فاهيه تمزجيان…عرّاب «لغة العالم»
إذا كانت الثقافتان العربية والأرمينية من أقدم ثقافات الشرق؛ فإن العلاقات بين سورية و أرمينيا هي أيضاً من أقدم علاقات الشعوب؛ و بخاصةٍ حين قام المبشّرون السوريّون الأوائل بنشر المسيحيّة في أرمينيا، امتداداً إلى واحدٍ من أقدم بروتوكولات التعاون بين الأمويّين و الأرمن… والحضور الارمني متجذر في مشرقنا عامة وسوريتنا خاصة منذ ماقبل الميلاد لذا هم من اديم الارض السورية المباركة و لهذا كانت سورية وجهة المنكوبين منهم عام 1915 خلال حرب الإبادة الجماعيّة التي قامت بها تركيا الأتاتوركيّة والحميدية قبلها ضدهم.
اللافت عند الأرمنيّ وهي شهادة اعتز بها كوني ارمني لجهة امي وجدي ابيها.. تمسُّكُهُ بخصوصية ثقافته المُنفتِحَة في آنٍ معاً، على أفضل ثقافات الشعوب، و هي ذات الميزة التي تتمتع بها ثقافتنا السورية.
علمنا السوري الارمني الموسيقار الكبير والاعلامي الشهير فاهية تمزجيان…
المرحوم فاهية صاحب حضور مؤثر، وصوت الرخيم، واللغوي بلغة عربية سليمة، وكاريزما جميلة.. إنه عنوان مكون هوية المبدع في شخصية الناقد والمؤرخ الموسيقي السوري الراحل، الأرمني فاهيه تمزجيان (1945- 2011)، أحد أبرز الأعلام ضمن هذا الحقل، في سورية والعالم العربي أجمع، والذي نستعيد في24 كانون الاول من كل عام مع ذكرى رحيله ، ملامح قصة مبدع متفان ، عملاق من عمالقة الموسيقا العالمية عرّفنا بروائع هذه الموسيقى، وأثرى مستوى الثقافة الموسيقية العربية، متسلحاً باتقانه الفريد للغة الضاد، كنا ننتظر بشوق في شاشتنا السورية الصغيرة موعد برنامجه الراقي “لغة العالم”
لقد شكلت رحلة حياة وعطاء فاهيه تمزجيان، نموذجاً مهماً في قيمة التزام المثقف والناقد بالنهوض في اعباء وجوانب مسؤولية فكرية حيوية، في مجال إبداعي اساسي بالمجتمع: (الموسيقى). إذ رحل عن 66 عاماً، تاركاً خلفه، نتاجاً فكرياً موسيقياً قيّماً.
مشوار حافل
ولد العملاق فاهية في دمشق وككل اقرانه درس في مدارس كنيسته الارمنية، بدأ فاهيه تمزجيان مشوار حياته، كصانع للنظارات الطبية، وامتهن ذلك رسمياً بعد ان كان ترعرع ودرس في دمشق. ولكن المطاف لم يطل به في هذه الطريق، إذ كان قلبه مملوءاً بحب الأدب والفنون بمختلف تلاوينها، وخصوصاً الموسيقى. فانكب في ظل هذا الميل.
وبينما كان يتابع اعماله الحرفية في صنع النظارات، انكب على القراءة والاستماع الى كل ما يقع تحت يديه، فيما يخص عوالم الموسيقى ومفرداتها، الأمر الذي اسهم عملياً في تملكه ملمح ركيزة ثقافية موسيقية مميزة، تقترن بذائقة فنية رهيفة.
شرع فاهيه في التعمق بتخصص النقد والتأريخ الموسيقي والفني، بجدية واهتمام، ولم تفلح جميع العقبات، في ثني عزمه على اتقانهما. وكان ذلك منذ منتصف السبعينيات في القرن الماضي.
فأخذ يكتب في الصحف والمجلات السورية المحلية، وكذا العربية، حول هذا المجال، معرفاً القراء بروائع وانواع الموسيقى العالمية، ومسلطاً الضوء على نقاط ورؤى نقدية بشأن الموسيقى العربية. ولم يفته دبج مقالات محددة، تتحدث عن أهم المؤلفين والعازفين العالميين.
وكذلك أهم الأعمال الموسيقية، شارحاً تفاصيل وحيثيات هذه الأعمال الموسيقية، وفق نهج حرفي سلس، أفرز قدرة القراء على استيعاب تلافيف وجوانب الموضوعات المطروحة، دون اية صعوبات تمليها طبيعة التخصص في تلك المقالات(الموسيقى). وقد استفاد فاهيه، في هذا السياق، من قدراته وامكاناته المميزة في مجال اللغة العربية، إذ اتصف اسلوبه اللغوي بالجزالة ودقة المعاني.
