم البطريركية لنشتري الخشب المطلوب بسعر مخفض، لكن غبطته اعتذرلعدم اقتناعه بفكرة وضع ابواب ملوكية،الامر الذي دفع الوالد الى شراء الخشب بالسعر الحر الفاحش وحفر الابواب وبناء على طلبي (وكان متمنعاً عن حفر وجهة التقدمة) وحفر اللعبارة التالية:” اذكر يارب عبديك نقولا وجورج زيتون وعائلتيهما”
وعندما تم تركيبهما وفي اول قداس الهي كان برئاسة غبطته ابدى شديد اعجابه بهذه التحفة الفنية، وشكر الوالد من كل قلبه وبارك العمل ومن قام به.
بعد فترة ليست طويلة استشهد شقيقي مروان فاندفع الوالد لتقديم قطعاً ومفروشات كنسية لراحة نفسه بتقدمات منه وامي ومني، ومن شقيقي عبود…وتابع بتقديم تقدمات من عمل يديه لراحة نفس والده ولصحة والدته…وهي موجودة وتشهد لهذا المحسن الفنان.
وبدأ المحسنون في كنيسة الصليب والكاتدرائية المريمية، ودير سيدة صيدنايا البطريركي، وكنيسة كيرلس حيث عمل لصالحهم تقدمات من حفره الرفيع والمميز حاملات ايقونات وحاملات شموع على طاولة الوكالة، ولوحة الصلاة الربانية و…وحتى كنيسة حرستا يقصدونه ويقومون بتكليفه لانتاج مثيلاتها…وكان الكثيرون يندهشون من انه لايرضى بحفر “شغل جورج زيتون” وكانوا يرجونه تنزيل ذلك وكانوا يفتخرون ان تقدمتهم من حفر المعلم الفنان جورج زيتون… كما كانوا يندهشون من انه لم يكن يطلب اسعاراً تتناسب مع فنه الرفيع، ودوما كانت كلمته:” انا اعمل لبيوت الله والمركب الذي ليس فيه شيء لله يغرق”.
الكل كان يشيد بوالدي واخلاقيته ومناقبيته ويدعو له بطول العمر والتعويض، وكانت كلمته الحلوة عندما يقبض اجرة عمله يوجهها للزبون:
“معوضين عليك، ان شاء الله كل قرش بألف”…
ما اورده ادناه هو من فم والدي رحمه الله عن بعض مماحصل معه اثناء عمله وخاصة في العقدين الأخيرين من عمره وتحديداً بعد استشهاد اخي مروان، ووفاة عمي نقولا، حيث بقي الوالد بمفرده في دكانه…
كنيس يهودي دمشقي
يوماً جاءه وفد من مجلس ملي لليهود، وطلبوا منه ان يرمم أحد كنسهم في حارة اليهود بدمشق القديمة، حيث يوجد منبرمقدس منقوش ومصدف ( تنزيل صدف) في الكنيس، وهذا المنبرالخشبي منقوش بدقة فائقة ومنذ قرون، بحيث ان سوس الخشب اتى على النقش تماماً او كاد، وقال له كبير الوفد ان كل النجارين والحفارين دلونا عليك يامعلم جورج، وليس من غيرك يقدرعلى شغله، ونحن اليهود لم يبق عندنا من يعمل به، ونرجوك ان تذهب معنا وتطلع على المنبر، وتعطينا من خبراتك، فإن كان ترميمه مستحيلاً، فيمكن ان تنقش للمعبد غيره على خشب جديد، ونحن كلنا ثقة بمهارتك.
وقال لي هذا رحمه الله وكان عائداً لتوه من الكنيس، وكان قد أجابهم بأنه نقش وليس حفر، ولم يسبق له ان اشتغل بهذه الحرفة الفنية المختلفة عن الحفر ويحتاج الى ازاميل خاصة، وليس عنده هذه الازاميل، فكان جوابهم له بالثقة المطلقة بمعلميته وانه يختلف بكليته عن الشغيلة البازاريين الحاليين ( الشعبيين المتسلقين على المهنة).
