الأم ماريا حسون المعلوف رئيسة دير سيدة صيدنايا البطريركي
بداية لابد منها
تحية وفاء واجلال الى الأم ماريا حسون المعلوف، تلك الفتاة المتواضعة التي انجبتها قرية المحيدثة(1)، والتي لاتزال ذكراها في نفوس أبناء البلدة.
ايتها الأمّْ ماريّأ لا تخشي شرّاً، ولا تخافي فديرك دير سيدة صيدنايا البطريركي في أيدٍ أمينة، والعذراء مريم التي عشقت تحرسه، وعطر قداستك تشربته حجارته العتيقة التي لو نطقت لباحت بمكنوناتها وخبَّرَتْ عن تضحياتك.
لم تكن الحاجة ماريا حسون المعلوق امرأة عادية أو راهبة بسيطة، بل كانت تضج بالحياة والحيوية. زادها الرب بسبب إيمانها القوي به قوة واقدام، كما زادتها العذراء الطاهرة التي نذرت ذاتها لخدمتها ثقة بقدرتها ومعونة العذراء دفعتها الى تحقيق إنجازات كبيرة، وصلت بعذ الأحيان الى حد الاعجازات. وكانت ابتسامتها المشرقة تعلو ثغرها وعيناها تشعان بنور غريب ووجهها يطفر بالحبور كلما تحدثت عن الدير وعن راهباتها وعن مساعدتها الراهبة كاترين أبو حيدر.
الأم ماريا حسون المعلوف
السيرة الذاتية
العام 1908 شهدت قرية المحيدثة المتنية ولادة طفلة أسماها والداها أليس. ابوها الأفندي الياس حسون المعلوف، خريج الجامعة الأميركية في يروت، قاضٍ ورئيس محكة جونية، ويملك الأراضي الزراعية الواسعة في البلدة. تزوج بوردة كمال ابنة المحيدثة ورزقا خمسة صبيان وستّ بنات.
تلقت أليس علومها في مدرسة العائلة المقدسة في جونيه، وتفوقت في دراستها، وأصبحت في مابعد مدَّرسة في المؤسسة ذاتها.
عشقت الرب منذ نعومة أظفارها وتأثرت بالحياة الرهبانية، ورغبت في أن تنضم الى رهبنة القلبين الأقدسين، إلا أن والدها حاول أن يماطلها آملاً ان تتزوج، وسألها لماذا اختارت هذه الرهبنة دون غيرها وعند الأرثوذكس أكثر من رهبنة.
في صيف العام 1927، حضر الى دير النبي الياس(2) شويا البطريركي البطريرك الأنطاكي غريغوريوس الرابع (حداد)(3). وكالعادة توافد المؤمنون لزيارته ومن بينهم الأفندي الياس حسون المعلوف. ورأت اليس الفرصة مؤاتيةلتتعرف الى البطريرك والى الرهبنة الأرثوذكسية، فطلبت الى أبيها أن ترافقه الى الدير فوافق على مضض. ودار حديث بين البطريرك وأليس حول الرهبنة وأخبرها عن الميتم في دير سيدة صيدنايا البطريركي.
اعجب البطريرك غريغوريوس بذكاء أليس وبتربيتها، فقال لوالدها:
“أهنئك على حسن تربيتك وأرجو ان توافق على تنفيذ نذرها في تعليم بنات الميتم وأن تسمح لها بمرافقتي الى الدير”.
لم يحسب الأفندي الياس حساب هذا الطلب، وحاول الاعتراض لكن حجة أليس بمساعدة البطريرك كانت أقوى فوافق مكرهاً.
اليس معلمة في دير سيدة صيدنايا البطريركي
اصطحب البطريرك غريغوريوس الرابع اليس معه الى دمشق ثم الى دير سيدة صيدنايا البطريركي وسلمها الى رئيسة الدير آنذاك الأم مريم الصباغ الدمشقية(4) وأوصاها بالاهتمام بالصبية اليس.
فرحت الرئيسة الام مريم بهذه الصبية الآتية من جبل لبنان، وعينتها معلمة في المدرسة، واوكلت اليها إدارة الميتم والمدرسة معاً.
مضت شهور عدة وأليس في الدير منهمكة بالادارة والتربية والتعليم. وفي أحد الأيام زارها والدها مطمئنا، وحاول أن يثنيها عن رغبتها في البقاء بالدير والعودة الى البيت، ولكن ذهبت محاولاته ادراج الرياح. إذ أرادت أليس كما قالت له أن تخدم العذراء عبر خدمة الدير والأطفال. ومما قالته ايضاً:” أرجوك افهمني إن كل لحظة أمضيها مع يتيمة من هؤلاء اليتيمات الصغيرات هي فرح لايمكنني وصفه”. كما اكدت لأبيها أنها ستبقى علمانية ولن تترهب قبل أن تفكر ملياً بالموضوع.
