في ظل الاستهداف الصهيوني لكل ما هو فلسطيني، نال المسيحيون في فلسطين على مدار عقود نصيباً وافر من المنكرات والاعتداءات، طالتهم وطالت مقدساتنا وكنائسنا الفلسطينية عموماً والمقدسية خصوصاً منذ 1948 وحتى اليوم وأدت إلى طرد معظم المسيحين من مدنهم وقراهم وهجرة قسم آخر تحت وطأة الاحتلال البغيض، وصمود قسم ثالث في ظروف سياسية وأمنية واقتصادية قاسية.
فنتيجة لقيام هذا الكيان الدخيل تعرض الفلسطينيون عموماً، والمسيحيون خصوصاً، وبالأخص في القدس المحتلة لضغوط شديدة في حياتهم الاقتصادية والسياسية وممارستهم الدينية فضلاً عن سلب أراضيهم ومنازلهم، وتهجير غالبيتهم إلى الضفة الغربية ومنها إلى المحيط العربي وإلى الشتات، والاستيلاء على ممتلكاتهم ومصادرتها، والاعتداء على مقدساتهم بكل بشاعة وغرور…
ولكن لم نال المسيحيون كل هذه المنكرات من دويلة الاحتلال والمتهوسين المتعصبين اليهود لتهجيرهم خارج فلسطين؟
والجواب هو لأن المسيحية وفق عرف اليهودية قامت على أنقاض اليهودية بعد السعي لتدمير ديانتهم هذه، لذا تجندت اليهودية عبر نيف والفي سنة مسيحية للقضاء على المسيحية من الداخل، ونحن وفي صلواتنا وسيرة آلام ربنا الخلاصية نتحدث بوضوح عن مؤامرة اليهود لقتله وقد انموا المؤامرة، وهذا مما يؤرقهم وقد سعوا كثيراً للحصول على التبرئة من دمه، ونحن في كنيستنا الأرثوذكسية لن نبرئهم لذلك كانت الاضطهادات بحقنا افدح، وليس اكره لدينا ان يقف الجنود الصهاينة المدججين بالسلاح يحرسون القبر المقدس حين انبعاث النور المقدس منه يوم سبت النور.
اما لماذا تناقص عدد المسيحيين بشكل مخيف في فلسطين من 13،3% عند وعد بلفور ونكبة فلسطين إلى أقل من 3% اليوم؟ فهو بسبب هذا الاضطهاد بكل أشكاله، وهو اضطهاد مخفي غير معلن! هذا من جانب، ومن جانب آخر،لأن نسبة المواليد عند المسيحين كما هو معلوم أقل بكثير من اشقائهم المسلمين… لذا كان الانخفاض الحاد في هذه النسبة وفي الوجود المسيحي الفلسطيني /وخاصة في القدس/ الذي ان استمر مع الهجرة السنوية لهم خارج الأرض المحتلة، سيصبح المسيحيون في القدس مجرد بضعة رهبان في قلالي رهبانية بعد أقل من ثلاثة عقود قادمة.
وإذ لم يتبادر العالم كله لدعم صمود المقدسيَّين المسيحيين خصوصاً والفلسطينيين عموماً سيتلاشون ويبقون مجرد ذكرى وأثرٌ بعد عين… تشهد لهم أديرتهم وكنائسهم بأنهم كانوا يوماً أصحاب الأرض يمتدون مع الرب يسوع، ومن باعثي نهضتها الفلسطينية، ومن رافعي لواء فلسطين في التيه العالمي وبعدها ذابوا في هذا التيه…
ليس خافياً على أحد، حتى الجنينْ في حشا أُمه، أن يُدركْ كُنْهَ الترابط العضوي بين المسيحية وفلسطين وقدسها، وهي قدس الأقداس، ومكانتها هي المكانة ذاتها لدى مسيحي المشرق عموماً، وأؤكد لمحبنكم أن الوجود المسيحي الذي صار متأزماً، لا بل شديد التأزم فيها، لدرجة الكارثيةْ إلا بسبب ممارساتِ الاحتلال الصهيوني والباغض اساساً وجذرياً للمسيحية ولوجودها في القدس وفلسطين ومشرقنا كما اسلفنا.
