دعوة وإرسال: الخدمة الرسولية في الكهنوت
لقد تحقق قصد الله عندما أتمّ المسيح ذبيحته وصار “كل شيء جديداً” (رؤ21: 5) بعد القيامة. والكهنوت إذ يمدُّ ذبيحة المسيح وقيامته هو عيد دائم: عيد جدة الفصح. إن الكاهن في الحقيقة يقيم باستمرار فصح الرب، الفصح الذي يجدد الحياة حولنا وفينا على الدوام. ليس من كهنوت إذن خارج المسيح الذي قام من بين الأموات، وكل كهنوت يستمد قوته وحقيقته من كهنوت المسيح. هذا هو سر الكنيسة. إنها “تتألف” حول هذا الكهنوت. إنها بمثابة وضع أو حالة ليتورجية، موجودة وكائنة بارتباطها واتحادها بحياة المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات. بل يمكن القول أن الكنيسة هي ليتورجيا دائمة، وذلك على صورة رئيسها ومؤسسها الذي هو في السماء في حالة ليتورجيا دائمة كما رأينا أعلاه. غاية الكهنوت بالنتيجة هي أن يفتح هذا العالم على الأبدية. وأن لا يقتصر وجود الإنسان على الأرض على ما في هذه الدنيا وحسب ويحرم من الحياة. “إن هيئة هذا العالم تزول”، وبدون الكهنوت الإنسان منذور أيضاً مع هذا العالم للفناء والموت. ولكن “الليتورجيا” قد تمّت. المسيح بذل نفسه فانفتح الزمن للأبدية أو بالحري انفتحت الأبدية على الزمن. والكاهن هو الإنسان الذي بنعمة المسيح يقف دوماً بين عالمين هما واحد في المسيح الذي “جمعهما” في ذاته. فانظروا ما أعظم سر الكنيسة وسر حياتنا فيها: نحن من هذا العالم وفي الوقت نفسه لسنا من هذا العالم. إننا نقرِّب إلى الرب هذا العالم الذي هو له، وذلك في حالة أفخارستيا دائمة. ولأننا نقرِّب هذا العالم إليه فهو يرسل إلينا عالمه، العالم الإلهي، نعمة الروح القدس، أي نعمة الحياة الإلهية. عندما قال يسوع لتلاميذه “أنتم ملح الأرض” لم يكن يقصد ملحاً أخلاقياً، على نحو ظهور نخبة من الأدباء والحكماء لإصلاح العالم بمثالهم الصالح وما إلى ذلك، بل كان يعني ملحاً آخر بالكلية إذ أنه يمنح العالم الملح الحقيقي الذي هو الروح القدس. “لأن كل واحد يملَّح بنار”(مر9: 49). سيملح هذا العالم بالنار، هي نار الروح القدس. الملح العادي يحفظ الطعام من الفساد ويعطيه طعماً جاعلاً إياه قابلاً للأكل ولحفظ الحياة. والملح الذي يحفظ العالم من الفساد ويعطيه معنى هو الروح القدس الذي نناله مقابل ذبيحة الليتورجيا. لقد أحبنا الله أولاً، ونحن تجاوباً مع حبه نُعطي ذواتنا له في الليتورجيا فيعطينا هو ذاته: يعطينا روحه القدّوس وذلك بواسطة الكهنة. فالكاهن بالتالي يحمل رسالة بل يُجسد رسالة، إنه لا يمثل نفسه بل يمثل أعظم منه: إنه مبعوث من قبل آخر: هو رسول. إننا لا نستطيع أن نفهم دور الكهنوت في الكنيسة ما لم نعمق مفهومنا لمعنى الوظيفة الكهنوتية، ولوضع الكاهن على حقيقته، في أصوله ما وراء المنظور، أي في أعماق الله حيث جذور الكهنوت: الكاهن رسول الله. إننا بالكهنوت نعود لأحضان الثالوث الأقدس لأن الكاهن يقبل ويلبي دعوة تأتيه من قلب الثالوث وبها يمدُّ رسالة المسيح المبعوث إلى العالم من حضن الثالوث. هذا أساس خدمة الكاهن الرسولية وهذا معناها:
إن لفظة رسول تحتمل معنيين: الأول يدلّ على نوع من همة ونشاط “رسوليين” ولكنه قد بدَّل المدلول الأصلي للكلمة وحطَّ من فحواها في وجدان الناس. فعبارة حياة “رسولية” أصبحت تعني حياة نشيطة، متّجهة نحو خدمة الآخرين. ليس هذا المدلول خطأ ولكنه يبقى جزئياً وخارجياً، كأن يقال مثلاً عن طبيب متفان مخلِّص أو عن مدرس أنه “رسول” أو أنه يتحلّى بروح “الرسولية”. فمن البديهي أن رسولية رسل المسيح تتجاوز هذا المعنى إذ أنهم يدعون رسلاً ليس لقيامهم بنشطات وخدمات شتى بل لقيامهم بأعمال قد أرسلهم آخر أعظم منهم لكي يعملوها. هذا أساس “الرسولية” وكنهها، لا ما نقوم به من خدمة إذ قد يستطيع أي إنسان أن يقوم بأية خدمة حتى بذل الذات دون أن يكون رسولاً. إن الرسولية تضفي معنى جديداً على أعمال الرسول لأن المسيح قال لرسله بعد القيامة: “كما أرسلني الآب أنا أرسلكم” (يو 20: 21). إن لفظة كما ليست هنا للمقارنة والتشبه بل هي تعني أن الرسل يواصلون عمل المسيح المرسل من الآب إلى العالم، إذ أضاف يسوع وقال لهم: “خذوا الروح القدس” (يو20: 22)، روح الله. إن المسيح هو الرسول الأول، رسول الآب للعالم بمعنى مطلق وفريد إذ أن الرسول هنا –ولأول مرة- لا يمثل من أرسله وحسب بل هو عينه إياه. فيه كل حضرة المرسِل بكامل فعلها وقوتها، بل فيه كل المرسِل. هنا يكمن ربما قلب سر الكنيسة الأرضية إذ أن رسوليتها هي انعكاس وامتداد للرسولية التي في داخل الثالوث الأقدس. ففي الثالوث الأقدس الآب الساكن “في نور لا يدنى منه” (1 تي 6: 16) هو بحسب تعليم الآباء مصدر الثالوث أي لجة المحبة والخصب الدائم والحضرة الغنية القصوى حتى أن اللامنظور الأول يعتلن مظهراً ذاته في الأقنومين الآخرين: “من رأني فقد رأى الآب” يقول المسيح (يو13: 9). إن إرسال الآب للابن ناتج عما في داخل الحياة الإلهية من ألفة حميمة جوهرية قصوى. في حياة الله الأكثر داخلية وسرية، خروج من الذات بدافع المحبة. فالله الآب الأزلي يلد أزلياً ابناً أزلياً هو صورة الآب الكاملة. إنه “كلمة” الآب يحمل في ذاته كل ما للآب. أما الآب الذي لا يحتفظ لنفسه بشيء يعطي الابن أيضاً تلك الإمكانية اللامحدود من المحبة. فمحبة الله هذه تستقر في الابن والابن يرتضيها. ولكنه أيضاً لا يحتفظ بها لنفسه (دون أن “يحتسبها اختلاساً”) فيسكبها بدوره داخل الثالوث حباً روحياً، يذهب نحو الروح، كفي دهش، فيتقبل