ادرك الأب امام هذا الاصرار ان ابنته باقية في الدير بكل قناعتها وتصميمها، لذا غادر الدير محملاً بهذا الواقع وادرك اعتناقها للرهبنة في آخر المطاف وفي دير السيدة بصيدنايا. وعاد الى بلدته وبيته وعمله.
اليس راهبة
مرت سنوات واليس منكبة على خدمة الميتم والمدرسة والادارة. وفي العام 1931 طلبت اليس من الام الرئيسة مريم الصباغ أن تقبلها في الدير، ولبست ثوب الابتداء كمبتدئة في مقام الشاغورة بحضور راهبات الدير. واتخذت اسم ماريا وذلك بكتابة اسماء القديسات على اوراق مطوية، وضعتها في طاقة الشاغورة المقدسة، وطلبت الام الرئيسة من ماريا ان تسحب ورقة فكان اسم ماريا. وهذا مانسميه في دارج الكلام الشعبي الدمشقي “بيَّتت استخارة”
أرسلت المبتدئة ماريا الى والدها تزفه خبر رهبنتها راجية ان يعذرها لأنها لم تعلمه بقرارها، ووقعت الرسالة باسم “ابنتكم الأخت ماريا”.
كان والدها رئيس محكمة جونية الافندي الياس في قاعة المحكمة عندما وصل رسول من دير سيدة صيدنايا البطريركي يحمل الرسالة. فتح القاضي الرسالة وقرأها فبكى وأدهش الحاضرين في قاعة المحكمة الذين سألوه عن السبب فقال:” ابنتنا ارتسمت راهبة في دير صيدنايا.”
وفي التاسع من تشرين الثاني 1932 حضر والدها الأفندي الياس وزوجته واولاده الى دير سيدة صيدنايا، يوم اتشحت الأخت ماريا بالثوب الرهباني، وقدمت نذورها للرب أمام البطريرك الكسندروس الثالث(4). وكم كانت فرحة الحاجة ماريا عارمة عند رؤية عائلتها.
تسلمت الحاجة ماريا اضافة الى الميتم والمدرسة أمانة سر الدير تقديراً لعملها ولثقة الرئيسة والراهبات.
الحاجة ماريا رئيسة للدير
في العام 1942 افتقد الرب الرئيسة مريم الصباغ الى جنته السماوية، فكان ان اتفقت وكيلة الدير الحاجة هيلانة خوري وراهبات الدير على تسليم الحاجة مريم رئاسة الدير،وعرضن الأمر على البطريرك الكسندروس فوافق، وكان ذلك في العام 1946. وقام البطريرك الكسندروس برسامتها رئيس للدير وسط احتفال شعبي من اهل البلدة والشام ولبنان وخاصة من ذويها.
واقع الديرالمعاصر
1- عندما تسلمت الرئاسة شعرت بأعباء الواقع المادي المتردي للدير وكان بحاجة ماسة الى صيانة في كل المرافق وخاصة في غرف الراهبات والضيافة وسطوح الدير والدرج…، ولم يكن ممكنا القيام بهذه الصيانة الضرورية بسبب الديون المتراكمة، كما ان الاوقاف الكثيرة التي كانت في دمشق وانطاكية وحلب …لاتدر الريعية اللازمة والكافية بالرغم من تدبير لجنة ادارة املاك دير سيدة صيدنايا البطريركية والتي كانت والحق يقال متفانية لخدمة مالية الدير وسداد ماعليه من ديون.
2- من حيث الادارة كانت كل راهبة تتدخل بشؤون الاخرى من دون تحديد الصلاحيات وتوزيع العمل.
3- من حيث الترتيب والنظام كان بعض الزوار يتدخلون بشؤون الدير من دون رادع ويتصرفون على هواهم.
شمرت الام الرئيسة ماريا عن ساعد الجد بعزيمة الرجال وتصدت لهذا الواقع في سلبياته كافة، واستطاعت بعد جهود مضنية ان تضع الدير على سكة الازدهار، وليكون منارة للنفوس العطشى الى الهدوء والصلاة.