ثمة تواؤمْ بين موجات التكفير الإرهابي المقتلع للمسيحيين من العراق وسورية ولبنان ومصر… وسائر المشرق والإرهاب الصهيوني المقتلع للوجود المسيحي من فلسطين، فهم وجهان لعملة واحدة تبغي افراغ المشرق وبضمنه فلسطين وهي قلب المشرق من هذا الوجود المسيحي المتنور فافراغ المشرق من هذا الوجود الحضاري المتنور بشهادة اخوتنا المسلمين يعني أظلمة المشرق.
نحن في قلب الكرسي الانطاكي المقدس، هذا الكرسي الوطني الذي يجسد معاني الوحدة والمحبة ومواجهة الظلم والاحتلال والتكفير ممَثلاً بأحباره من بطاركة ومجامع مقدسة ومطارنة ورعايا… زمنذ وعد بلفور 1917 واتفاقية سايكس-بيكو قبله، حملنا ونحمل هذا الهم على الدوام، ومن باب الذكر بفخر، أن مثلث الرحمات البطريرك الكسندروس طحان كان من المجيشين لجيش الانقاذ عام 1948 وبالرغم من فقر انطاكية مده بكل ما استطاع من مقومات ودعم، وكذلك فعل في العدوان الثلاثي على مصر 1956 وكانت اسرائيل معتدية على مصر مع بريطانيا وفرنسا. كذلك فعل مثلث الرحمات البطريرك الياس معوض بطل مؤتمر لاهور الاسلامي عام 1974 في كلمته القصيرة والبليغة عن القدس باسم المسيحين العرب وعنوانها “القدس” : “…إذا خسر المسيحيون والمسلمون بيت المقدس فإنهم يخسرون معنى وجودهم، معنى رسالتهم في الأرض، معنى إيمانهم السماوي.
بيت المقدس هي سلمنا الروحي الذي انتصب في قلب التاريخ ليرفعنا إلى مافوق التاريخ ليجعلنا بشراً متالهين…” وكان اجماع قادة العالم الإسلامي على تسمية هذا البطريرك العظيم بطريرك العرب.
وكانت القدس بوصلة مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس هزيم وبدوره وبعد كلمته الرائعة في مؤتمر الطائف الإسلامي تجدد الاجماع بمنحه تسمية بطريرك العرب ولخلفائه…
كان البطريرك هزيم يحمل بوصلته فلسطين معه في حله وترحاله، و ويرفع الصوت مدوياً من اجل حقوق شعبها بدولته المستقلة والقدس عاصمتها، ووحق العودة لشعبها المنكل به، وكلماته تشهد:” أنا اعتز بأن أكون من المدافعين عن القدس.”
وغبطة البطريرك يوحنا العاشر بدوره نقل مأساة فلسطين، كما مأساة سورية وسائر المشرق إلى كل العالم، مع كل الرئاسات الروحية والزمنية وخاصة عندما اعتلى منبر الأمم المتحدة منادياً ومطالباً بإحقاق الحق عموماً ومنبهاً المجنمع الدولي الى أهمية هذا الوجود المسيحي المهدد بالاقتلاع من جذوره مطالباً بالضغط على كل القوى لبقاء هذا الوجود المسيحي النيّر والخيّر في المشرق مندداً بالصمت الدولي المريب بخطف مطراني حلب بولس ( الروم اﻻرثوذكس) ويوحنا ( السريان اﻻرثوذكس) والكاهنين اسحق وميشيل وسواهم بعد ذبح عدد من الكهنة كالنعاج مع عشرات المسيحيين الذين ذبحوا قرباناً لمسيحيتهم،
وما قولة غبطته المشهورة دائماً :” للمسيحية مهدان : مهد جسدي وهو فلسطين وقدسها حيث ولد ومات فيها السيد له المجد ومنها صعد إلى السماء، وبفلسطين أسس كنيسته، ومهد روحي فكري للمسيحية هو سورية والمشرق ومن دمسق تحديداً كانت انطلاقة المسيحية الى كل العالم المعمور وقتها”.