الروح حب الآب للابن الواصل إليه ليرده بدوره للآب… غير أن هذا الفيض من الحب ضمن الثالوث يفيض إلى الخارج إذا جاز القول. فالحب بطبيعته لا يحدُّ بل يعبر عن ذاته تلقائياً حتى وإن في صمت. “الله سكوت” حسب قول المعلم أكهرت، ومن لجة السكوت هذه نبع الكلام. هكذا نور البرق قبل أن يضيء يكمن في السحب السوداء. وبقدر ما يكون التعبير عن المحبة متواضعاً تكون المحبة أقوى. فكان تعبير محبة الله التجسد والصليب بعُريه. المحبة لا تستطيع أن “تنفخ” بل تعرف بالعكس أن تبقى داخل القلب، في ذلك الصغر الحميم. الله اللامحصور يصير بدافع حبه محصوراً وقابلاً للحصر. إن بعض الآباء تكلموا في تأملهم في تدبير الله عن “انتزاع” الابن من الثالوث. إن كلمة الله يُنتزع من أحضان الثالوث، يخرج من حضن الآب إلى حضن العذراء. إذ وَجَد على الأرض تواضعاً قادراً على أن يسعه. والحقيقة أنه ليس تواضعاً ولا كبرياء بل هو تسليم. وهذه أولى صفات الرسولية وشروطها: حالة التسليم الكامل لله حتى يستطيع الله أن يأتي: فأتى المسيح إلى العالم كرسول الآب. وبذل ذاته عن البشر طاعة للآب وبهذا عَبَرَ اللجة التي تفصل بين الله وخليقته وملأها، فوجدت الخليقة فيه حضور خالقها، حضوراً محيياً وممجداً. وهذه الحضرة الإلهية فينا حقيقية وأصلية لدرجة أن بولس الرسول يقول: “فإنْ كنا أبناء فنحن ورثة أيضاً، ورثة الله وارثون مع المسيح” (أنظر رو8: 14-17). نحن ورثة بالتبنّي. أما المشترِك بالطبيعة في إرث الآب ومجده فيدعى أولاً رسول الآب وهو يدعو بدوره أناساً ليكونوا رسلاً له كما هو رسول الآب.
إن هذه الدعوة يدعوها الله منذ البدء. “من أرسل ؟” يقول الله في (أش6: 8). يدعو فيجيب أشعياء: “هائنذا فأرسلني”: إنها سرعة التلبية، وذلك على منوال إبراهيم أبي المؤمنين عندما قال له الله: “يا إبراهيم” فأجاب هائنذا فطلب إليه أن يُصعِد ابنه اسحق محرقة (تك22: 1 و2). أما الآن فقد جاء المسيح وأرسل أولاً الاثني عشر رسولاً الذين دعاهم دعوة فريدة خاصة. اضطرهم تقريباً إلى ترك حياتهم السابقة قائلاً لهم: “اتركوا شباككم فأجعلكم صيادي الناس…”. أما هم فسيرسلون بدورهم رسلاً بعد أن يمنحوهم نعمة الآب بوضع الأيدي فيبثوا فيهم كل معرفتهم وتسليمهم واضطرام إيمانهم.. وهكذا كانت الكنيسة “رسولية”. ولكن هؤلاء الرسل الأخيرين لا يمثلون الرسل الاثني عشر تمثيلاً خارجياً بشرياً وحسب. ليسوا رسل أناس لأناس ولا رسلاً كيفما اتفق بل بقوة المسيح بفعل الروح القدس نفسه، الأقنوم الخفي في الثالوث الأقدس. الروح القدس لا يظهر ذاته بل يحي وراء الإنسان ويحييه من الداخل على منوال إحياء النفس للجسد، إذ نحس بأننا واحد لا نفس وجسد. بالروح القدس يصبح الإنسان “روحياً” وذلك دون