العمل كبير والعجز المالي كبير ولكن الارادة اكبر والايمان بالعمل اكبر واكبر، ولكن لم يكن بمقدور الأم ماريا ان تقوم بالعمل وحدها فاختارت لها مساعدة كفؤة هي الحاجة كاترين ابي حيدر (5).
وبالاتكال على الله وعلى سيدة الدير العذراء الطاهرة، نجحت الأم ماريا بمساعدة الجاجة كاتريت ذات الارادة الفولاذية التي شهد لها الجميع ونحن منهم، في ترميم الدير وإعادة الترتيب والنظام. وتوزع العمل بينهما، فكانت الأم ماريا تسعى الى تأمين الأموال اللازمة لتسديد الديون الكثيرة، والحاجة كاترين تنفذ المهام الموكلة اليها. واضطرت الم ماريا الى السفر الى بلدان الانتشار والاغتراب الأنطاكي لاستدرار أكف المحسنين وخاصة منهم الذين لم يكن بمقدورهم المجيء الى سورية والحج الى دير العذراء الطاهرة لوفاء نذورهم. وزودها البطريرك الكسندروس ب(استاتيكون) منشور الى المطارنة ورؤساء الكنائس
زيارة مصر
سافرت أولاً الى مصر ومعها منشور من البطريرك الانطاكي الكسندروس الى بطريرك الاسكندرية والى المعتمد الأنطاكي لدى البطريرك الاسكندري لتقديم كل مايلزم من مساعدات لعلمنا الرئيسة ماريا
مكثت الأم ماريا فترة طويلة في القطر المصري متنقلة في القاهرة والاسكندرية ومدن القناة وحيث يتواجد الانتشارين الانطاكي والاسكندري جمعت خلالها مبلغاً وفيراً مكنها من تسديد الديون المتراكمة، والبدء بأعمال الترميم وتجديد أجنحة الدير وتبليط أرضية الغرف حيث كان لاتزال بعض ارضيات الغرف من الخشب، والبعض الآخر كانت مصبوبة بعدسة اسمنتية، واصلاح السقوف المتشققة، واجراء الصيانات الضرورية في غرفة الشاغورة ومدخلها والكنيسة.
زيارة الولايات المتحدة الأميركية
ثم توجهت الأم الرئيسة ماريا الى الولايات المتحدة الأميركية العام 1948، ومعها منشورين الى متروبوليت نيويورك وتوابعها المطران انطونيوس بشير(6) والى المطران صموئيل داوود رئيس اساقفة توليدو اوهايو (7) حيث كانت تجمع التبرعات وتبني جسوراً مابين الانتشار الأنطاكي والدير. وقد استغلت الام الرئيسة زيارتها هذه الى الولايات المتحدة لزيارة شقيقتها وعائلتها. وما إن وطئت قدماها ارض اميركا حتى نشرت الصحف المهاجرة الناطقة بالعربية خبر وصولها، وزارت بداية المتروبوليت انطونيوس بشير مطران نيويورك واميركا الشمالية ثم المطران صموئيل وقدم كل منهما لها كل التسهيلات الممكنة ووجها كهنتهما ورعاياهما في اميركا الشمالية لتقديم التبرعات ومد يد المساعدة، واستطاعت ان تجمع موارد جيدة جداً من التبرعات وقوبلت بالحفاوة اللائقة، وعندما عادت الى ديرها ، وجهت رسالتي شكر وامتنان الى كل منهما على حسن الوفادة وشدة الاهتمام وحث المؤمنين للتبرع.
بفضل هذه التبرعات قامت الام الرئيسة ماريا حسون بمشاريع حيث تابعت في ترميم سقف الكنيسة، وتوسيع شبكة الكهرباء، وزيادة غرف النوم وفرش الكنيسة بالسجاد، وانشاء مستوصف طبي لمعالجة المرضى داخل الدير.