وجواباً عن استيضاحي له اجابني رحمه الله ان النقش وتنزيل النحاس وتطعيمه بالفضة… كانت خاصة فقط في دمشق ببنات اليهود الدمشقيات، ويتم العمل به على القاعد كالصدافين والموزايكية ولايحتاج الى جهد عضلي، بينما الحفريتم الشغل به على الواقف ويحتاج بعض الاحيان الى قوة بدنية وجهد عضلي، عدا عن اختلاف الادوات واساساً الازاميل، فأزاميل النقش صغيرة ناعمة… بينما ازاميل الحفر كبيرة مهما صغرت.
وكان قد استمهلهم ليجري دراسة للعمل، فوافقوا مع الرجاء بأن يقبل:” انت تعمل ياخواجا جورج لدار عبادة لله”.
في البيت مساء قام برسم الطبعات وتجهيزها، وزار في اليوم التالي مجدداً الكنيس وطبق الطبعات على المنبر واجرى التعديلات، واعلم مندوب المجلس الملي موافقته على العمل وانه سيرمم المنبر ترميماً بدون تصنيع غيره… وهو من ينتقي النجار الذي يثق بقدراته ففرح المندوب كثيراً.
وهكذا كان، انا كنت اول من شاهد النتائج تباعاً والحق يقال “انه شيْ بيطير العقل” لقد احيا العظام الرميمة…هذا عندي وانا اعرف قدرات ابي، لقد طوع ازاميل الحفر الكبيرة لتكون ادوات نقش فنية ناعمة كان عمله قمة في الابداع، فما بالكم بردة فعل اصحاب الشأن.؟ كانت سعادتهم لاتوصف…
جامع تراثي في باب الصغير
صباح احد الايام وتقريبا في عام 1992 جاءه رجل مسن وبرفقته شابين، سلم عليه بحرارة، وذكَّرَّه انه نجار عربي سبق لوالدي ومنذ زمان بعيد ان حفر له بعض المفروشات العربية وقد تذكره الوالد. وأضاف ان الشابين مهندسا عمارة من وزارة الاوقاف يقومان بالاشراف على منابر المساجد التراثية ويهتمان بترميم خشبيات المساجد وخاصة منها القديمة، وقد جاءاه راجينه تصليح منبر جامع تاريخي في منطقة الباب الصغير وكان هذا النجار يعمل في دكانه في منطقة الباب الصغير، قال النجار المسن لوالدي: عندما عرضا علي المشروع وشاهدته، على الفورتذكرتك يامعلم جورج وقلت لهما ليس من حفار في الشام كلها يقدر ان يقوم بهذا العمل الا حفار من اخوتنا المسيحيين دكانه في القيمرية اعرفه كان ابوه المسن يعمل معه، وهو اعظم معلم، لكن لي زمان كبير لم اعرف عنه شيئاً، ان شاء الله انه باق في عمله، ولا يزال حي يرزق. قوموا لنروح على الدكان تبعو بركي حظنا منيح، ومابتصدق يامعلم جورج قديشني فرحان انك لاتزال عم تشتغل بالحفر حرام اللي متلك يوقف الشغل والله يطولنا بعمرك… انت كنز للفن الشامي”.
خجل والدي كعادته كثيراً، حيث لم يعتد على الاطراءات، وبعد رد الشكر للمعلم النجار، استمع لشرح المهندسين الشابين على صورة ضوئية للمنبر الذي يحتاج الى اعادة شغل من جديد، وكما مع جماعة الكنيس، قالوا له: “ان مابيمشي الحال بتعملنا واحد غيره وهي النجار الحجي ابو احمد وانتوا شاغلين مع بعض، وهو اشاد فيك وبحفرك وفنك”، الحجي عقب على كلامهما بكلمة واحدة:” المعلم جورج هو المعلم، ونحنا كلنا شغيلة عنده بكرا بتشوفوا الشغل” واضافا بقولهما لأبي : “لاتسأل عن الاجرة نحنا جاهزين للرقم المطلوب، المطلوب فقط انك توافق وتقدم لنا طبعات لنقدمها لادارتنا لنحصل على الموافقة، وحط السعر اللي بتريده” اجابهما رحمه الله:
“ان شاء الله خير وبالنتيجة انا عم اشتغل لبيت الله ومو كتير مهم المال.”