أن يشعر: أنه سر سكنى الروح فينا منذ المعمودية، أو منذ السيامة الكهنوتية: يحل فينا ليجعل منا رسلاً لله. هو الذي يصلي فينا، ويئن أو يتكلم. وبالتالي الإنسان غير مهم هنا. الإنسان مهم بقدر عدم أهميته، أعني بقدر ما يعرف أن يمحي ويتخلى عن ذاته ليفسح مكاناً للآب. إن الاثني عشر رسولاً كانوا شهوداً للرب حتى النهاية، حتى الموت. الكنيسة مبنية على “الرسل” ولكنهم أيضاً شهداء. بل من مقومات الرسول أن يكون شهيداً. فقد أرسلهم الرب “كخراف وسط ذئاب” (متى10: 16). وهم يشهدون لا بكلامهم أولاً بل بكيانهم المملوء ممن يشهدون له: الله هو الذي يشهد للسر فيهم وموت الشهادة ذروة وتتويج للحب وحسب…”ليس من حب أعظم من أن يبذل المرء نفسه عن أحبائه” (يو15: 33): بهذه البساطة. فالكنيسة بالنتيجة لم تنتصر عن طريق الكرازة الشفهية بل عن طريق الدم المهراق ثمناً للظفر: “الكنيسة التي اشتريتها بدمك الكريم” (نشيد كنسي). وانسكاب دم الشهداء هو مواصلة وامتداد لانسكاب دم المسيح، لأن دم المسيح فينا، نأخذه في سري المعمودية والشكر، وعندما نستشهد نسكب دم المسيح. وقد قال ترتوليانس: “كلما قتلتم أناساً منا كلما ازددنا وانتشرنا لأن دم الشهداء هو بمثابة زرع…” فالراهب راهب لأنه يعتنق الصليب لا ككلام بل كأداة تحويل كياني. يروى أنه لما بلغ المبشرون المسيحيون إلى سويسرا في القرن الثاني كان أحدهم “وقد أصبح أول شهيد وقديس فيها” يردد أمام الشعب إن الفرح الأعظم هو أن يموت الإنسان من أجل المسيح فقتله الشعب إرضاء له وتلبية لرغبته.. ثم تأثروا بشهادته واهتدوا إلى الإيمان بالمسيح.. ما هو كنه شهادة الرسل للرب أمام الناس؟ هو الشهادة لحياته على الأرض بل الشهادة لقيامته، بأنه قام من بين الأموات. وهذه القيامة التي يشهدون لها ليست أمراً عاماً مجرداً بل هي قيامة شخص معين، قيامة واحد من الناس هو المسيح. لما ظهر الرب لبولس على طريق دمشق قال له: «أنا يسوع الذي أنت تضطهده”. فعاين بولس الرب القائم من بين الأموات ومنذ تلك اللحظة صار رسولاً. والكاهن الذي هو أحد رسل المسيح يكمن سره كله في أنه يحيا في ألفة المسيح القائم من بين الأموات. إنه يشهد للمسيح عن طريق حياته الصميمية مع المسيح المنبعث من الموت. وعندئذ يتحقق القول: “الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني” (لو10: 16). ذبيحة المسيح قد ولدت الكاهن وهو مدعو لأن يكمل تلك الذبيحة. إنه يرفع بيديه القرابين المقدّسة التي هي تقدمات الكنيسة وفي الوقت نفسه هبة الله أي روحه القدوس، وهكذا يكمل “الرسالة” بصيرورته رسولاً للآب وللابن وللرسل أي أن رسالته هي استمرار مباشر لرسالة الابن والرسل، والتي هي خدمة المجد الأخروي الأبدي (أنظر2كو3: 7-11).
