المناضلة السورية السيدة نازك العابد (جان دارك العرب)…
مدخل
لم يشهد تاريخنا الحديث مثيلاً لنازك العابد في صدق الوطنية والكفاح المتواصل والشجاعة التي قل نظيرها في التاريخ. اسألوا موقعة ميسلون في 24 تموز 1920 فترون نازك العابد بالبزة العسكرية برتبة نقيب الى جوار وزير الحربية الشهيد يوسف العظمة… فقد ارتقى شهيدا نتيجة اصابته بين يديها.
في خضم أحداث تلك الفترة وقفت ثلة من النسوة السوريات إلى جانب الرجل، مناضلات مكافحات في سبيل الحرية.
وعلى الرغم من محدودية المشاركة إلا أن المرأة السورية شقت طريقها متحدية مجتمع ذكوري ذو فكر وتقاليد راسخة، حيث وقفت مجموعة من الرائدات اللاتي اقتحمن الحياة العامة عنوة، وناضلن في سبيل عزة ورقي الوطن.
وبالرغم من تموضع نشاطهن الأساسي في الصالونات الأدبية والمجلات النسائية، إلا أن مشاركتهن في الهموم العامة والحياة السياسية للوطن تركت بصمة واضحة لا يمكن إنكارها.
كان منهم على سبيل المثال السيدة نازك العابد التي حفظ لها الوطن في ذاكرته جليل الذكر.
السيرة الذاتية
ينحدر آل العابد من عشيرة الموالي استوطن جدهم محمد بن الأمير قانص في حي الميدان بدمشق عام 1700/1701 م و كان لهم نفوذ واسع.
وهم من ارباب الشيم العربية والاخلاق العالية كأهل نخوة وكرم، آل دولة بجدارة، و كان لآل العابد دور مهم في السياسة أواخر القرن التاسع عشر على مستوى السلطنة العثمانية عموما وسورية وولاية دمشق خصوصاً.
أبصرت نازك العابد النور عام 1887، والدها مصطفى باشا العابد من أعيان دمشق، تولى محافظة الكرك في شرق الاردن، وولاية الموصل في العراق في أواخر الفترة العثمانية، وأمها فريدة الجلاد، من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي.
وعليه نشأت نازك العابد في بيئة النخبة.
تعلمت مبادئ اللغات العربية والتركية في المدرستين الرشديتين (الاعدادية) الدمشقية والموصلية، ودرست الفرنسية في مدرسة الراهبات الفرنسيسكانيات في الصالحية/ ساحة النجمة بدمشق المعروفة اليوم بمدرسة دار السلام الخاصة والتابعة للرهبنة النسائية الفرنسيسكانية، كذلك تعلمت مبادئ الانكليزية والألمانية.
نُفيت مع عائلتها في الحرب العالمية الأولى إلى أزمير، بسبب وطنية الاسرة واصرارها على الاستقلال من نير الاستعمار العثماني بالرغم من مكانة مصطفى باشا السياسية في السلطنة العثمانية.
في اسطنبول دخلت لتتعلم في مدرسة الفردوس للمرسلين الانجيليين الأميركان. لتتابع فيما بعد تحصيلها العلمي في المعاهد الخاصة للتعليم، بالإضافة إلى تعلم فنون التصوير والموسيقا ( البيانو)، واهتمام جلي بالإلمام بعلمي التمريض والاسعاف.
نشاطها الادبي
بدأت نشاطها في دمشق مجرد عودتها من المنفى في أواخر 1918م، بالكتابة فكتبت في بعض الصحف كلسان العرب واتخذت من مجلتي “العروس” ( وهي أول مجلة صدرت في سورية لصاحبتها المناضلة الثائرة ماري عجمي) ومجلة الحارس منبراً لآرائها وأفكارها المستنيرة الجريئة، كذلك شاركت في المؤتمرات النسائية الوطنية والدولية في مصر ولبنان.
أسست وترأست عقب قيام الثورة العربية الكبرى بقيادة المغفور له الشريف حسين بن العلي عام 1916 “جمعية نور الفيحاء” لمساعدة ضحايا الثورة، ناصرت في كتاباتها حق المرأة في الانتخاب السياسي عندما طرح في المؤتمر السوري1919.