إعلامي مبدع
تغلغل حب اللغة العربية في عقل وروح فاهيه، بشكل لافت. وهو كثيراً ما كان يتحدث عن مقارنات ومقاربات بلاغية عالية المستوى، فيها. كما انه استمر في الإعراب عن مدى حبه للغة طه حسين، بالتوازي مع حديثه عن اعجابه بشفافية شيللر. إن هذه التفاصيل، وغيرها من الملكات والمهارات الفكرية الموسيقية واللغوية، اسهمت في أهلية فاهيه لتولي مسؤولية اعداد وتقديم برنامج موسيقي جاد بعنوان:
“لغة العالم”، كان يبث على شاشة التلفزيون السوري ـ وعلى اثير الإذاعة السورية، ومثل البرنامج الأكثر شهرة، والذي غدا بشهرته في سورية والعالم العربي، خلال فترة تقديمه، النافذة الوحيدة على فضاءات الموسيقى الكلاسيكية في العالم.
قدم الرحل فاهيه في (لغة العالم)، الكثير من الأعمال الموسيقية، وفق منوال وشكل تدريجي مدروس، فنمى الذائقة والثقافة الموسيقيين لدى العرب، وزوّد مختلف الأفراد، بمعرفة شاملة حول التاريخ الموسيقي، فعند تقديمه لـ (الفصول الأربعة) للمؤلف فيفالدي، شرح العمل ببنيته وارتباطاته وظروفه ومميزاته، وطبيعة تركيبته الابداعية. وكذا فعل في تقديمه لسيمفونية موزارت رقم 40.
كما قدم فاهيه في حلقة مستقلة، السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، معرفاً بالأثر الثوري لهذا العمل في الموسيقى العالمية، كونه قلب أسس الموسيقى، ونقل ملمح دورها الى درجات التحول نحو الرومانسية في الموسيقى، والتي سهلت ولادة أعمال كثيرة، لم يغفل فاهيه أيضاً التعريف بها، في حلقات مستقلة ضمن برنامجه، مثل: السيمفونية غير المكتملة لشوبرت، كونشرتو التشيلو لشومان، كونشرتو البيانو لشوبان، السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي.
كائن موسيقي
كانت مجالسة فاهيه، بمثابة جسر تواصل وحميمية، يتممه ويكلله تجسد تلك الجلسات معه، كحلقة فكرية نقاشية في عوالم الموسيقى، تمدنا بمعلومات ثرة ومتجددة في المجال. وقد كنت اعيش قصة متعة فريدة، في كل مرة كنت ازوره بها في مكتبه، للتحدث عن الموسيقى وهموم الفنون. فحلقات النقاش كانت تتمدد وتتنوع، وكنا ننكب على التباحث المعمق في عمل ما جديد، أو اخر قديم طرح بأداء جديد.
فكنا نتجادل بقوة، ومع كل محطة، كنت ازداد اعجاباً بسعة أفق وثقافة هذا الرجل. وكثيراً ما كان الراحل فاهيه، يستمر في سؤالي عن جديد كتاباتي أو قراءاتي في الموسيقى، وكنت افعل المثل لأعرف ما جديده. وجميع ذلك، رسخ لدي يقين الإعجاب والتقدير لهذا المبدع الذي اختار ان يكون متورطاً بجدية وعمق، دائماً وأبداً، في عالم الفنون وخاصة الموسيقى.
وقد امتلك الراحل فاهيه تمزجيان، مكتبة موسيقية كبيرة، كان يزدان بيته بها، وتضمنت اندر وأقدم وأبرز الاسطوانات الموسيقية العالمية.
إذ اشتملت على الاسطوانات القديمة (المصنوعة من الزفت)، طبقاً لتعبيره. وأيضاً اسطوانات تعود لفترة الاسطوانات ما قبل الليزرية. واشرطة بكر وأخرى عادية وأفلام بكر واشرطة فيديو، واقراص دي في دي.