غير أن التناقض الأخير هو الكاهن في خدمة لذلك المجد الإلهي الذي خبر عنه الابن الآتي من حضن الآب وأعلنه بذبيحته وقيامته يواصل باتضاع سكبه ونشره سرياً في العالم. إنه مجد خفي لا يعرفه العالم. ولكنه يسطع من وقت لآخر إذ هو في العالم. فنشعر حينذاك “بالسلام الذي يفوق كل عقل”، سلام “السبت”، يوم الراحة، سلام “اليوم الثامن”. إننا نعاين بالإيمان منذ الآن في لحظات النعمة مجد سكنانا المقبلة مع الآب. وهذا هو فرح الكاهن العميق. ولكن هذا هو أيضاً صليبه، إذ الفرح والصليب لا ينفصلان إلى الأبد. إن الكاهن لا يستطيع أن يستولي على تلك القوة وذلك المجد، بل هو دائماً مرذول ومضطهد، يسلَّم للموت لكي تعطى الحياة للناس، إذ له هذا الكنز في إناء خزفي ليكون فضل القوة لله لا منه، مكتئباً في كل شيء لكن غير متضايق، متحيراً لكن غير يائس، مضطَهداً لكن غير متروك، مطروحاً لكن غير هالك، حاملاً في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع… (أنظر2 كو4: 7-12). ذلك هو سر “الرسولية”، سر الله..
روح وحياة: سر الكهنوت والحياة الداخلية
نصل الآن إلى وجه آخر من أوجه الملكوت، إلى وجه عميق وقريب منا نفهم معه حقَّ الفهم روحانية الكهنوت والكاهن: فرحة وتضحيته، كرامته وهزالته، خدمته وأبعادها…
أ-ثمار كهنوت المسيح هي الروح والحياة
لقد أعطانا المسيح الروح، ولم يكن هذا العطاء الإلهي الأخير سوى ثمرة ذبيحة المسيح على الصليب، أي ثمرة كهنوت المسيح: “إن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجِد بعد” (يو7: 39): أي أنه لم يكن قد صلب بعد: “أتت الساعة، مَجِد ابنك” (يو17: 1). ولقد تمّ هذا الكشف الأخير عن ألفة الله مع الناس من خلال جسد المسيح على الصليب. كان المسيح مملوءاً من الروح. فكل كلمة من كلماته كان يقولها بالروح وكل عمل من أعماله كان يعمله في “الروح”، وذلك طبيعياً: لقد نال “مسحة” الروح منذ تجسده. إن “المسحة” وردت في العهد القديم بمثابة علامة لكرامة جديدة تنسكب على الرأس ومنه على كل الكيان فالدهن الذي يمسح به المرء ينسكب عليه وهذا رسم لقوة الروح السرية أعني الانسكاب والانسياب والتغلل.. أما الآن فنرى الروح لأول مرة في كل ملئه في جسد المسيح. لم يكن الروح قبلاً في ملئه في العالم (بعد الخطيئة الجدية) إذ لم يكن هناك كائن نقي وشفاف، مطواع ومتواضع يستطيع أن يستقر فيه الروح. كان الروح يعمل من الخارج وبطريقة عنيفة أحياناً إذ يضطر خدام الرب إلى العمل بوحيه رغماً عنهم. فالخطيئة في الأساس هي “ضد الروح”، ولذلك نتيجتها الموت. لقد تقسّى آدم ضد الله واختار ذاته عوض خالقه، فانسحب الروح. أما الروح المنسحق “فلا يرذله الله” (مز50: 17). هناك في العهد القديم رسوم “ظلِّية” للروح: مثال مرنم المزمور الخمسين ومثال “عبد يهوه” المنسحق في سفر أشعياء (الإصحاح 53). فالروح ثمرة الانسحاق وانكار الذات والتخلي عنها ولذا هو ثمرة الصليب. فقد انسحب قديماً لما أراد آدم الأول أن يرفع نفسه متعظماً، ثمّ عاد فأتى لما وضع نفسه يسوع آدم الجديد. اتضع طوعاً حتى موت الصليب فأفاض الروح. إن الروح والتواضع كما نرى متلازمان على الدوام.