وتحدثت بلسان الجمعية واستكتبت سيدات دمشق العرائض اللازمة لتأييد الاستقلال أثناء وجود لجنة كينغ كراين الأميركية لاستفتاء السوريين في الانتداب عام 1919، و قادت تظاهرات نساء المعارضة لاي شكل من اشكال الاستعمار الفرنسي تحت مسمى الانتداب من خلال اتفاقية سايكس بيكو، مما أثار إعجاب مستر كراين بذكائها وقوة حجتها، فكان اسمها ضمن أبرز الأسماء في أوراقه وخواطره.
وقبل أن يغادر البلاد طلب منها أن تختار عدداً من الطالبات، لينفق من ماله على تعليمهن في الكلية الأميركية للبنات في بيروت.
عينها الملك فيصل بن الشريف حسين رئيسة لجمعية “النجمة الحمراء” عام 1920، لتصدر في أول شباط 1920م “مجلة نور الفيحاء “وهي مجلة أدبية إجتماعية، بهدف النهوض بالمرأة، كذلك أسهمت في تأسيس “النادي النسائي الشامي” الذي ضم نخبة سيدات الشام، ومدرسة بنات الشهداء ومكتبتها، كذلك أسهمت في إنشاء مصنع للسجاد، حيث أهديت بعض منتجاته إلى بعض الملوك وخصص ريع المبيعات لصالح الأيتام.
مُنحت رتبة نقيب في الجيش زمن الملك فيصل نتيجة لمواقفها البطولية.
حسها الوطني والقومي ضد الاتراك
نفيها
عرفت نازك العابد الحس الوطني مبكرة، وتجلى الفكر القومي في ثقافتها بإدراكها وانزعاجها من تعالي معلمات اللغة التركية في الموصل على الطالبات العربيات، مما جعلها تشكل تجمعاً رافضاً لهذا التعالي الأمر الذي تسبب في طردها من المدرسة لموقفها القومي ضد الاتراك، ومن ثم نفيها وعائلتها الى مدينة ازمير التركية، لتعود بعدها إلى الوطن.
وفي أجواء دمشق الحماسية في تلك الفترة تنامى شعورها الوطني وازدادت قناعتها بضرورة التنوير من خلال العلم والمعرفة، للتغلب على الجهل والظلم، لفتت هذه الحركة نظر حاكم بلاد الشام السفاح جمال باشا فأمر بترحيل العائلة مع بداية نشوب الحرب العالمية الأولى الى استانبول، وما لبثت ان دفعتها روحها الثائرة فور انتهاء الحرب إلى العودة الى دمشق، بعد طرد الاتراك المحتلين.
العودة الى دمشق ومسيرة النضال
وفي دمشق استأنفت نشاطها بعد أن أنست الخير في عهد الملك فيصل واستبشرت أملاً ببزوغ فجر جديد، فسخرت مكنزها العلمي في كتابة مقالات مختلفة التوجهات في الصحف المحلية والعالمية فكان منها الوطني ومنها الاجتماعي.
أصبحت نصيرة حقوق المرأة العربية وباتت مجلتها ـ التي لم يطل عمرها ـ بمثابة مدرسة متنقلة، تحمل صور التطور الاجتماعي ونمو الوعي الوطني وتطالب الحكومة العربية بإعطاء المرأة حق الانتخاب السياسي، وحرية الرأي ساندها وأيد فكرها استقطاب مجلتها لأقلام أعيان المفكرين والأدباء. بالإضافة إلى تأكيد من الأستاذ العالم سعيد الكرمي، عضو المؤتمر السوري الذي عقد في دمشق في ربيع عام 1920 لتقرير مصير وحرية البلاد العربية ووحدتها.
شاركت نازك ، بوعي وبشعور بالمسؤولية، في الحياة السياسية، فحازت على مكانة اجتماعية مرموقة واستحقت ثقة الملك فيصل وتقدير حكومته، فصدر أمر ملكي بمنح، هذه الوطنية المثالية، رتبة عسكرية فخرية (نقيب).