تقول الصحفية أثيل حمدان وهي مشكورة ممن سلط الضوء عليه بعد رقاده:” أذكر حديثاً لي مع الراحل فاهيه، ذات مرة، كان حول موسيقى قداس للمؤلف الإيطالي فيردي، إذ أدهشني وفاجأني، ان فاهيه كان لديه نسخة من هذه الموسيقى النادرة. وأخذت أسأله عن كيفية حصوله على نسخة من تلك الموسيقى، فروى لي بشغف، كيفية وصعوبة حصوله على الأعمال المرئية لعرضها في برنامجه (لغة العالم).. إنها حقاً قصة شغف كبير بطلها مبدع موسيقي اخلص لموسيقاه”،.
تفانى علمنا في عمله، خدمة للثقافة الموسيقية التي لطالما كانت شغله الشاغل. طالما نالت شروحات وتحليلات فاهيه، في برنامجه (لغة العالم)، اعجاب المتخصصين وعامة الناس. وكنت شخصياً، كغيري من محبي الموسيقا العالمية والشرقية، استفيد من تحليلاته بدقة وعمق، فأغتني بمدى حرفية وتميز رؤاه النقدية، ومعارفه الواسعة. وقد كانت ثقافته بمثابة سلسة فكرية موسيقية متاحة للجميع، بقيت تزدان وتتجمل في معالم جاذبيتها، بسمات صوته الرخيم وتقديمه المتزن الهادئ.
دوره الموسيقي
بدأ فاهيه تمزجيان حياته المهنية في حقل الإبداع الموسيقي، كناقد وكاتب في الصحف والمجلات، في فترة منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وكان هذا المجال نادراً في الصحافة السورية والعربية، ولكنه، مع ذلك، كان دؤوباً على الكتابة، سواء عن الحفلات التي كان يحضرها، أو عن موضوعات موسيقية شائكة. والتزم بمنهج الأمانة العلمية في هذا السياق.
كثيراً ما أصر على ان يتعرف على آراء الزملاء الموسيقيين، وبتجرد تام، بشأن أعماله ومن ثم اعمال ابنه جان في التأليف الموسيقي. وأسهم الراحل فاهيه تمزجيان، في دعم وتطور الفرقة الوطنية السمفونية السورية بشكل كبير، إذ واكب مسيرتها منذ البدايات. وقد صوّر التلفزيون السوري، أولى حفلات الفرقة في عام 1993، بتأثير الإصرار الكبير من قبل فاهيه، والذي بادر إثرها الى عرض أجزاء من تلك الحفلة في حلقات برنامجه.
مما قاله
مما قاله صاحب “لغة العالم”: “الموسيقى فن راقٍ يقول ما بأعماقنا ووجداننا، وفي كثير من الأحيان هي فن يتحدث عنا فيقول ما نتألمه، وما نتمناه.. الموسيقا لغة العالم وتراث الشعوب، وفي رأيي لابد أن نحمي موسيقانا وتراثنا كما آثارنا، لكني لست راضياً عن هذه الحماية..!”.
وفاته
23/12/2011 رحل بصمت عن عالمنا، وعن عالمه الموسيقي، اللغوي البارع الذي أمسك زمام اللغة بمافيها لغة الموسيقى التي لطالما أبدع في سبكها وتطويعها لتكون “لغة العالم” الباحث والموسيقي والإعلامي السوري، فاهيه تمزجيان، عن عمر 66 عاماً.ووري الثرى في مدفن العائلة بأرض دمشق وطنه.
شهادات عنه اضافية
(موقع eSyria)
“هكذا بدأ الاعلامي والناقد الموسيقي الأستاذ “فاهيه تمزجيان” حديثه حين أجرى موقع eSyria لقاء خاصاً معه، فكان معنا كما نراه على شاشة التلفزيون حين يقدم برنامجه المعروف “لغة العالم”: هادئاً، متواضعاً، وغنياً بمعلوماته التي ينقلها، وكان الحوار التالي:
* كيف استطاع البرنامج برأيك تسجيل أرقام مشاهدة ومتابعة عالية منذ انطلاقته حتى اليوم؟
** الرسائل التي تأتي من المشاهدين سواء على صعيد بلدنا أم من الدول الخارجية كان لها الدور الأكبر في تحديد هذا الأمر، ولكن الذي ساعدنا أكثر هو كمّ الرسائل الهائل الذي كان يصلنا إلى الإذاعة بشكل خاص، حين كان البرنامج يبث لمدة ساعة يومياً، فهو الركيزة التي يتم من خلالها سبر محبة الناس للاستماع إليه رغم وجود التلفزيون وخطفه الأضواء من السينما والمسرح إلا أن الإذاعة تبقى حالة خاصة فالمتابع فيها يتابع روحياً من خلال عقله وأذنه.