ب- إن ثمر كهنوت المسيح السماوي أيضاً هو الروح
بعد ما قال الرب يسوع في انسحاق أقصى وأخير: “أنا عطشان” وأعطوه خلاً ليشرب (والخل عكس ما يروي العطش) قال: “قد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح” (يو19: 28-30) لفظ النفس الأخير الذي يسبق انسكاب الروح. فقد أسلم روحه للآب الذي منه ينبثق الروح. أما جسده (وهذا يبقى سراً) فقد قام من بين الأموات مليئاً بالروح وصعد بمجد إلى السماء. وهذا الصعود المجيد هو الاستمرار والتكملة المباشرة للانسحاق وإفراغ الذات على الصليب. إن مجد يسوع يبدأ عند كمال انسحاقه. الصليب والصعود متداخلان: “وأنا متى ارتفعت عن الأرض جذبت إليّ الجميع” (يو12: 32). فإن أقصى التنازل والاتضاع يؤول إلى أقصى التمجيد. إننا هنا أمام حقيقة من نار وهي أنه منذ أن “صعد” الرب إلى السماء (بحسب مفهومنا الأرضي وتعبيرنا) ببشريته الممجدة تمّ السر الكبير فصار “المقرِب (بكسر الراء) والمقرَب (بفتح الراء)” وبدأ كهنوته السماوي أعني عمل الذبح السري المستيكي “دونما ألم جسدي”. ففي مجده يتشفع بنا متعطفاً، وآلامنا كلها فيه ليست بعد بشرية فقط بل إلهية وبشرية. المسيح هناك في السماء لأنه صعد ولكنه هنا أيضاً لأنه بكهنوته السماوي أرسل لنا روحه. وهكذا نفهم قوله إلى تلاميذه قبل الآلام: “خير لكم أن أنطلق” (يو16: 7)، “لقد ملأ الحزن قلوبكم” (يو16: 6) “ولكن إن كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني ذاهب إلى الآب” (يو16: 16)، وإن انطلقت أرسل اليكم المعزي (أنظر يو16: 7). وهذا الروح “يشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1 بط1: 11). فالروح إذن استمرار للرب، إنه يمده إلينا، يبقيه حاضراً، بل يجعله حاضراً حضوراً أكثر حقيقة وألفة من حضوره السابق في الجسد. يمكن القول إنه منذ صعود الرب وانحدار الروح صارت حضرة الرب أكمل وأنقى من حضرته أثناء حياته على الأرض وذلك لأن الروح الذي فينا الآن يجعلنا نطلب المسيح حيث يجب أن نطلبه أعني فوق، في السموات جالساً مع الآب (وليس مادياً وعالمياً). “طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يو20: 29) وذلك لأن إيمانهم أنقى، إذ ليس هو مبنياً على براهين حسية تبقيني هنا على الأرض بل هو إيمان من نوع آخر يتجاوز الإيمان نفسه. وحينئذ ذلك الإيمان “يغلب العالم” (1 يو5: 5). “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو7: 38) الذي هو الروح القدس. ولذا فالأفضل لكم أن أنطلق. ولذا لا تضطرب قلوبكم.. بالروح القدس يدخلنا الرب في وضع جديد، في وضع من القوة والنور والحضرة الجديدة…
ج-الروح استمرار للمسيح بيننا
«أما الرب فهو الروح” (2 كو3: 17). والروح هو الذي يعطينا المسيح إذ “لا يقدر أحد أن يقول أن يسوع رب إلا بالروح القدس” (1 كو: 3): أما حضور الرب هذا بالروح فهو أولاً في الكنيسة حضرة بواسطة الأسرار المقدّسة. إنها حضرة بشرية وإلهية في آن واحد على مثال الرب نفسه. ففي الكنيسة (كما هو واضح) واقع إنساني منظور لأن الكنيسة قائمة من أجل الخطأة ومع الخطأة. ولكنها تغلب الخطيئة لأنها تقتني روح الرب. لقد تأسست يوم الصعود: عندما عاين الرب الكنيسة قد ائتلفت على الأرض فصعد إلى السماء، ثمّ يوم العنصرة: عندما نزل الروح ليوحد جسد المسيح الجديد هذا ويؤلهه فألف من البشرية الكنيسة. فكما كان الروح يستقر في المسيح فهو يستقر الآن في الناس في جماعة الكنيسة، ولذا فالكنيسة هي سر بل هي محل الأسرار، هي السر الأصلي والأول. يقول القديس لاون الكبير: “إن ما كان في المسيح جسدياً هو قائم الآن في الأسرار الكنسية”. ويقول كبازيلاس: “الأسرار الكنسية هي الطريق الذي رسمه الرب والباب الذي فتحه بمجيئه، ولما عاد إلى الآب لم يغلقه بل بمروره فيه أعده للناس. بل المسيح هو بيننا بروحه كل الأيام إلى انقضاء الدهر، وذلك تتميماً لوعده وأمانة له”. فالروح هو ختم وعد المسيح.