نضالها ضد الاستعمارالفرنسي
ومع شروع الفرنسيين بالتمهيد للغزو وإنذار الملك فيصل بالمغادرة، واستعداد الجيش السوري الصغير لصد العدوان الفرنسي 1920بادرت إلى إنشاء مستشفى للجرحى وهيأته في بضعة أيام. ومع خيبة الأمل كشفت نازك اللثام عن شجاعة قل نظيرها لتمضي حاسرة الوجه بلباسها العسكري مخترقة صفوف الثوار مدافعة عن الوطن والحرية تحفز الهمم وتوقد حماسة المدافعين، وبصحبة وزير الحربية يوسف العظمة في ميسلون 24تموز1920 تفقدت الجند، هرعت إليه بعد أصابته في المعركة و أسلم الروح بين يديها.
وبدخول القوات الفرنسية أرض الوطن، بدأت نازك العابد نضالها ضد المستعمر لتقف مع حرائر دمشق في الإحتجاج عنوة على الانتداب الفرنسي، وذلك بتنظيم مظاهرات تطالب برحيل قوات الاحتلال، والاستقلال والحرية. وعليه بدأت نازك جهادها الأكبر سراً وجهراً بكل الوسائل المتاحة، فضاقت أعين الانتداب الفرنسي بنشاطها، ورصدتها شرطته، فأغلقت المجلة والمدرسة، ومنعتها من عقد ندوات خاصة وعامة، فما كان منها إلا الالتحاق في صفوف المقاومة السرية لمقارعة المستعمرين.
النقيب «نازك العابد» الدمشقية السورية كانت أول ضابطة سورية وعربية (في كل المحيط العربي ) التي شاركت في معركة ميسلون
هي أول ضابطة في الجيش السوري وكل الجيوش العربية الى مابعد نصف قرن، وكانت أول من حملت رتبة عسكرية على التراب العربي، وعرفها الغرب وتغنى بها بلقب “جان دارك العرب” ليبقى لقب (سورية) أكثر ما يليق بتلك الشريفة المنسية.
وهكذا فقد اخترق لقب النقيب (نازك العابد) حدود الزمن، ليبقى حاضراً رغم الغياب، في ذاكرة ووجدان كل شخص التمس شرف العلم، وسعى جاهداً الى الخلاص من القضبان.
مع كل لقب حملته (العابد ) ذكرى ووسام نالته تلك المرأة السورية عن كد وجدارة، فهي خرجت عن السائد في مجتمع -يلقب بالذكوري-، لكن التزامها بالقيم وسموها بالأخلاق الرفيعة جعل ذاك المجتمع يحترمها، بل يتبعها أيضاً…
فما قصة تلك المرأة التي كانت آخر من حمل البطل يوسف العظمة في معركة ميسلون الشهيرة…؟
بعد دخول الفرنسيين واحتلالهم الوطن السوري وتنفيذ سايكس بيكو بتقسيمها الى كيانات اربعة خاضعة للاحتلالين الفرنسي والانكليزي وتشكيل دولة لبنان الكبير، لم تسيتكن نازك لهزيمة ميسلون بل شمرت عن ساعد الجد بكل ما اوتيت من عزيمة وطنية وحس سوري، وراحت تلتمس لقضية بلادها آفاقا واسعة، تنشر فيها أخبار الثورة العربية وأسبابها وملابساتها، وحق بلادها في الحرية والاستقلال.. وساعدتها شجاعتها ووضعها المالي الجيد فوظفته من اجل قضية بلادها وحقها في التحرر، فتجولت في أميركا وعواصم الغرب شارحة واقع بلادها المستعمرة ومطالب قومها الوطنية، على زعماء السياسة والصحافة، فحظيت بالاعجاب والتقدير، فنوهت الصحف الغربية عن جرأتها وبطولتها ولقبتها بـ “جان دارك العرب” (وجان دارك هي تلك البطلة الفرنسية المشهورة التي استشهدت حرقاً) وجعلت الرحالة والكاتبة الانكليزية “روزيتا فوريس” من مواقف نازك العابد حبكة لروايتها “سؤال” التي نشرتها عام 1922.
