خطيئة “أصليّة” أم “جَدِّيّة”؟
رافقت مؤخراً كتاباً يسرد فيه المؤلِّف رحلة اهتدائه من اليهوديّة إلى المسيحيّة الأرثوذكسيّة مروراً بالمسيحيّة الغربيّة، البروتستانتيّة منها بخاصّة. لفتني عرضه لمسألة سقوط الإنسان الأوّل، آدم وحوّاء، وتبعاته، وتالياً مفهوم الخلاص الذي أتمّه الربّ يسوع المسيح.
فيما يستعرض المؤلِّف النظريّات اللاهوتيّة الغربيّة بهذا الشأن، يقول إنّ ثمّة تشابهاً شديداً لفته في طريقة تعاطي الله مع الجدَّين الأوَّلَين، بخصوص خطيئتهما، ومجتمع الفروسيّة الذي كان سائداً في أوربة القرون الوسطى.
تصوِّر هذه النظريّات اللهَ بالساخط والناقم على الإنسان، والمحتاج إلى من يدفع ثمن خطيئة الجدَّين الأوَّليَن لكي “يبرد غضبه”. كما تعتبر أنّ كلّ الجنس البشري مشمول، وراثيّاً، بذَنْب خطيئةِ جَدَّيه. لا يمكنك إلا أن ترى في هذا المفهوم انعكاساً لمفهوم الثأر وغسل الذنب بالدم، وهو ما كان عُرفاً سائداً في الغرب آنذاك.
أخذتني هذه القراءة إلى انعكاس ثقافة البشر وعقليتهم على مفهومهم لله. فالتاريخ البشري مليء بمحاولات فهم الإله وإدراك سبله وطرقه وسلوكه مع البشر. كم يُسقِط الإنسانُ صورتَه على الله فيقزِّم الصورة الإلهيّة ويمسخها!! حتّى المسيحيّة سقطت بشريّاً في هذا الفخّ على الرغم من أنّ لاهوتها قائم على كشف الله عن ذاته في يسوع المسيح، وتالياً هي بعيدة، من حيث المبدأ، كلّ البعد عن التنظير البشري في الله!!
محاولة الإنسان فهم الله أمرٌ مغروسٌ في كيانه. فصورة الله التي في الإنسان لا تزال تنشَدّ إلى أصلها الذي لم تعد تعرفه بعد السقوط من الفردوس.
من هنا ترى مفاهيم كثيرة مغلوطة لكنّها منتشرة بين المؤمنين، ما يستدعي الكنيسة إلى تصحيحها وتقويمها على الدوام. ويعتبر مفهوم “الخطيئة الأصليّة” من بين أهمّ هذه المفاهيم المغلوطة. فالمفهوم السائد عند معظم المؤمنين هو المفهوم الغربي الذي بدأ الغرب المسيحي، بعد اكتشافه آباء الكنيسة الشرقيّة، يبتعد عنه، بتفاوتٍ بالطبع.
ثمّة اختلاف كبير بين تعبيرَي “الخطيئة الأصليّة” و “الخطيئة الجَديّة”.
يستعمل الغرب تعبير “الخطيئة الأصليّة” الذي يُعتبر “المغبوط أُغسطين” أوَّل من أوجده. [نلفت هنا إلى أنّ أُغسطين قدّيسٌ في الكنيسة الكاثوليكيّة، بينما ثمّة جدالٌ بشأنه عند الأرثوذكس. فمعظمهم يعتبره مغبوطاً فقط].
يُعتبر أُغسطين من أبرز الوجوه الكنسيّة. ولكون اللاتينيّة لغته، فقد ترك أثره على الفكر المسيحي الغربي بشقيّه الكاثوليكي والبروتستانتي بشكل كبير، حتّى دُعي أبو اللاهوت الغربي.
يدلّ تعبير “الخطيئة الأصليّة” على خطيئة آدم وحوّاء التي تصوّرها الرواية البيبلية بالأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ. هذه الخطيئة، بحسب المفهوم السائد، خطيئة أصليّة لأنّها الخطيئة الأولى وقد تأصلت في الجنس البشري وانتقلت إليه مع عواقبها وعقوباتها. فحمل جميع البشر وِزرها وذنبها وصار لزاماً عليهم التكفير عنها. لكنّهم بسبب سقوطهم من الفردوس لم يعودوا قادرين على القيام بالتكفير المطلوب، ما استدعى الله إلى أن يقوم بالتكفير لنفسه نيابة عنهم.
تطوّر هذا التعليم في الغرب وتشعّب وقال في الخلاص الذي تمّمه المسيح ما يختلف عمّا يقوله الشرق المسيحي. كان الأب الماروني ميشيل الحايك يعتبر أنّ الجمعة العظيمة تطبع المسيحيّة الغربيّة، بينما أحد الفصح يطبع المسيحيّة الشرقيّة.
