اسم عين الفيجة
تتفجر مياه الفيجة بغزارة مدهشة من كهف في أسفل الجبل، ثم ترفد مياه نهر بردى بأكثر من نصف مياهه التي يحملها إلى دمشق. وقد حفرت الكثير من الأقنية التي أوصلت مياه الفيجة إلى دمشق ويعود أقدمها إلى العصر الروماني (على أقل تقدير)، ويمكن مشاهدة بقاياها في الكثير من قرى وادي بردى.
بعدها وفي سنة 1925 بدأ مشروع تمديد مياه الفيجة من جديد إلى دمشق وانتهى سنة 1932، حيث تم حفر قناة في جوف الجبال الصخرية حتى الخزان الأعلى في جبل قاسيون، بطول 18كم. وهي مؤلفة من أربعين نفقاً، وثلاث قنوات مبنية، وأربعة جسور في الأودية الكبيرة (يتراوح طولها بين 15-50متراً). كما تم بناء خزان كبير فوق النبع سنة 1931، ويستند جداره الغربي على أحد جدران بناء المعبد العائد إلى العصر الروماني، وتم توسيع الخزان في العصر الحديث أكثر من مرة.
ذكرت عين الفيجة في العديد من المصادر العربية ومنها “معجم البلدان” لياقوت الحموي (626هـ)، و”ذخائر القصر في تراجم رجال العصر” لابن طولون الحنفي (توفي سنة 1153هـ)، وقد أورد أن القراصيا (الكرز الحامض) كان يؤخذ منها إلى سلطان دولة الجراكسة (المماليك) في مصر، وكان يتم وضعه في علب ويحمل على البغال. كما ذكرها النعيمي (توفي سنة 710هـ) في كتابه “الدارس في تاريخ المدارس”، وذكرها ابن فضل الله العمري (توفي سنة 749هـ) في كتابه “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” وأشار إلى أن العين تخرج من جبل تحت حصن عزتا.
كما ذكرها البلخي (توفي سنة 322 هـ)، في كتابه “صورة الأقاليم”، والأصطخري (توفي سنة 346 هـ) في كتابه “المسالك والممالك”، وابن حوقل (توفي سنة 367 هـ) في كتابه “صورة الأرض”، وابن الراعي (1171هـ) في كتابه “البرق المتألق في محاسن جلق”.
كما ورد ذكر حصن عزتا في العديد من المصادر الأخرى، ومنها: “مرآة الزمان” لابن الجوزي (492هـ)، و”البداية والنهاية” لابن كثير (163هـ)، وكتاب “نخبة الدهر” لشمس الدين الدمشقي (728هـ)، ويورد وصفي زكريا في كتابه “الريف السوري” (صدر سنة 1957م)، أنه بحث عن الحصن في أطراف قرية عين الفيجة وجوارها فلم يتم العثور عليه، واستدل من الاسم الذي يطلقه السكان على جبل القلعة أن البناء القائم في حضيضه، فوق نبع الفيجة، هو ذاته الحصن المقصود، وهو الهيكل الوثني الذي قلب إلى كنيسة في العهد البيزنطي.
وذكر أن الحصن تحول إلى معقل وسجن للمغضوب عليهم من الملوك والأمراء والمتمشيخين خلال العصر الإسلامي، وظل هكذا حتى أصابه الخراب والدمار بفعل الزلازل، ثم نسيه جيرانه أهل الفيجة ولعلهم هم الذين أجهزوا عليه وبعثروا أنقاضه. ولا يستبعد وجود الكثير من قطع الحجارة والأعمدة المختبئة تحت دور القرية.
ـ معبد عين الفيجة
استلهم سكان مشرقنا القديم من مشاهد الينابيع وتدفق مياهها، أرقى الأفكار الروحية والعبادات الدينية والمعاني السامية، لما تمثله من قيم وما ينتج عنها من خلق لكل أشكال الخضرة والحياة، وهذا ما انعكس في كثير من الأعمال الأدبية و الفنية. ومع مجيء العصر الروماني ازداد إدراك الناس أكثر للماء ومناهله، فحاولوا تعظيمه من خلال إشادة المعابد على مصادر المياه لتنبثق الحياة من جوفها كما كانت تنبثق من جرة إلهة الينبوع، من قبل. وقد كرست هذه الأنواع من المعابد لحوريات الماء أو لبعض من الآلهة المرتبطة بالمياه والأنهر. ويُعد معبد عين الفيجة من أهم هذه المعابد في بلاد الشام وأكثرها تميزاً.
