الصليب” و”جنود مسيحيي الشرق”
يظن كثيرون أن ” الفرنجة”(1) القادمين من الغرب كانوا أول جنود “ارتدوا الصليب” وأخذوه شعاراً لجيشهم ودولهم.
في الحقيقة إن هذا الاعتقاد خاطئ، ذلك أن أول “الجيوش” و”الدول” التي “جعلت الصليب شعارها” كانت في “الشرق”، وقبل حملات الغزاة الفرنجة بقرون عديدة.
أول حملة افرنجية “غربية” بدأت عام 1094، وقد دامت حملات الفرنجة وعددها اربع عشرة حملة دامت قرنين من الزمان، في حين ارتدى أول “جندي مسيحي شرقي” رمز الصليب عام 312 م أي قبل الفرنج بسبعة قرون على الأقل.
كان ذلك في خريف عام 313م عندما ظهرت لقسطنطين الملك، إشارة الصليب في السماء، مكتوب عليها :”بها تنتصر”. فأمر بإلباسها لجنوده، وانتصر بالفعل على أعدائه بقيادة القيصر مكسنديوس، فوحّد الامبراطورية الرومانية ، وهزم مكسنديوس الوثني الذي كان ينازعه على العرش، ثم أعطى المسيحيين حرية العبادة ببراءة ميلان عام 314م، وبنى “القسطنطينية” في الشرق لتكون “عاصمة مسيحية” للامبراطورية الرومية، بعدما حفلت ذاكرة روما – العاصمة الغربية القديمة باضطهاد المسيحيين.
منذ ذلك الوقت صارت راية الصليب ، الراية الرسمية لامبراطورية الروم، وصار الصليب هو “الرمز” الذي يرتديه “جيشها” دفاعاً عنها، من أنطاكية وسائر المشرق وفلسطين وآسية الصغرى إلى الاسكندرية والقسطنطينية .
لا يزال الروم إلى اليوم يرتلون في عيد الصليب، طروبارية الصليب الخاصة، التي تقول في أصلها اليوناني :” خلص يا رب شعبك وبارك ميراثك، وامنح ملوكنا المؤمنين الغلبة على البربر، واحفظ بقوة صليبك جميع المختصين بك”.
إن تعبير “وامنح ملوكنا الغلبة على البربر”νίκας τοῖς βασιλεῦσι κατὰ βαρβάρων δωρούμενος” هو دليل قاطع على أن “الصليب” كان يتقدم جنود الروم في دفاعهم عن أرضهم وعرضهم ومقدساتهم. ورأوا فيه رمزاً “للفداء” و”القيامة بعد الموت”، وهو المبدأ الذي يناضل “الجندي” بموجبه إذ إنه “بالدم يفدي شعبه” فيموت هو ليحيا الشعب وتبقى القيم.
شهادت المسلمين
عام 634 مسيحية عندما احتل العرب بلاد المشرق التي كان يحكمها الروم ، يخبر الواقدي وهو أول وثيقة عربية تؤرخ لذلك أن العرب المسلمين، في مشروعهم لاحتلال بلاد المشرق المسيحية آنذاك، كانوا يواجهون في كل مدينة شامية مشرقية جيشاً من أهلها المقاتلين “تتقدمهم الصلبان”. هكذا يصف حصار العرب ل”حمص” و”دمشق” و”طرابلس” و”حلب” و”انطاكية” و”بعلبك” وغيرها.
فهو يقول إن خالد بن الوليد عندما قرر أن يحتل دمشق، “تحصن أهل دمشق بها وأعدوا آلة الحصار، ورفعوا السيوف والطوارق، وعلوا على الأسوار، ورفعوا الأعلام والصلبان”. وعندما يتحدث عن معركة اليرموك الشهيرة بين الروم والعرب يقول :”أقبلت علينا عساكر الروم بالرايات والصلبان”.
وابن كثير يقول عن المعركة إن “الروم أقبلت رافعة صلبانها ولها أصوات مزعجة كالرعد”. (ابن كثير ، البداية والنهاية).
احتل العرب المشرق، فمنعوا المسيحيين من حمل السلاح مجدداً ومن رفع صلبانهم. وذلك بموجب “العهدة العمرية” التي يدل نصها بشكل صريح على” أن المسيحيين الذين بقيوا تحت حكم المسلمين يمنعون من حمل السلاح ومن رفع الصلبان”، وذلك بشكل “عهد وقعه المسيحيون تحت الضغط ” وفيه عبارات واضحة : “ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا… ولا نظهر صلباننا … ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً …”
جيوش الروم في البلاد التي بقيت حرة بقيوا يرفعون صليبهم ، والقائد نيكيفوروس فوكاس عندما حرر المشرق من جديد عام 966 ، كان جنوده “يرتدون راية الصليب”.
أما في القرنين العاشر و الحادي عشر ، فكنت “إذا قصدت القصر الملكي في القسطنطينية عاصمة الروم تقرأ على جدران بعض البنايات العمومية عبارة “المسيح الامبراطور” . وقد تسمع في طريقك إلى القصر جماعات يرتلون . فإذا ما اقتربوا منك وجدتهم جنوداً حاملين الصليب عالياً هاتفين :”المسيح المنتصر”. (5). كما كان هناك في القصر عرشان ، أحدهما عليه الإنجيل وهو عرش المسيح الملك والثاني للملك”.
بعد الصليبيين ، وقبل احتلال الأتراك للقسطنطينية ، بقي الروم على تقليدهم النضالي القديم . ففي عام 1331 أيضاً ، وأثناء معركة بيليكانون ، ارتدى جنود أندرونيكوس الثالث الصليب عندما قاتلوا الأتراك ، وقد كتب كانتاكوزينوس :” هاجموا البرابرة بعدما تسلّحوا بالصليب”.
رأى مسيحيو الشرق في “الصليب” على الدوام رمزاً لانتصارهم على “الموت” و”الحروب والدمار” ، ولذلك جعلوه رمزاً دائماً لنضالهم. فلنحذ حذو الأجداد ، ولننطلق نحو…القيامة.
( من كتاب “روم المشرق حرفياً: الهوية واللغة “— للمحامي رودريك الخوري —- ص 499- 502).
حاشية
(1) تم هنا استبدال كلمة الفرنجة والفرنج تغيير بالصليبيين، فتسمية الفرنج والفرنجة كما كان يستخدمها مؤرحو المسلمين المعاصرون، ولأن هذه التسمية تشكل جرحا للمسيحيين لأن خلفية مستخدميها تظهر تعصباً مسيحياً فالصليب في هذه الحملات هو شعار حربي عند الفرنج كما كان النسر عند الرومان والنسر ذي الرأسين عند الدولة الرومية البيزنطية، اضافة الى ان غزوات الفرنج للمشرق ذات بُعد استعماري يهدف الى احتلال المشرق، وبُعد صراع عقيدي بين الكنيسة الغربية برئاسة بابا رومية وملوك اوربة وبين الكنيسة الارثوذكسية والامبراطورية الرومية لذا نرى الحملة السابعة احتلت القسطنطينية لمدة 70 سنة وسلبت كل ذخائر القديسين واخذتها الى رومة، وكانت منذ الحملة الأولى قد احتلت انطاكية والقدس وقتلت البطاركة واستبدلتهم مع مطارنة الكرسيين الانطاكي والاورشليمي بلاتينيين…وكان القصد هو قلب انتماء ابناء الكرسيين مع الكنائس الشرقية الى الكثلكة لذلك كانت الكنيسة المارونية اول كنيسة شرقية تعلن خضوعها لبابا رومية.