اغلق الوالد باب الدكان وذهب معهم الى الجامع ومعه مجرد ورقة وقلم رصاص، هناك رسم طبعة كروكي للمنبر اللأمر الذي ادهش المهندسين فقالا له:” انهما مختصان بالرسم الهندسي بصفتهما مهندسا عمارة، ولكنهما ابداً لايرتقيان الى مقدرته في رسم كروكي بكل هذا الوضوح وبكل هذه السرعة…!” وشكرا ابو احمد الذي عرفهما على هذا “المعلم الجوهرة”.
اتفقا على البدء ولكن الوالد طلب منهما ان ياتيا في الغد لينظرا الطبعات، ليكون كل شيء بمعرفتهما وموافقتهما
وذلك قبل البدء بالعمل.
يومها احضر ابي الكرتون كالعادة ورسم الطبعات وفرغها في البيت، وكان هذا ايضاً كمنبر الكنيس، لم يكن مجرد حفر بل ايضا نقش من النقوش الايوبية والمملوكية النادرة.
في اليوم التالي جاءاه واطلعا على الطبعات فأذهلتهما دقته، وكان معهما النجار ابو احمد الذي اندهش بدوره، ولم يجرؤ اي منهم على إجراء اي تعديل بل سلما الأمر برمته الى معلمية ” المعلم جورج” ولكنهما سألاه عن الاجرة فقال الوالد بأننا لن نختلف، واترك الامر لأبي احمد هو يحدد كونه النجار، لكن الأخير اعتذرعن تحديد اي سعرفأعطاهما سعراً تقريبياً لحفره، وانقص منها مبلغاً كبيراً لكونه خاص بجامع اي لبيت الله، شكراه ووعداه بالرد في الغد…
وهذا ماتم بموافقة وسرور…
عند انجاز العمل على التتابع، وكنت احياناً ارى العمل، وفعلاً كان الانجاز اكثر من رائع وكان رحمه الله يريني ماينتج وابتسامته تملأ وجهه الجميل، حاولت تقبيل يديه اللتين ابدعت النقش النادر بازاميل الحفر لكنه سحبهما وقبلني بقوله الله يرضى عليك…
عند انجاز كل العمل ذهبت معه الى الجامع، ومعنا النجار والمهندسان فقام بتتبيع العمل(8) وانجزه في موقعه، ووُدعونا على ان يتم السداد بيد النجار، وبكل اسف طالت المدة لأشهر كالعادة، لبينما استلمت لجنة الاستلام العمل ورفعت الموافقة والاستحسان، ثم جاء المهندسان والنجار ومحاسب الوزارة ولجنة الاستلام معاً الى دكان الوالد، وشكره الجميع وقال رئيس اللجنة:” يامعلم جورج كل هذا الابداع تم في هذا المشغل الصغير”، فأجابه النجار:” مو الضرب عالمشغل الضرب عالمعلمية والمعلم جورج مافي اخوه بالشام كلها”، فوافقه
الجميع، وعادوا لنغمة “المكارمة” والنجار كان خلسة يرفع حاجبيه للوالد كي لايرضى، سيما وانه كان قد اخبره ان اي قرش يتم تنزيله يذهب الى جيوب لجنة الاستلام كتعويض. فاعتذر الوالد وحاولوا معه بقولهم ان العمل هو لبيت الله فلفتهم الى انه هو من قال ذلك منذ اللقاء الأول، “ولأجل ذلك انزل المبلغ المرقوم من اجره مايوازي اجرة شغل عشرة ايام.” فاضطروا ان يدفعوا له مطلوبه، وهم متضايقون، لأنهم كانوا يمنون النفس بالتعويض.