د-الروح هو الذي يُجري عرس الحمل والعروس
هو الذي “يرتب” العرس فيفرح العريس. في سفر الرؤيا نشاهد عرس الحمل المذبوح (رؤ4 و5): إنه بالتالي عرس الذبيحة، عرس حب، “والخدر هو الصليب” على حدِّ قول الذهبي الفم. أما العروس فهي الكنيسة (وذلك بالمعنى المزدوج أعني جماعة الجسد الواحد، وأيضاً كل نفس شخصيّاً لأن كل منا هو الكنيسة: هي واحدة في كثيرين وكلها في كل واحد بصورة سرية). في أيقونة الشفاعة (يوم القيامة والدينونة العامة، حيث علامة الصليب هي المجد الذي يحيط بالمسيح، لأن المسيح “يدين” العالم في اللقاء الأخير النهائي بين الله والخليقة كونه ذُبح من أجل العالم) نرى يوحنا المعمدان “صديق العريس” واقفاً إلى جانب المسيح والعذراء: فمقابل العذراء التي تمثل الخصب الكامل وتحقيق ملء الكيان بالاتحاد الكلي مع الله، يوحنا يمثل العري الكامل وهو الذي “ينقص” ويتوارى أمام الإله الآتي مع أنه الصديق الأليف. فدوره فريد، يمثل الصورة الأخرى للشفاعة في التخلي والتواري (إنه صورة الراهب المنسحق المسكين يشفع بالكنيسة منطبقاً مع الروح).
هـ-عمل الروح في الحياة الشخصية، داخل هيكل القلب (في الكنيسة بمعنى كل شخص)
ليس للروح في عمله هذا أسم نسميه به من أسماء البشر: إننا لا نعرف من أين يأتي وهو يهبُّ حيث يشاء (يو3: 8). فالله هو روح (يو4: 24) أي أنه لا يُمسك ولا يُضبط. وتلك الحرية هي حرية الرب نفسه، حرية العطاء الكامل، حرية عشقية يعطي الله ذاته بموجبها للإنسان عطاء أخيراً، عطاءً عميقاً لدرجة أن الله في الروح وبالروح ينطبق مع من يتقبل العطية، الله يمحي وراء عطيته الروحية. ولذا فالروح مقيم دائما في شخص آخر ومن هناك يغيره، من الداخل فقط. إننا بالروح نحيا وبه نعرف وبه نحتفل ونبتهج بالرب. “وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم» (يو14: 17). إن روح الله يزور روح الإنسان ويسكن فيه فيتجدد: “أن تتجددوا بروح ذهنكم” (أفسس4: 23)، (رو8: 16) أي يتّحد مع روحنا ليشهد، “ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها”” (رو8: 26)، “وبه نصرخ يا أبا الآب” (رو8: 15)، لأن “من التصق بالرب فهو روح واحد” (1 كو6: 17). وذلك الالتصاق هو التصاق كلي لدرجة أننا لا نعود نفرق بين روح الله وروح الإنسان فينا، فيحتار المفسرون مثلاً في تفسير العبارة “حارين بالروح” في الرسالة إلى أهل رومية (رو12: 11) أو العبارة الواردة في الرسالة الثانية إلى أهل كورونثوس: “نظهر أنفسنا كخدام الله.. في الروح القدس” (2 كو6: 6).. ولذا ينبغي علينا أن نميز الأرواح وألا