شهادات وانطباعات من أميركا
تركت الأم ماريا حسون المعلوف أثراً طيباً في نفوس المؤمنين في اميركا…
قيل الكثير في الصحافة المهاجرة
قال الارشمندريت ملاتيوس صويتي (مطران الارجنتين لاحقاً) (8): “في الحقيقة تركت هذه الراهبة التقية في جميع المدن والقرى والبيوت التي زارتها ذكريات طيبة فعملت فعلها الصالح في نفوس الجميع من كبار وصغار، وهم مايزالون يذكرون تلك الروحانية الرائعة التي كانت تتجلى على وجهها وتنبثق من شخصيتها المحبوبة المحترمة. وإذا كان المهاجرون قد تبرعوا بأموالهم للدير العامر ومشاريعه الخيرية، فقد عوضتهمحضرة الرئسة الفاضلة أضعافاً مضاعفةبما كانت تنثره في أوساطهم من الهبات الروحية.وصرح لنا كثيرون أنهم كانوا يشعرون بأنوار روحانية غير اعتيادية تتألق على وجه الرئيسة الفاضلة حين كانت بينهم، وكانوا يرون آيات التقوى المرتكزة على الايمان القويم تتدفق مع كلماتها من فمها حين كانت تخاطبهم…”(9)
قال الارشمندريت الياس الخوري من غراند رابيدس في 12 تموز 1949:”تركت أميركا لكنت ابقيت فيها لك ذكراً طيباًوياليتنا نحظى برؤيتك مرة ثانية تكون أطول عهداً…يحق لسكان الدير ان يفخروا برئيستهم لأنها رفعت عالياً اسم الدير بشخصيتها الممتازة وأحاديثها المخلصة وتواضعها النبيل . والدير الذي سيهر على راحثه ملاك أرضي مثلك لايمكن الا أن يسوده النظام والترتيب والاحترام…لذا نسأل اأخواتنا الراهبات التقيات ألاّ يفترن عن الدعاء الى الله كي يحفظ رئيستهم النشيطة التي ملأت الآفاق الأميركية عطراً وتقوى وتديناً.
زيارة روسيا
في العام 1956 سافرت مع مساعدتها الحاجة كاترين ابو حيدر الى روسيا وبطريركية موسكو وكل الروسيا حيث تم استقبالهما بكل حفاوة واكرام واسهم الامطوش الانطاكي في نجاح الزيارة.
اغدقت الكنيسة الروسية الارثوذكسية الأيقونات والهدايا التي أغنت الدير، وسمحت بتحويل كنيسة القديس ديمتريوس في الدير الى شبه متحف.
انجازات الام ماريا
بمساعدة من وكيلتها الحاجة كاترين انجزت الام ماريا بما جمعته من أموال الانجازات التالية
– ترميم كنيسة دير السيدة والكنائس الاخرى التابعة للدير والواقعة في محيطه وهي:كنيسة التجلي الواقعة في آخر البلدة، كنيسة مار يوسف، كنيسة القديسة بربارة، كنيسة النبي الياس، وكنيسة القديسة تقلا.
– ديرالقديس يوحنا المعمدان ويقع على مسافة ستمائة متر شمال غرب دير السيدة، وهو دير قديم جداً يعود الى القرن الرابع، تضم كنيسته ثلاثة صحون، وثلاثة هياكل وعدداً من القلالي المحفورة في الصخر داخل سور يدخله الزائر غبر باب صغير.
– دير القديس خريستوفوروس خارج بلدة صيدنايا.
اضافة الى المشاريع التالية
– بناء الصالة الرسمية وقاعة الطعام التابعة لها فوق سطح الدير العام 1958.
– بناء غرف لاستقبال الزوار الذين يرغبون في المبيت في الدير، وخاصة منهم الوافدين من خارج دمشق ومن خارج سورية.
– بناء جناح خاص للميتم في العام 1966 يستوعب أكثر من أربعين طفلة.
– بناء دائرة الرئاسة ( المريسة) فوق الميتم لتسهيل مهام الرئيسة في ادارة الميتم ومراقبة العمل فيه.
بناء الدرج الحجري وبالدرابوزنات الحديدية للدير وهو الدرج الحالي بشكله المميز( والابقاء على الدرج القديم من اجل التخديم ) وخاصة لتسهيل الحج الى دير السيدة في اعياد العذراء وبالذات عيد الدير وهو عيد ميلاد السيدة في 8 ايلول المسمى شعبياً عيد الحج والذي يستقطب الالوف المؤلفة منذ قرون.
– اعتنت الام الرئيسة مايا حسون المعلوف شخصياً بالمدرسة والميتم كما كانت حينما وفدت الى الدير معلمة ومن ثم مديرة، واستقدمت المعلمات الكفؤات للتدريس، ووضعت الهدف ووضعت آلية التنفيذ وتحت اشرافها المباشر، وحرصت ان تتابع الاشراف الدقيق شخصياً وتكون كل معلمة مسؤولة شخصياً أمامها، لأنها كانت تعرف ان ارتقاء مستوى رهبنة الدير يكون من خلال مؤسستي الميتم والمدرسة الديريتين وتنفيذ الخطة باتقان.