وصارمنبر هذا الجامع مرجعاً لكل مهندسي وزارات الاوقاف والسياحة والثقافة وعمل الوالد على غراره ثلاثة منابر على ما اذكر، وفي كل مرة كان يقول “التوبةهي آخر مرة باشتغل فيها للجماعة قد مابيتأخروا ليدفعوا ومحاولات القرمطة المستمرة ككل لجان الفساد والرشوة…”
لقائه بالسائح الافرنسي
ضُحى احد الايام لم يجد والدي الا رجلاً متقدماً في العمر، يسلم عليه بالفرنسية “بون جور” فرد عليه الوالد بمثلها، كان خلالها هذا الشخص قد اعتلى برطاش الدكان ووقف في مكان ضيق،وكان سائحاً افرنسياً لفته منظر الدكان البائس وهذا الرجل الكهل العامل فيها واراد الاطلاع على مايعمل.
وبعد السؤال عن الصحة وعن العمل واجابه الوالد بما يعرفه من الرد باللغة الافرنسية التي اكتسبها منذ صغره في مدرسة الراهبات.
سكت السائح الذي كان بعمر الوالد تقريباً وبقي يتفرج على العمل وكان الوالد يشرب الشاي فقدم له كوباً استمتع بها السائح لأنها كانت خميرعلى الطريقة الشامية…
بقي يتفرج على الوالد بسكون وصمت حوالي الساعة، كان خلالها قد قدم له ايضاً كاسة من “الليمون الجامد” اللذيذة من محل ابو فاروق المجاور وقد استمتع بها السائح أكثر…
سأله السائح بعد كل هذا الصمت عن العمل، وكم له من الزمان فيه، وكم واحد يعمل معه بها…
وكان الوالد يجيب على كل الاسئلة بكل الشفافية، وعندما اجابه:” كنا اربعة نعمل بها ابي مؤسس العمل وشقيقي الأكبر نقولا، وابني الاصغر وجميعهم انتقلوا الى رحمة الله ولم يبق غيري…” وجواباً عن وضعه صحياً ان كان يعاني، اجابه الوالد بأنه مصاب بالقلب وربما بعد فترة يتوقف عن العمل فما كان من السائح الا ان امسك بكلتا يديه بيدي والدي بعنف ومحبة، وانكب عليهما مقبلاً بكل نهم واحترام وقال له بالفرنسية ماتعريبه:”حرام ان تموت هاتان اليدان” فما كان من ابي رحمة الله عليه الا ان سحب يديه بكل خجل وكما نقول في تعبيرنا الدارج “عبط” السائح وصاريقبله في وجهه ورأسه وهو يقول: “استغفر الله استغفر الله…له …له”
ودعه السائح بكل احترام شاكراً اياه على حسن الضيافة، يومها روى لي الوالد ماجرى معه بقوله لي:” لك ابي هالسايح طيرلي عقلي بتواضعو واحترامو…”
اجبته بأنك انت المحترم يا ابي الله يطول عمرك وبعد هذه الحادثة بسنتين تقريباً انتقل الى رحمته تعالى…
خصاله
كان رحمه الله ربع القامة، جميل الوجه ابيض البشرة يشابه والدته، مفتول العضلات بحكم العمل.