نطفئ روح الله فينا. إذ هناك أرواح تقاوم الروح، تقاوم حرارته ومحبته.. فتطفئه. في حين أن كل طريق الإنسان الروحي يمر بالروح لا محالة. من البديهي أن الإنسان الروحي ينمو بالروح علماً بأن عمل الروح فينا عمل رقيق كل الرقة، فعلينا أن نقابله بثقة واستسلام واطمئنان لكيما نولد بالروح. هكذا تتم ولادة الإنسان الروحي في الكنيسة، أي بالنتيجة ولادة الكنيسة، ولادة الروح في الكنيسة (إن دعوة الراهب هنا أيضاً تجد لها مكاناً إذ عليه أن يكون متشحاً بالصليب ومن خلاله بالله، حاملاً الصليب وحاملاً روح الله).
و- عمل الروح في جماعة الكنيسة
الكنيسة تولد بالروح، ومن خلالها تتم ولادة البشرية الجديدة التي أشار إليها الرب يسوع في حديثه مع نيقوديموس (يو 3: 1-8). عند خلق البشرية في البدء نفخ الله من روحه في آدم. أما مجيء الرب يسوع آدم الثاني فالروح يأتي ويحي لا إنساناً فرداً بل البشر كجماعة، وذلك على الدوام وإلى الأبد. إن الروح يحقق عمله التوحيدي هذا في الكنيسة لأنه يحولنا فيها إلى المسيح فنصير فيه جسداً واحداً وروحاً واحداً (أفسس4: 4). إن المسيحي الذي يسكن فيه الروح يكون متّحداً مع كل الناس، لا يستطيع أن يبغض أحداً ولا أن يفصل ذاته عن أحد ولا أن يحتقر أحد.. إن إحساسنا بمشاعر البغض وأمثاله في سياق نضالنا الروحي ضد الأهواء لا يؤلف بحد ذاته خطيئة بل يعني بالعكس أننا في طريق التغلب عليها، نحن في مسيرتنا نتغير إلى صورة الرب “كما من الرب الروح” (2 كو3: 18). فهذا التغيير هو من مواهب الروح. والروح في عمله هذا يتطابق من الداخل مع مختلف مواهب الطبيعة ليجعلها فائقة الطبيعة، وبذا تسهم بأجمعها في بناء ملء جسد المسيح. وليس كل ما يتقلده الكاهن بكهنوته سوى خدمة الروح هذه بغية إبقاء حضور الرب في الكنيسة، وذلك بواسطة الأسرار المقدّسة، والكرازة، وحضرة الإنسان الجديد، بالروح المحيي الذي يجب أن يكون فاعلاً فيه. وهذا هو بالضبط معنى وضع الأيدي على الكاهن عند سيامته: دعوة للحياة بالروح لأجل خدمة الروح. فالكاهن يتولى خدمة الروح في علامة بركة وتكريس على منوال وضع الأيادي على الكبش في ذبائح العهد القديم بغية جعل الخطيئة في الكبش. إنها علامة توحيد الكاهن مع المسيح الرافع خطيئة العالم، إذ نحن “مسحاء”، وأيضاً علامة امتلاك الروح للكاهن وقد أصبح هذا أداة له: “ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون” (مر16: 18) كما وضع حنانيا يده على شاول لكي يبصر (أعمال9: 12) وبولس على أبي بوبليوس مقدم جزيرة مالطة فشفاه (أع28: 8).
(رهبنة مار جرجس الحرف)