وجدير ذكره وكما كان سائداً الاقامة الطويلة التي كانت متاحة للزوار حيث ان البعض منهم ومن ذوي الراهبات كان يمضي اشهر الصيف في الدير وحتى على مائدة الدير مايرتب اعباء مالية فائقة على (كلار ) بيت مؤونة الدير، وتصبح الراهبات لخدمة الموائد أكثر بكثير من خدمة دير العذراء والتعبد واعمال الدير… حتى ان الاحتفالات بعيد الحج كانت لمدة ثلاثة اشهرقبل وبعد العيد، مع اقامة الحجيج وكانت الفوضى تبعاً لذلك تضرب جذورها ووفقاً للمحسوبيات، والاستئثار بالغرف، اضافة الى التدخلات السافرة من هؤلاء، والحفلات التي كانوا يقيمونها وعلى شهادات من اهالينا والتي تسيء الى قدسية الدير وحرمة نزيلاته من متوحدات وبنات يتيمات، فما كان من الأم ماريا وبفضل حزم مساعدتها ذات الارادة الحديدية الحاجة كاترين، الا أن أوقفت كل هذه المظاهر الشاذة ، وحددت يوماً واحداً للزوار وثلاثة ايام لأقارب الراهبات.
وكان الدير وعلى الدوام يقوم باطعام الكثير من الجائعين ويتناول على مائدته الكثير من العائلات المحتاجة، ولكن الام الرئيسة ومساعدتها حصرتا الموضوع بدون تفلت ضغطاً للنفقات مع استمرار القيام باظعام الجائعين والمحتاجين.
وقامتا بتوزيع المسؤوليات على الراهبات بين خدمة الكنيسة، وخدمة الشاغورة وصندوق النذورات، ومسؤولية غرف النزلاء، ومسؤولية ادارة المدرسة وادارة الميتم،ومسؤولية بستان الدير ومتابعة الارزاق، وخدمة كلار الدير(بيت المؤونة) والمطبخ، وسكرتارية الرئاسة، ومراسم الاستقبالات الرسمية… ولعبت وكالة الدير(9) التي كانت تقوم بها لجنة من العلمانيين منبثقة من المجلس الملي اضافة الى وكيل بطريركي مخصوص مقيم او شبه مقيم في الديرلتسهيل الامور، وكانت تعنى بتوفير الموارد من الاوقاف في دمشق، ومايلزم من مشتريات، وحصر النفقات…وكان الوكيل وهذه اللجنة مسؤولين امام المجلس الملي البطريركي برئاسة البطريرك الكسندروس وهو الذي كان يتابع شخصيا اوضاع الدير ويعضد رئاسته التي كانت تعود اليه على الدوام في القضايا الكبيرة ويوجه هذه اللجنة…
تحرير اوقاف الدير في صيدنايا والمنطقة
في فترة الفوضى وشعور البعض من المتنفذين بأن اراضي واوقاف الدير يستطيعون التصرف بها بدون حسيب لذا وبعدما كثرت التعديات الواقعة على املاك واوقاف الدير في البلدة، قامت الرئيسة ووكيلتها بوقف هذه التعديات بما امكنهما باشراف البطريرك الكسندروس القوي الشكيمة، وخليفته والبطريرك الياس الرابع، واستثمرت كل شبر من الأراضي، بما مكن سيولة نقدية للدير ساعدته ليعود الى الصدارة والازدها، والقيام بالمشاريع العمرانية… وعاد الدير منارة روحية يقصدها كل مؤمن سيما ودير سيدة صيدنايا هو واحة للنفوس المؤمنة الملتجئة الى شفاعة الطاهرة كما نرى في اعاجيبها التي شهد بها اصحابها على جدران مدخل الشاغورة والشهادت الشفهية. ولايزال هذا الحقل يحتاج الى الكثير من الجهد وخاصة الاوقاف في القرى الواقعة في المنطقة.
تكريم الام ماريا
أقام البطريرك الياس الرابع(10) حفل تكريم حافل لها في دير سيدة صيدنايا بحضوراكليريكي مميز وجمع غفير من كل المناطق وآل المحتفى بها وكان بمثابة عيد لبلدة صيدنايا التي تعتبر الدير خاصاً بها فقلدها وسام الرسولين بطرس وبولس مؤسسي الكرسي الانطاكي المقدس من درجة كومندور اول (كما فعل خلفه البطريرك اغناطيوس الرابع بتكريم خليفتها الام كاترين ابوحيدر في عهده)وكان ذلك في 6 تشرين الاول 1974. وألقى البطريرك خلال القداس الالهي في دير سيدة صيدنايا البطريركي كلمة قال فيها:”في هذا اليوم تقف الكنيسة مكرّمة ابنة تركت الدنيا وكرست نفسها للعذراء تخدمها بإخلاص ومحبة وتفان. هذه الابنة الروحية عرفتها منذ طفولتي وكانت معلمتي، عندما جئت الى هذا الدير في السنة 1927 وكانت هذه الابنة تعلم بنات الميتم هنا، عرفتها وعرفت فيها بنت أدب وتقوى وأخلاق.”