قواسم مشتركة لا تعد ولا تحصى تجمع بين دمشق والقدس، فكلتاهما دوحة في أرض واحدة، ومنارة من منائر الروح والحضارة الإنسانية والنضال المشرف في سبيل الحق. وكان اول المناضلين في سبيل ذلك معلمنا الإلهي يسوع المسيح الذي صلبوه وقتلوه لانه دافع عن الحق والإنسانية…
من فلسطيننا المقدسة وقدسها انطلق ركب الحرية والخلاص إلى العالم، منها ينطلق شعب فلسطين الأبي وبالذات مسيحيوها كما ينطلق مسيحيو المشرق يحملون الصليب، صليب الحق المهدور في وطن المسيح الأرضي، ومساحة جوّلانه ليركزه في القلوب والضمائر ليطرح قضية هذا الانسان المسيحي الفلسطيني المعذب سواء في القدس أو المسيحي في أي مكان في هذا المشرق الذبيح ابن هذه الرقعة المقدسة التي اختارها السيد له المجد وطناً ارضياً له.
ستبقى القدس مدينة للإخاء والسلام والمحبة والعدل، تتجلى فيها رحمانية المسيحية، ومنارة مقدسة، تلتفت اليها جميع الأبصار، وتنجذب اليها قلوب كل مسيحيي الكون الى كعبتهم المقدسة / القدس موطن الأديان عموماً والمسيحية خصوصاً/. القدس ستبقى وهي التي رأت طفولة السيد المسيح، رأته طفلاً وليداً قبل نيف وألفي سنة في مذود البهائم في بيت لحم، رأت مجوساً وثنيين أتوا من أقصى الشرق متبعين الكوكب بسرعة عجائبية ليكونوا في حضرة هذا الطفل الإلهي مقدمين له هداياهم كملك وكاهن أكبر وشهيد على الصليب تألم… قدموا له: الذهب كملك، والبخور ككاهن، والمر كمعذب وشهيد …
رأت القدس رعيانها البسطاء فرحين بالطفل الإلهي المولود، كما رأت ملائكة السماء يهللون للسلام القادم مع طفل السلام : “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة “.
رأت هدر السلام في ذبح الأطفال الأربعة عشر الفاً الشهداء في بيت لحم بأمر هيرودوس القاتل وهم أول الشهداء المسيحيين في فلسطين المقدسة بإرهاب يهودي منظم.ﻻ زال مستمراً في المجازر الصهيونية للبلدات الفلسطينية وفي قانا لبنان وفي سورية وفي مصر و… واستمرار ذبح اﻻوﻻد والشباب الفلسطيني في وضح النهار على الحواجز الصهيونية وتركهمينزفون حتى الموت دون اسعاف… في هذه اﻻيام…
الناصرة رأت يسوع صبياً وفتى وشاباً يخطر نجاراً في ورشة ابيه بالتبني يوسف النجار… رأته باراً بأمه… وبأبيه المربي الحنون الطاعن في السن يوسف.