مخطط بانكز
وبورترPorter الذي ذكره في كتابه “خمس سنوات في دمشق” الصادر في لندن سنة 1855، وكذلك بيدكر pedker الذي ذكره في كتابه “سورية وفلسطين” الصادر سنة 1912 م، وتحدث عنه دوسو Dussaud في كتابه “الطبوغرافية التاريخية” الصادر سنة 1927. وذكر في كتاب “الدليل الأزرق” الصادر في باريس سنة 1932، حيث تم وصفه بشكل مشابه لوصف بيدكر، ونقله عنه لاحقاً وصفي زكريا في كتابه آنف الذكر، وأضاف عليه مشاهداته للموقع ووصفه لمبنى الخزان الحديث، ووضع رسماً افتراضياً بسيطاً للمعبد كما تخيله.
مخطط دنتزر
يتألف المعبد من كتلتين (AوB): سفلية في الأمام، وهي التي يخرج النبع من وسطها، (وتوجد الآن داخل مبنى الخزان)، وعلوية (خارج مبنى الخزان) وتتوضع في الجهة الشمالية من الكتلة الأولى وفوق الجرف الصخري الذي يمر تحته مجرى النبع، وهي على منسوب يزيد ارتفاعه عن 5م عن الكتلة السفلية.
أبعاد المعبد بكتلتيه نحو 37م شمال جنوب، 45.30م شرق غرب. وقد تعرض البناء لأكثر من عملية تعديل و تجديد، خلال العصور المتلاحقة، وعند كل تغير في وظيفته، من معبد إلى كنيسة إلى حصن.
مسقط الكتلة العليا أو الجزء الأعلى(A) من المعبد مستطيل الشكل، أبعاده من الخارج نحو 14.10×10م، وهو ذو جدران عريضة تتراوح سماكتها بين 110-160سم، يتجه مدخله نحو الجنوب، عرضه 290سم. ويتألف من الحرم Cella أبعاده من الداخل 890×700سم، يتقدمه رواق وأعمدة. وفي الجدار الصدراني للحرم كوة عرضها 390سم وعمقها 80سم، بينما توجد كوتان ذات شكل محني في الجدار الشرقي، الكوة الجنوبية أكبر حجماً من الشمالية.
أما في الجدار الغربي ومن جهته الجنوبية فثمة باب يؤدي إلى الخارج. وعلى بعد نحو305 سم أمام الجدران الجانبية للمعبد كان هناك قواعد حجرية ربما كانت مخصصة لتوضع عليها تماثيل الآلهة.
وقد بقي من هذه الكتلة الجزء الأمامي (الجنوبي) من الجدار الغربي الذي يضم فتحة الباب المذكور، فيما اختفى الجزء الشمالي منه لوقوعه تحت جدار استنادي تم تشييده حديثاً. كما بقيت أقسام أخرى من الجدران ومنها جزء من واجهته، وجزء آخر من ركنه الشمالي الشرقي. ويبدو أنه كان يتقدم البناء درج كبير، كما كان له سقف ذو شكل جملوني حسب مشهد يظهر على أحد القطع النقدية البرونزية.
القاعتان الجانبيتان متناظرتان ومتشابهتان في الحجم، ولهما شكل مستطيل أبعاده 12.3×11.9م وتتألف كل واحدة منهما من مدخل رئيس عرضه 580سم، ومدخلان جانبيان في الجهة الجنوبية من الجدارين الجانبيين لكل قاعة عرض كل مدخل 140سم.