كما اشاد في كلمتها بعائلتها وبسمعتهم وانجازاتهم، وأضاف في الختام:” الفائزة الوحيدة في هذه الدنيا هي هذه الابنة الروحية لأنها اختارت هذه الحياة، وهي التي خلقت هذا الدير وبنته بايمانها وتقاها”.
وأنشدت لها الراهبات واليتيمات معاً
حبذا يوم سعيد…………….يوبيل أم الراهبات
تنجلي فيه الأماني………..كالشموس النيّرات
يوبيلك يا أمّ يبدو………….. باعثاً فينا الحياة
يدك البيضاء تعنى…………باليتامى البائسات
سعيك المبرور يزهو……….يامثال الامهات
عاشت الأم ماريا………….بهناء وصفاء
تغرس فينا المحبة………..والايمان والرجاء
كما القيت العديد من الكلمات والقصائد القاها شعراء وشخصيات من صيدنايا والشام… ولبنان والعائلة وكلها تشيد بالمحتفى بها وماقدمته لانعاش الدير البطريركي، وفي إعادة الحياة الرهبانية الأصيلة اليه، وتتقدم بالشكر الى البطريرك الياس واسرة الدير لتكريم هذه الفاضلة.
انتقالها للأخدار السماوية
مرضت الأم ماريا، فاعتنت بها الحاجة كاترين وكانت تنام الى جانبها لخدمتهان ثم أُدخلت الى مستشفى القديس جاورجيوس / مستشفى الروم/ في بيروت، وتوفيت في 23 نيسان 1977، حيث نقل جثمانها بموكب اكليريكي، رسمي وشعبي من بيروت الى دير سيدة صيدنايا، اقيمت لها صلاة الجناز حافل رئسها البطريرك الياس الرابع، وعاونه عدد من السادة مطارنة الكرسي الأنطاكي المقدس وسائر الإكليروس البطريركي في دمشق وريفها بحضور كهنة الطوائف المسيحية الاخرى وشيخ البلدة وساد جو من الحزن الشديد في بلدة صيدنايا المتأسف على رحيل هذه البارة التي قاربت في سيرتها القديسين.
حملت الراهبات الأم ماريا على سجادة الى مثواها الأخير في مدفن الراهبات في كنيسة القديسة بربارة وهي كنيسة البلدة للروم الأرثوذكس وتقع شمال الدير، واصطفت راهبات الدير ومبتدئاته وتلميذات المدرسة والميتم باللباس الرسمي على الجانبين على طول الدرب حيث اقيمت للراحلة الكبيرة صلاة التريصاجيون في كنيسة المدفن ( القديسة بربارة) التي قامت بترميمها مع وجود غفير جداً من كل المناطق من دمشق وبقية المناطق في سورية ولبنان واسرة الفقيدة ووجود رسمي سوري ولبناني بمشاركة ممثل عن رئيس الجمهورية في سورية ومحافظ ريف دمشق وكل اهل صيدنايا من كل الطوائف، وعسكريون وامنيون…
الخاتمة
يدرك المتتبع لسيرة هذه الأم البارة ماقامت به من انجازات، وبعضها دخل في حيز الاعجاز، هذه الام البارة ماريا الشابة الجميلة اليس التي تركت مباهج الحياة الدنيوية والتجأت الى كنف العذراء الطاهرة ورهبنتها وعاشت الحياة الديرية باسهام فاعل بدءا من الخدمة وهي لاتزال علمانية في تدريس التلميذات واليتيمات، وقاومت الضغوط الأسرية للعودة الى بلدتها، ثم اعتنقت الرهبنة… والعذراء هي التي اعطتها اسمها، وتابعت مشوار العمل وما اجماع الراهبات على ان ترئيسها الدير الا اعتراف بكفاءتها…
في قناعتي يكفيها ذاك الحب الابوي الذي بدأت به مسيرتها التقوية مع مثلث الرحمات البطريرك الرحيم والمقتدر غريغوريوس الرابع الذي طلبها شخصياً من والدها القاضي الشهير لتلتحق بديره البطريركي، ثم تلك المتابعة الحثيثة من خليفته مثلث الرحمات البطريرك العالم والمعمار الكسندروس الثالث وتسهيل كل مشاريعها طيلة بطريركيته من 1931-1958… والفترة الاولى من بطريركية مثلث الرحمات العلامة البطريرك ثيوذوسيوس السادس قبل اصابته بالفالج وانقطاعه في مستشفى الروم ببيروت، والمتابعة المتميزة من مثلث الرحمات بطريرك العرب الياس الرابع وتكريمه لها في منحه وسام الكرسي الانطاكي ثم في وداعها الأخير. الجميع وعلى وعيّ وشهادات جدي ووالدي ومن اعرفهم، وذلك الارث المعماري الذي تركته جميعهم يشهدون بريادة هذه الرئيسة الفذة صاحبة الوجه الملائكي الذي زادته نوراً تلك الخدمة النقية روحيا ابنة للعذراء.