عتبات طبريا والجليل والمدن العشرة والجولان وسفوح حرمون رأت يسوع يصطاد تلاميذه منها ليجعلهم صيادي الناس، لتنفيذ مشيئته بالسلام على الأرض، والمسرة، وجميعهم استشهدوا مقابل السلام الذي للمسيح…
رأته كل فلسطين يخطر في أزقة الفقراء والمحتاجين والمرضى يقيم الأموات ويكفكف دموع الأمهات رأته شافياً للمخلعين والعميان والبرص، جابراً خواطر الفقراء والمعوزين والجياع باثاً كلمة ورغبة ابيه السماوي في وطنه فلسطين، وقدسها الأقدس بالحق والخير والعدالة والسلام والمحبة. رأته سوطاً يلسع الباعة في هيكل سليمان مدافعاً عن الحق، يلسع المتزمتين من المتاجرين بالدين في ريائهم ونفاقهم، وصليباً يحتضن العالم بالمحبة، وصوتاُ ينشر دفء السلام في النفوس…
رأته القدس كقائد فريد في كل الناريخ، فاتحاً لها بدون جيش، وهو راكب ليس على فرس مطهمة بل على جحش ابن اتان، والأطفال يصرخون بتهليل : “اوصنا في الأعالي مبارك الاتي باسم الرب.” والجموع تفرش ثيابها ليدوس عليها فرس يسوع المطهمة…
رأته بعد ابام معذباً مهاناً من الجموع هذه التي هللت له وفرشت ثيابها ليدوسها جحش يسوع للبركة… هذه الجموع التي احبها وخدمها وبلسم جراحها، كانوا هم الشعب الخائن الغادر الجاحد، وجراحه تنزف دماً طاهراً بغزارة في درب الجلجلة بمحطاته الأربع عشرة، وعلى الجلجلة رأته مصلوباً بين لصين. لقد سواه القتلة اليهود بالمجرمين واللصوص مكافأة له على محبنه لهم. ” ياشعبي ماذا فعلت لك وبماذا كافأتني…؟”
وعندما اسلم الروح انشق حجاب الهيكل من وسطه الى نصفين وزلزلت أرض فلسطين… واهتدى كثيرون واستشهدوا فيها وأولهم استيفانوس.
رأته مدفوناً في ترابها بقبر جديد،
تم قام منه بعد ثلاثة أيام بقوة لاهوته، تم منها من ارض فلسطين الطاهرة صعد إلى السماء، وبروحه القدوس في العنصرة أسس “كنيسته التي أبواب الجحيم لن تقوى عليها”.
وكانت القدس “أم الكنائس”، ومنها انطلق التلاميذ إلى الكون متلمذين كل الأمم…
هذه هي القدس لدى المسيحيين التي ستبقى قدسنا نحن ولاخوتنا، فلسطين المقدسة كما كل المشرق… وبدوننا نحن مسيحييو المشرق لن تبقى فلسطين ولن يكون لها قضية، ولن تكون هناك حتماً قضية القدس… صالبوا المسيح يصلبون شعبه اليوم ويقودون هذا الشعب إلى المذبحة والتهجير… ولن تبقى سورية…
يجب تجييش كل الدعم العالمي البناء لابقاء جذوة المسيحية مشتعلة في القدس وفلسطين وسورية وسائر المشرق، ومقاومة كل الإرهاب الصهيوني كما التكفيري في سورية والعراق وكل المشرق لتبقى فلسطين وقدسها أم الكنائس، ولتبقى سورية والمشرق ودمشق منطلقها إلى كل العالم.
ذات يوم، ورداً بانفعال على مذيع في التلفزيون السوري كان يتحدث عن كرامة القدس ومكانتها عند المسلمين قبل المسيحيين… وقد أكد ذلك واصفاً إياها بأنها ثالث الحرمين الشريفين عند المسلمين، بما يشير عند السامع عن تدني منزلتها عند المسيحيين!!! اجاب الأديب الكبير اللبناني السوري ميخائيل نعيمة ابن دار المعلمين في ناصرة فلسطين التابعة للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية الارثوذكسية الروسية:
“يا حبيبي إن كان للمسلمين حرمين وتعتبرون في إيمانكم القدس ثالثهما، فأنا ومن هنا أؤكد لك أن ليس للمسيحيين في كل العالم إلا القدس فهي كعبتهم الوحيدة، وهي بوصلتهم، وهي موطن مسيحهم السيد المسيح له المجد وهي قدس الأقداس واليها يتجهون… “.
السلام عليكم…والسلام لكم…