قاسيون تاريخ و شموخ
جبل قاسيون المطل بشموخ و كبرياء على مدينة دمشق، أقدم مدينة ما تزال مأهولة في التاريخ، و الذي يتربع بوقار و عنفوان في الجهة الغربية من المدينة، مع امتدادات طبيعية باتجاهي الجنوب و الشمال، يعتبر امتداداً جغرافياً لسلاسل الجبال السورية الغربية، و يتصل من جهة الغرب بسلسة جبال لبنان، و من الشمال و الشرق بسلسلة جبال القلمون الممتدة إلى منطقة حمص، و يرتفع نحو 1150 مترا عن سطح البحر و ما يقارب 600 متر عن وسط المدينة، و يرتفع عن مستوى السهل الممتد على ضفتي نهر بردى حوالي 500 متر.
تحيط به هذه المدينة العظيمة دمشق المتجذرة في التاريخ، كما يحيط السوار بمعصم اليد، ويحتوي على العديد من المغارات والكهوف ويعود ذلك لطبيعته الصخرية، كان أول من سكنه المقادسة القادمون من القدس، هرباً من بطش الفرنج.
يُعتبَرُ قاسيون مركزاً للحياة الرهبانية بسبب طبيعته الصخرية التي تتناسب مع صلف الحياة الرهبانية وامتلائه بالكهوف والمغاور التي تشكل قلالي طبيعية للرهبان وفيه عاش آلاف الرهبان منذ منتصف القرن المسيحي الاول في مغاوره وكهوفه ثم الحياة الديرية المشتركة للصلاة وحياة الشركة الكنسية ثم يعود كل منهم الى صومعته للتوحد كما في دير مران والذي كان مصيفاً للملوك والامراء في العصر الأموي، وفي موقعه الآن قصر الشعب الرئاسي، وقد اندرست كل هذه الأديار، وكانت الربوة والصالحية مصيفاً للملوك والأمراء وخلفاء بني أمية والعباس، حيث بنوا فيه القصور والملاعب، وكان المرصد الفلكيّ للمأمون الخليفة العباسي، لرصد النجوم والكواكب ولكشف الاعداء الغازين من جنوب دمشق وسهول حوران.
أصل التسمية
جبل قاسيون بفتح السين وقد تنوعت الآراء في معنى قاسيون لقد عُرف جبل قاسيون عند العرب بعدّة تسميات حيث عُرف بجبل دمشق، وأيضاً بجبل الشّام، وجبل التين، إضافة لجبل الأنبياء، وقد جاء ذكره في أحد المصادر باسم قَيْسُون وأيضاً قايسون.
في اللغة الآرامية القديمة؛ قَيْصُون، والتي تعني: نهائي، أو أقصى، أو طرفي، وآخر، إضافة إلى أقصى .
ارتبط الاسم ايضاً بعدة روايات واساطير عن سبب تسميته بهذا الاسم، فالبعض يفسر كلمة قاسيون من المصدر قساوة، لأنه قسا على الكفار فلم يستطيعوا أن يأخذوا من صخوره لصنع أصنامهم، وأيضاً لأنه قسا بصلابته فلم ينبت فيه العشب والأشجار، كباقي سفوح الجبال، ونجد آخرين يعزون التسمية إلى مغارة الدم أو مغارة الأربعين، حيث سكن آدم -بالقرب من التربة (البدرية)، وفي سفحه قتل قايين أخاه هابيل، ففتح الجبل ليبتلع قاتل أخيه، وفيه كهف جبرائيل، حيث تقول الاسطورة ان الملائكة جاءت تُعزِّي آدم بابنه هابيل المقتول، حيث إن الله أبقى على أثر الدم في صخوره، ليكون عبرة لبني البشر.
اشتُهرت مدينة دمشق عبر عصورها التاريخية المختلفة بمعالمها الكثيرة التي تدل على تاريخها الاستثنائي، إضافة الى المعالم الطبيعية، منها جبل (قاسيون)، و قد سُمّي بجبل الصالحية و جبل دير مران و تسميات عديدة و لكن تسمية قاسيون هي الغالبة لهذا الجبل الشامخ.