كنا نزور الدير منذ طفوليتنا وخاصة في عيد الحج وبقية الاوقات ولانزال ، وكنا نرى بأم العين هذا التعب الموصوف (ولايزال) على وجوه رئاسات الدير المتعاقبة وراهباته والخادمات في اعمالهن والابتسامة تعلو الوجوه واولهن الام ماريا التي لازلت اذكر حديثها الشجي الروحي اللطيف والمتواضع في المريسة مع الوجه المنور بالروح القدس وحفاوة الاستقبال وخليفتها الام المقتدرة كاترين التي حكت لي كيف اعادت اعمار دير الشيروبيم، وتابعت الام كريستينا رحمها الله الخط ذاته وقدس الام فيبرونيا نبهان الوقور الرئيسة الحالية التي تحملت وراهباتها كل الضيقات في الفترة المنصرمة والأليمة من تاريخ سورية ومأساتها. منذ 2011
ربما تكون شهادتي مجروحة ولكن كلمة الحق واجبة وهي ان دير سيدة صيدنايا ولكونه دير الطاهرة يلقي بنوره على كل من مر فيه من رئاسات ورهبنات ومنهن واولهن الام الرئيس ماريا حسون المعلوف تلك الام الورعة ورفيعة الثقافة والمتواضعة التي ابتعدت ما مكنها عن حب الرئاسة الا مااملاه عليها دورها كخادمة للعذراء الطاهرة وديرها العجائبي دير سيدة صيدنايا البطريركي..
ليكن ذكرك مؤبداً ايتها الام الفاضلة.
مراجع البحث
* قصة عشق الأم ماريا حسون المعلوف، راية من بلادي اعداد الزميلة لولو الياس صيبعة مقال منشور في العدد الثالث مجلة النور السنة 75 2019
* د.جوزيف زيتون//1- سيرة الام كاترين ابوحيدر، 2- دير سيدة صيدنايا البطريركي في موقعي الشخصي
* وثائق دير سيدة صيدنايا البطريركي/ الوثائق البطريركية
* شهادات شفهية من مسنين
* ذاكرتي الشخصية ومشاهداتي
حواشي البحث
- المحيدثة بلدة تقع في المتن الشمالي، اشتهر من ابنائها الشاعر المهجري ايليا ابو ماضي والرسام شفيق عبود والشاعر أديب مظهر والشيخ ابراهيم المنذر وغيرهم كثر.
- دير النبي الياس شويا البطريركي: عُرفَ في الوثائق رقم 86 القديمة التابعة للدير باسم دير مار الياس المحيتة او المحيدثة.( الوثيقة رقم 6 من العام 1687م – الوثيقة رقم 30 من العام 1771م – والوثيقة رقم 86 من العام 1799 – الوثيقة رقم 151 من العام 1798). الا ان التسمية تغيرت بعد العام 1800 إذ هناك وثيقة تحمل رقم 89 من العام 1802 وتذكر اسم دير مار الياس شويا. احتل مكانة مهمة في المنطقة وجوارها بفضل الكهنة الذين توالوا على رئاسته. وكان محط أنظار الكثيرين. وعلا شأنه أيضاً في عهد رئيسه الخوري مكاريوس(1828-1877) الذي كان على علاقة جيدة مع قائمقام الموارنة الأمير حيدر أبي اللمع الذي قبض عليه المصريون وساقوه الى مصر في الحملة المصرية على بلاد الشام. وفي فترة غيابه اهتم رئيس الدير الخوري مكاريوس بعائلة الأمير الأسير الى حين عودته من منفاه في العام 1840 بعد خروج المصريين. كما ان الرئيس تميز بعلاقة قوية بمراكز السلطة العثمانية فاستطاع ان يمنع حصول مجازر طائفية خلال اربعينان القرن19 وفي مجزرة 1860 في المتن وكسروان، كما كان صديقا لقائد القوات العثمانية التي حضرت الى سورية لحفظ النظام.جذب الدير ايضا العديد من الرحالة الروس والحجاج القاصدين الأراضي المقدسة. وذلك بسبب الرهبان الروس الذين عاشوا في الدير قبل العام 1914 انظر منشورنا عن الدير في موقعنا هنا باب (آثارنا المسيحية).