ساهم تفسير وراثة “الخطيئة الأصليّة”هذا في توسيع الخلاف الإيماني بين الشرق والغرب في ما بعد، والدخول في هذا المجال يخرج عن نطاق مقالة قصيرة، لأنّه يحتاج إلى صفحات.
ساد التفكير القانوني في الغرب بعد القرن الحادي عشر، ما أدخل منطقاً قانونيّاً قضائيّاً في تفسير اللاهوت المسيحي وخلاص المسيح بخاصّة. فاستناداً إلى مفهوم الذَنْب الموروث من الجَدْيَّن الأوَّلَين دخل منطق المديونيّة، فاعتُبر الإنسان مديوناً لله ويحتاج، من أجل الحصول على الغفران، إلى تسديد هذا الدَين، وبما أنّه عاجزعن القيام بذلك، بسبب سقوطه من الفردوس، أتى المسيح ليسدّده نيابة عن البشر كلّهم.
أمّا الشرق المسيحي، فيستعمل تعبير “الخطيئة الجديّة” للدلالة على الخطيئة التي ارتكبها الجَدّان الأوَّلان لا أكثر. جوهر هذه الخطيئة، بحسب اللاهوت الأرثوذكسي، هو رفض العيش مع الله والرغبة في أن يصير الإنسان إلهاً من دون الله، وإصراره على موقفه. وهي ذاتها لا تزال خطيئة البشر حتّى اليوم.
ولأنّ الله مصدر الحياة ومنشؤها، خسر الإنسان الحياة عندما ابتعد عن الله ودخل الموت إلى كيانه. تشوَّهت صورة الله في الإنسان نتيجة إظلامها بالبعد عن خالقها، ما أنتج صراعاً بين الخير والشرّ في داخله. يختبر الإنسان الساقط هذا الصراع على الصعيد الشخصي، في داخله، وعلى الصعيد الخارجي، في علاقته مع البشر والخليقة بعامّة.
أدّت خطيئة الجَدَّين إلى إعطاب طبيعة الإنسان المخلوق لكي ينمو ويكبر في كنف الله ويصير إلهاً بالنعمة. فنقل الجَدَّان إلى أولادهما، وتالياً إلى الجنس البشري، هذه الطبيعة المعطوبة. لا يرث الإنسان بولادته ذَنْباً ارتكبه جَدّاه، بل يأتي إلى هذا العالم حاملاً طبيعة معطوبة، أي قابلة للخطيئة، كطبيعة والديه.
هذا ما يقصده المزمور الخمسون في قوله: “هاأنذا بالآثام حُبل بي وبالخطيئة ولدتني أمّي”. ليست العلاقة الجسديّة بين الوالدين هي المقصودة ولا وراثة ذَنب آدم وحوّاء.
لا يقول اللاهوت الشرقي بأنّ المعموديّة “تخلًّصنا من الخطيئة الأصليّة” لأنّه، ببساطة، ما من “خطيئة أصليّة” أساساً. بل يقول إنّ المعتمد يولد، بالمعموديّة، ولادةً جديدة روحيّة تجعله ابن الله وتزوّده بالنعمة الإلهيّة التي تمكّنه، إذا أراد، من مقارعة الشرّ والشرّير والعودة إلى الحالة الأولى التي خلقه الله عليها.
بهذا المعنى يفهم اللاهوت الأرثوذكسي فداء المسيح. فلا يستعمل لفظة “الكفّارة” إلا نادراً. فالمسيح أتى ومنح البشرَ، بالخلاص الذي تمّمه، القدرةَ على النهوض من طبيعتهم المعطوبة والعودة إلى طبيعة ما قبل السقوط.
لا يرى الشرق المسيحي في الأمر دَيْناً وَجَب تسديده أو عقاباً وَجَب إنزاله بالإنسان ولا غضباً إلهيّاً وَجَبت تهدئته. وقد بدأ بعض الفكر اللاهوتي الغربي المعاصر بالميل إلى هذا الاتجاه، بعد اكتشافه آباء الكنيسة الشرقيّة.
الله سرّ لا يُدرك إلا عندما يكشف عن ذاته بالقدر الذي يستوعبه الإنسان المتقبّل كشفه. لذلك فاللاهوت الحقّ (علم الإلهيّات) وليد الاستنارة الإلهيّة التي تنير ذهن الإنسان المتطهر، وليس وليد كليّات اللاهوت.
إن كنتَ ذا قدرات عقليّة تستطيع استخدامها في صياغة خبرة الكشف الإلهي هذه والتعبير عنها. أمّا من دونها، فستقع في فخ صياغة إله على قياسك، وتكون على شفا الوقوع في الانحراف والهرطقة. طهّر نفسك باستمرار لينيرك الله بقَبَس منه، فتدرك ما لا يمكن إدراكه من دونه.
(المتروبوليت سابا اسبر راعي ابرشية بصرى حوران وجبل العرب)