* كنت عضواً بمسابقة “دمشق” الدولية للمواهب الشابة في العزف على البيانو، هل لك أن تحدثنا عن هذه التجربة؟، وهل من الممكن أن يكون هناك استمرارية لمثل هذا الحدث مستقبلاً؟
** تعتبر هذه التجربة هي الأولى للمواهب الموجودة في سورية لأنه من خلال هذه المسابقات نستطيع أن نتعرف وأن نحصي عدد العازفين والمهتمين بالفن الراقي في بلدنا. والحقيقة أنها كانت تجربة ممتازة وناجحة رغم قسوة التحكيم حيث إن اللجنة قد حجبت الجائزة الأولى لأسباب فنية أدائية ومنحت الجائزة الثانية لمتسابقة فنلندية.
أنا أرى أنه من المفيد أن يتم عمل مثل هذه المسابقات حتى لو تم ذلك كل سنتين مرة واحدة، كذلك يجب الاهتمام بالفائزين ومتابعة نشاطاتهم وتطورهم وإرسالهم لمسابقات دولية لإجراء تبادل موسيقي ثقافي مع الدولة التي تقيم مثل هذه المسابقات، وبهذه الحالة نستطيع أن نتأمل خيراً في إمكانية استمرار مثل هذا الحدث لو تم بالشكل المدروس، والمنظم.
* ما رأيك- كناقد موسيقي- بما تقدمه الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بعد رحيل مؤسسها الأستاذ “صلحي الوادي”؟
** على مدى السنتين الماضيتين هي فقدت “راعيها” لكن المفترض بالرعاة الجدد أن يكونوا قد قدموا نتائج أفضل من التي نراها..!
عندما أذهب لمتابعة عروض الفرقة فإني أتذكر ألقها أيام “صلحي الوادي”، لكني الآن أشعر وكأن العازفين مازالوا يدرسون في المعهد، وهذا نتيجة لأنه لم يعد هناك سلطة قادرة على الإدارة..!
* من برأيك من الذين يقدمون عروضهم في الدار يعيدك إلى الأصالة وتتمنى الاستمرارية لهم؟
** المشكلة أنني لا أستطيع تحديد ذلك، لأننا كما أسلفت لا نستطيع حتى الآن أن نعوّل على أحد، فنحن مازلنا بحاجة إلى وقت، وإلى سلطة لإعادة الطريق إلى استقامته، فعلى الرغم من ديكتاتورية الأستاذ “صلحي الوادي”- كما يقولون- باستلامه إدارة الفرقة، وإدارة المعهد إلا أنه لم يكن يعيش صراعاً بين الإدارتين..! هل تعتقدين أننا بالأسماء نبين إنجازاتنا؟ إن الصراعات الآن ستخلق جدلاً عقيماً حول الجيد والسيئ، وهذا ما سيؤدي حتماً إلى إشكالات نحن بغنى عنها. مشكلتنا هي عدم فهم أننا نمنح فرصاً للإنسان، والخوف أننا قد نمنح ذلك للإنسان الخطأ..!
* كيف نستطيع إعادة الرغبة للسمع الموسيقي، وللقراءة لدى جيلنا الجديد المبتعد تقريباً عن الاهتمام بالأصالة سواء الموسيقية أو الثقافية؟
** من الواجب الاهتمام بالطفل منذ بداية التعليم. نحن كنا من الجيل القديم “المرضي عليه” لأننا استطعنا أن نهتم بهذا الجانب بينما هذا الجيل للأسف نراه يركض وراء سماع “التكنو” و”الراب” و”البوب”. دعيني أخبرك كيف يعلمون الطفل “بألمانيا” مثلاً على العادات الجيدة كي تكبر معه: هو حين يريد أن يشم الوردة في الحديقة يقولون له أن يضع يديه خلف ظهره..!
إن نُخَب العالم بدءاً من “بيتهوفن” حتى “شيلر” و”باخ” و”طه حسين” و”محمود درويش” وُجدوا لتوعية الناس وليس خطبةً عصماءَ هي من يقوم بذلك..!
لدينا نخبة مثقفة في وطننا لكن عددهم مازال قليلاً، وهذه النخبة حسب رأيي يجب أن تقوم بعمل منتديات ثقافية ذات إدارات مؤهلة للاهتمام بالطفل وبهذا الجيل الصاعد.
يذكر أن الأستاذ “فاهيه تمزجيان” هو إعلامي وصحفي وناقد موسيقي، وله الكثير من الترجمات والمقالات التي تتناول قضايا فكرية هامة.