بُنيت جدران المعبد بالحجارة الكلسية الكبيرة الحجم والمشذبة بإتقان، ورصفت أرضيته بالبلاطات الحجرية، التي أعيد استخدام بعضها في رصف الأرضية الجديدة التي امتدت على مساحة ممر الماء داخل الخزان. وعند تنفيذ الأرضية تم حفظ قطعة حجرية تحمل نقشاً (غير مكتمل) بالكتابة الإغريقية على أرضية القاعة الغربية، ظلت مغمورة بالماء منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حتى قُيِّضَ لها أن ترى النور، بسبب أعمال الترميم التي تمت داخل الخزان، مما وفر فرصة مناسبة لالتقاط صورة لها وللأجزاء السفلية من جدار المعبد وأرضيته.
واستطاع الباحث الفرنسي جوليان إليكو ترجمة النص سنة 2007، وهذا مضمونه: “بعناية كل من هليودوروس، وثيودوروس، المفوضين…”. واسم هليودوروس يعني (هبة الشمس) واسم ثيودوروس يعني (هبة الإله)، وهي أسماء شائعة في المنطقة، والاسم الأول يشير إلى استمرار العبادة القديمة للشمس في المنطقة. كما قدّمَ أليكو تصوره لمخطط المعبد بعد مشاهدته للكوى في الجدران وأنجز مسقطاً جديداً له ربما كان الأكثر دقة حتى الآن.
اندثرت الكثير من معالم الكتلة السفلية ولم يبق منها إلا القليل من الجزء الغربي ويتمثل بالقاعة والقسم الملاصق لها من القاعة الشعاعية،علما أن ما هو قائم في هذا الجزء فيه الكثير من التدخلات الحديثة وإعادة البناء العشوائية بما فيها السقف المنحني، وهي الأعمال التي ترافقت مع مشروع بناء الخزان.
أما الأجزاء المندثرة فهي النصف الشرقي من هذه الكتلة بدءاً من الكوة التي يخرج منها النبع، وحتى نهاية القاعة الشرقية التي افترض الباحثون وجودها وقاموا برسم مخططاتهم تماشياً مع شكل البناء في جزئه الغربي، وهذا ما يحتاج إلى التحقق وإجراء عمليات تنقيب في الموقع، وهو أمر متعذر، نظراً لأهمية الموقع الذي يشكل شريان حياة دمشق المائي.
النقود الرومانية الموثقة
وقد أظهرت بعض قطع النقود البرونزية المكتشفة في أماكن مختلفة، أهمية معبد عين الفيجة خلال العصر الروماني، حيث جرى الإشارة إليه أو تمثيله ونقش صورته على هذه النقود التي تم صكها في دمشق، ومنها: نقد يعود إلى عصر الإمبراطور ماكرينوس Macrin بين سنتي 217-218 م، حيث طبعت على وجهه الأول صورة ثلاثية الأبعاد لمعبد الفيجة، واجهته إلى اليسار من النوع تتراستايل (أربعة أعمدة في الواجهة)، بني على منصة عالية وتظهر في أسفلها الكوة التي يخرج منها الماء، ويمكن الصعود، عبر درج، إلى الجزء الأعلى من البناء (A) الذي يتقدمه الرواق القائم على الأعمدة. كما يظهر على يمين الحرم (الجزء الأعلى من البناء) مشهد شجرة، وكوة، وإلى يساره المذبح، وكلمة دمشق. أما على الوجه الآخر فثمة رأس جانبي للامبراطور، واسمه.
ويحمل نقد ثانٍ اسم اوتاسيليا سيفيرا Otacilia Severa زوجة الإمبراطور فيليب العربي (245 ـ 249 م) التي يظهر رأسها الجانبي واسمها على الجهة الخلفية، بينما يظهر على وجه الآخر في الأعلى واجهة المعبد المزود برواق وأربعة أعمدة، وتحتها الكوة التي تخرج منها المياه وفي وسطها صورة إله جالس على مياه النهر يمسك بيده قرن الخصب، وعلى يمين الكوة في الأعلى قمر وعلى يسارها نجمة الصبح وفي الأسفل مذبح، وهناك كلمة فيجة الاغريقية مما يؤكد الاسم القديم للموقع.
.
إله نهر بردى كريزورواس Chrysorrhoas
لاشك أن من الصعب معرفة إله المياه أو النهر الذي كان مكرساً له معبد عين الفيجة، وللتحقق من ذلك يجب إجراء بعض أعمال التنقيب في الموقع وهو أمر غير متيسر الآن.