اتصف بالتواضع والخجل والهدوء وطول البال والبعد عن المشاكل والمشاجرات، وكان يتصف بصفة حميدة وهي القاء التحية تقريباً على كل من ينظر اليه…
واحياناً يفاجئني ذلك خاصة ان عرفت انه لايعرفه، وطالما نظر ذاك في وجهه فلم لايسلم عليه؟
كما اسلفت فان طباعه الهادئة المسالمة جعلته محبوباً من الجميع.الجميع من معاصريه الذين هم من عمره من النجارين واستمرت حرفتهم عبر اولادهم كانوا ولازال اولادهم يحلفون بذكراه باجماعهم” رحمات الله عليك يا ابو يوسف على اخلاقك في التعامل مع الناس، وعلى فنك والله يرحم ايديك” واحدهم وهو صغير اليوماسمه مرزوق ششم ابن ابيه النجار المعروف جار الوالد في دخلة فرن الشاويش جرجي الششم قال لي معقباً على نشري قبل فترة لصورة عن عطائه الكنسي المحفورفي كنيسة الصليب: “انا مابنسى عرش المطران الضخم اللي عملناه لكنيسة حرستا وهو حفرو بايديه، شي بيطير العقل” وعندي شهادة من المعلم النجارالشهير السيد قيصر ديراني بحقه، وكم ترحم فيها عليه عندما أُسندت اليه مهمة تصنيع مقاعد جديدة في كنيسة الصليب
المقدس(وهي الحالية) وتحتاج الى حفر صلبان على الجوانب مع دق الارضية رمل قال:” وينك يا معلم جورج زيتون الله يرحم دياتك هذه تحتاج الى فنه وحفر ايديه” ثم كررها امامي مؤخراً وقد ملأني فخراً، فوق ماانا عليه نحو ابي ابو يوسف الحبيب.
تمتع المعلم والحرفي الفنان جورج ابو يوسف بايمان مسيحي عميق وهادىء، مع الممارسة الدائمة للصلاة في الكنيسة، وكان يتمنى ان يكون كاهناً منذ نعومة اظفاره، ولكنه عوضها بطفولته وصبوته بالخدمة في الكنيسة، ثم بالترتيل في كنيسة الصليب وقبلها في كنيسة القديس انطونيوس في الحارة الضيقة بشارع مارسيل كرامة، وكان قد حباه الله بصوت رخيم ولا اروع. وكم كان يرتل بصوته العذب، او يغني لعبد الوهاب…
رحمات الله عليك ياوالدي الحبيب المسيح قام، وليكن ذكرك مؤبداً وهو بالتأكيد ذكرمخلد مؤبد لأنك في حضن يسوع الذي عشقته وقد ملأت كل دور العبادة من مخلدات يديك لتصعد الصلوات مع البخورلراحة نفسك وكل من انتمى اليك، الى خالقك الذي كنت على صورته ومثاله بالوداعة والمحبة والعفاف والسيرة المحمودة. وملأت الاوابد الوطنية من خالدات فنك لصالح وطنك السوري، وحبيبتك الشام، وما هذا العشق لسورية وللشام الذي ورثناه الا منك ومن امي التي ربتنا عليها.
(من المصادر التاريخية للبحث):
(1) خطط الشام الجزء الثالث( محمد كرعلي)
-
(2) وكان الوقوع في الخطأ طبيعي ذاك الوقت وفق تسجيل النفوس بسبب المكتومية والتنقل الديموغرافي، فيلجأ مأمورو النفوس الى تقدير العمرتقديراً، وبعض مأموري النفوس كانوا يتلاعبون بذلك من اجل الجنديةمن اجل تقاضي الرشوات.
(3)(الوثائق البطريركية)
(4) الذبائح التلمودية ذبيحة البادري توما مقالنا في موقعنا هنا.
(5) وجدير ذكره فان حارة عين الشرش كانت فيها عين ماء تسمى عين الشرش، وتسمت ايضا ولا تزال تحمل عندنا نحن اصلاء القصاع تسمية “الفاعور”نسبة لتاجر بناء حمصي الأصل قام ببناء بيوت هذه الحارة وكلها عربية شعبية بسيطة متماثلة ( ولاتزال بعض البيوت كما بناها باقية في الحارة) وقام بتأجيرها الى العائلات الفقيرة منهم عائلتنا.
(6) “افتخر بك ياجدي الارمني” في موقعنا هنا.
(7) الاب ايوب سميا انظره في موقعنا هنا باب “اعلام ارثوذكسيون”
(8) “التتبيع” هي كلمة تعبر عن فعل جمع القطع المحفورة لتكون منجزة والقيام بترتيب حوافها لتكون كلها بروح واحدة.