طال تجوال نازك بعيدة عن أهلها ووطنها، وتعرضت لضغوطات استعمارية، فعادت إلى الوطن بعد تعهدها بعدم المشاركة في أي عمل يمس سلطة الاحتلال، فرضت عليها السلطة الفرنسية المحتلة الاقامة الاجبارية في مزرعتها الخاصة في غوطة دمشق الشرقية، فراحت تشتغل في الزراعة، وهناك تعايشت مع أهل الغوطة الشرقية، فساعدتهم في تطوير العمل الزراعي، وأوقدت فيهم روح الثورة على المستعمر, فكانت أحد ثوار ثورة 1925، حيث عملت بصمت وخفاء متنكرة بزي الرجال. غير آبهة بخطر ما.
الزواج واستمرار النضال في لبنان
تقدم لخطبتها عام 1929 محمد جميل بيهم الذي مثل بيروت في المؤتمر السوري الأول الذي انعقد في دمشق عام 1920 تزوجته نازك وانتقلت للإقامة معه في بيروت.
إلا أن وجودها في بيروت لم يثن من عزيمتها بل ازدادت نشاطاً في العمل من أجل النفع العام، فأسست جمعيات اجتماعية عدة منها:
1- جمعية المرأة العاملة.
2- ميتم تربية بنات شهداء لبنان عام 1957.
وفي السبعين من عمرها أسست لجنة مهمتها تثقيف الأم اللبنانية في مجالات الحياة كافة، وانتخبت عام (1959م) رئيسة لها، وقد أقيم بهذه المناسبة أول احتفال بعيد الأم في لبنان.
وفاتها
توفيت نازك العابد في العام نفسه 1959م عن عمر يناهز 72 عاماً، قضتها في النضال في سبيل عزة بلادها وصون كرامتها، ودفنت في مقبرة العائلة في باب الآس في حي الميدان في دمشق تنفيذاً لوصيتها، وفي حفل تأبينها الذي أقيم برعاية الجمعيات النسائية اللبنانية تكلم المفكرون والخطباء عن الأديبة والمناضلة السورية التي صاغت بمواقفها البطولية جزءاً مهماً من تاريخ سورية الوطني.
أفاضت عمتها السيدة أيمن العابد المرستاني في التعريف على مناقب انة شقيقها المناضلة نازك فأكدت ان نازك منذ طفولتها تمتعت بشخصية مميزة، نالت ثقة الجميع بلطف معشرها ورهافة حسها وعطفها على الغريب قبل القريب، فأثناء وجودها في الغوطة تبنت ثلاث فتيات من بنات المزاعين، وعملت جاهدة أن ينالوا فرصتهم في العيش الكريم والتعليم، وذلك من خلال إرسالهم إلى مدارس أجنبية خاصة.
أما عن احترام محيطها لها فتضيف السيدة أيمن بأن والدها مصطفى باشا أثناء تواجد الأسرة في المنفى، كان يقف ويدعها تجلس قبل أن يجلس هو في الأماكن العامة، وبالتالي كانت هي تحترم وجوده، فكانت تناديه “سيدي” عندما يكونان في المنزل.
لم تنل السيدة نازك العابد بيهم مانالته قريناتها بعد زواجها، فكان التعثر حليفها!!! إلا أن كرمها وانغماسها في الأعمال الخيرية خفف شيئاً مما عانته في حياتها الخاصة، لم ترزق بولد إلا ماحرمت منه من حنان الأمومة فاضت به على كل طفل يتيم أينما وجدت.
هذه هي نازك العابد المناضلة السورية التي سبقت عصرها بنضالها من اجل استقلال الوطن، والمرأة السورية وحقها بالتساوي في الشأن السياسي والاجتماعي والوطني مع الرجل وفعلت الامر ذاته في لبنان…
فهل نعطيها حقها كما اعطت الوطن السوري الواحد كل كيانها…