- البطريرك غريغوريوس الرابع (حداد)1906-1928 انظر سيرته في موقعنا هنا باب (اعلام كنسيون).
- البطريرك الكسندروس الثالث (طحان) 1931- 1958 انظر سيرته في موقعنا هنا باب (اعلام ارثوذكسيون).
- الحاجة كاترين ابو حيدر من بسكنتا مواليد عام 1917. انتسبت الى رهبنة دير سيدة صيدنايا البطريركي العام 1936. انتخبت رئيسة للدير العام 1977، وقامت بإصلاحات كثيرة، ومنها إنشاء متحف الدير وبناء دير الشيروبيم الرهباني البطريركي، وترميم دير القديسة جاورجيوس الرهباني البطريركي في صيدنايا. انتقلت الى الأخدار السماوية في 18 كانون الأول 2005( انظر سيرتها هنا في موقعنا باب (اعلام كنسيون).
- المتروبوليت انطونيوس بشير مواليد 15 آذار 1898 في بلدة دوما شمال لبنان في ابرشية جبيل والبترون، رسمه المطران بولس ابو عضل وهو مؤسس أبرشية جبيل والبترون واول مطارنتها شماساً العام 1916 ، تابع دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت. انتخب مطراناً على ابرشية نيويورك وسائر اميركا الشماليةن انتقل الى الأخدار السماوية في 15 شباط 1966 ويعد بحق باني ابرشية اميركا الشمالية واوقف الى معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي وقفية المطران بشير المالية لدعمه.( انظر سيرته في باب أعلام كنسيون في موقعنا هنا.)
- المطران صموئيل داوود اسقف توليدو اوهايو ثم رئيس اساقفة توليدو اوهايو وخلفه المطران ميخائيل شاهين في رعاية اسقفيته الى حين قيام المتروبوليت فيليبس صليبا راعي ابرشية نيويورك الذي خلف المطران بشير بتوحيد الأبرشية وتولى المطران شاهين معاوناً للأبرشية الواحدة، تميز المطران صموئيل بالكرم وطباعة الكتب الطقسية وتقديم التبرعات وكان يرأس 11كنيسة في عداد اسقفيته ويعاونه المعاون الاسقفي الشهير الارشمندريت العالم حنانيا كساب الدمشقي كاتب سفر مجموعة الشرع الكنسي ثم انفض عنه والتحق بالمطران انطونيوس قناعة منه بوجوب توحيد الابرشية ( للمزيد انظر ذلك في مقالنا عن ابرشية اميركا الشمالية في موقعنا هنا)
- ولد في صحنايا بريف دمشق العام 1910، درس اللاهوت في اكليريكية بطريركية الاسكندرية للروم الارثوذكس، رسم كاهنا العام 1939 في مصر بيد البطريرك الاسكندري، وتولى معتمداً بطريركيا انطاكياً في مصر ورُسم ارشمندريتاً، تولى منصب الوكالة البطريركية في ابرشية دمشق عن البطريرك الكسندروس عام 1954، فحاز لدماثته وشدة ورعه وخدمته المتميزة محبة كل رعايا ابرشية دمشق، ومالبث ان انتخب مجمعياً كأول مطران على بوينس ىيرس وسائر الارجنتين وسط اعتراضات المجلس الملي البطريركي بدمشق والجمعيات والرعايا في كافة ارجاء الابرشية وعرائض استرحام ليبقى وكيلاً بطريركياً في دمشق، وبتزكية من البطريرك الكسندروس تم اطلاق تسمية مطران بدلاً من الاسقف نظراً لكفاءته ونجاحه في الادارة والرعاية ومن ثم انتقل الى ابرشية الارجنتين، انتقل الى الأخدار السماوية في 23 ايلول 1983.
- الوثائق البطريركية،/ وثائق دير سيدة صيدنايا ووثائق ابرشية دمشق… وشهادات شفهية من مسنين.
- انظر سيرته في باب أعلام كنسيون في موقعنا هنا