* يعتبر جبل قاسيون متنفسا طبيعيا للدمشقيين و أحد أماكن التنزه و الترفيه ولا سيما في فصل الصيف، و يتمتع الجبل بخاصية لا تتوفر إلا في مدن قليلة في العالم، حيث يمكن خلال دقائق الوصول إليه، و قد انتشرت على الشريط المرتفع من الجبل العديد من المتنزهات و المطاعم و المقاهي الشعبية التي تقدم خدماتها للسياح و المرتادين، و يمكننا أن نشاهد من قمته منظرا بانوراميا ساحرا تبدو فيه معالم مدينة دمشق بكل أحيائها و أسواقها و مسطحاتها الخضراء منبسطة كراحة الكف و خاصة في المساء حيث تتلألأ أنوار المدينة و مآذنها بمنظر مهيب يشمل كل الوان الطيف، و لكل فصل من السنة نكهته الخاصة التي يضفيها على منظر المدينة.
في المناسبات و الاعياد الوطنية تطلق الالعاب النارية مرافقة الأحتفالات من قمة جبل قاسيون، فتنير سماء دمشق بعرض مميز ينتظره الكثيرون كعيد الاستقلال 17 نيسان، وعيد الجيش 1 ايار، وعيد الشهداء 6 ايار…
يقع على سفح الجبل من الجهة الجنوبية الغربية نصب الجندي المجهول في مكان متميز، حيث يحتفل كل سنة بإضائة الشعلة التذكارية و توضع عليه باقات من الأزهار و تطلق المدفعية إحدى و عشرون طلقة تعبيرا عن الامتنان و التقدير لأرواح جنودنا البواسل الذين استشهدوا في الدفاع عن وطننا الحبيب سورية، و يوجد في اسفل الصرح متحف يضم العديد من قطع الاسلحة الصغيرة التي استخدمت ايام الثورات السورية و العديد من الصور الكبيرة التي تصور معركة ميسلون و معركة السادس من تشرين.
و يشرف الجبل من الجهة الجنوبية الغربية على منطقة دمر و من الجهة الشمالية على منطقة معربا و غيرها، كما توجد على قمة الجبل محطة البث الإذاعي و التلفزيوني السوري وهي أول محطة بث تلفزيوني وطني في الوطن العربي وكان ذلك في الثالث والعشرين من تموز 1960 ،حيث كان المذيعون والممثلون يصعدون إلى قمة الجبل لإذاعة فقراتهم الإخبارية و الفنية على الهواء مباشرة.
تاريخ جبل قاسيون
جبل قاسيون قديم قدم سيدنا آدم حيث سكن أبو البشر سفحه الأدنى، و تاريخ الجبل محاط بالقداسة و الروايات و الأساطير مما جعل أهل دمشق السابقين يحيطونه بهالة خاصة من التقديس والاحتفاء، و هو يضم الكثير من الكهوف و الأماكن التاريخية و نسجت الكثير من الحكايات والأساطيرعنه. يقولون في الاساطير ان قرب الربوة في النيرب سكنت (حَنَّة) أم العذراء مريم ، ويحكى أن يوحنا المعمدان بن زكريا قد نزل فيها وأمه مدة أربعين عاماً، وفيما بعد أتاها تلاميذ السيد المسيح (الحواريون) وكان عددهم أربعين حوارياً، ويضم المسجد المُقام هناك أربعين محراباً . ويُعتَقَدُ في شرق جبل قاسيون في قرية (برزة) أن إبراهيم نزل بها، وتعبيراً عن قدسية وشرف هذا الجبل قيل: “بين بَرْزَة وَأَرْزَة أربعون ألف نبي”. فيه العديد من الأديرة ومقامات للأولياء الصالحين؛ كدير مَرّان، وقبر النبي ذي الكفل ومقام النبي يونس ، وقبر العلاَّمة محيي الدين بن العربي، وفيه احتمى النبي ايليا ويعزى أن السيد المسيح وأمه مريم قد نزلا في الربوة.
جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي “قاسيون بالفتح و سين مهملة والياء تحتها نقطتان مضمومة و آخره نون، و هو الجبل المشرف على مدينة دمشق و فيه عدة مغاور و فيه أيضاً آثار الأنبياء و كهوف، و في سفحه مقبرة أهل الصلاح و هو جبل معظّم مقدّس يروى فيه آثار الصالحين فيه أخبار و به مغارة تعرف بمغارة الدم يقال بها قتل قابيل أخاه هابيل و هناك شبيه بالدم يزعمون أنه دمه باق إلى الآن و هو يابس، و حجر ملقى يزعمون أنه الحجر الذي فلق به هامته، و فيه مغارة الجوع يزعمون أنه مات بها أربعون نبياً”.
و روى الأمام أحمد بن حنبل في مسنده بإسناد عن الامام علي عن “رجل مات أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث و ينتصر بهم على الأعداء و يصرف بهم عن أهل الشام العذاب”.
وعّرف (سبط الجوزي) جبل قاسيون قائلاً “قاسيون جبل شمالي دمشق ترتاح النفس إلى المقام به و من سكنه لا يطيب له سكن غيره غالباً)”
و جاء في (القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية) لمحمد بن طولون الصالحي المتوفى سنة 953 هـ “سكن أهل المدينة هذا الجبل قبل أن يسكنوا دمشق و عاشوا فيه أجيالاً طويلة من الزمن حتى إذا تكاثروا و تناسلوا و ارتقت معارفهم و تجاربهم هبطوا إلى السهل المنبسط أسفله فبنوا مدينتهم دمشق، و لكن مدينتهم الأولى هي قاسيون ففيه نشأوا أولاً و إليه رجعوا اليوم”.
و يذكر (ابن طولون) في كتابه الآنف الذكر (القلائد الجوهرية) أن قاسيون في عصره كان حافلاً بأشجار الأرز و النخيل، و كان فيه اثنا عشر ألف نخلة قطعها القائد المغولي (تيمورلنك) عندما حاصر دمشق عام 1400 م.
و نظراً لما اشتهر به جبل قاسيون من خضرة و نماء و مناخ عليل، اختاره عدد من الملوك و الأمراء مصيفاً، فبنوا فيه قصورهم وملاعبهم و سكنه خلفاء بني أمية و بني العباس بعدهم…
مرصد جبل قاسيون (قبة السيار)
و تنسب الى الامير سيار الشجاعي الذي بناها ولاتزال قائمة حتى الان، وهو أول مرصد بني في الدولة العربية الإسلامية، وقد أسسه الخليفة العباسي المأمون لرصد الكواكب و النجوم، و قام بإرسال بعثة فلكية لإجراء أرصاد مابين عامي 215- 218هـ. اضافة الى رصد المعتدين الآتين من جنوب دمشق وسهول حوران…
في العصر الأموي أيضاً شق الخليفة الأموي يزيد بن معاوية قناة على سفح جبل قاسيون ترفد من نهر بردى ما زالت تذكر باسمه قناة يزيد مما أسهم في توسيع رقعة الغوطة و أضفى عليها المزيد من الاخضرار و النماء.
يذكر الباحث الدمشقي أحمد حلمي العلاففي كتابه “دمشق في مطلع القرن العشرين” أن أهالي دمشق كانوا يزحفون إلى حي الصالحية و يصعدون جبل قاسيون بعد عصر يوم الوقفة و يلبون كما يلبي الحجاج في جبل عرفات/مكة، فقاسيون و ما احتوى من أضرحة و مزارات و مدارس كان جديرا بالتقديس،
اكتسب جبل قاسيون أهمية دينية لدى أهل دمشق و غيرها، لما ضمّه من أضرحة و مزارات و مغارات طبيعية، و قدكثرت الحكايات و نسجت الكثير من الأساطير حولها و الكثير من هذة الأقاويل ليس لها سند تاريخي أو ديني و يعتقد إنها وضعت بالعصر الأموي للتركيز على دمشق كمدينة مقدسة بعد ان انتقل اليها الثقل السياسي من المدينة المنورة، نذكر منها:
–مغارة الجوعية التي تقع في أعلى تربة (الخميسيات) و أسفل كهف النبي (ذو الكفل) عليه السلام الذي بني عليه الآن مسجد و يعود سبب تسميتها (مغارة الجوعية) إلى ما يروى من أنه لجأ إليها أربعون نبياً خوفاً من الكفار و لم يكن معهم إلا رغيف واحد فلم يزل كل واحد منهم يؤثر صاحبه عليه حتى ماتوا جميعاً من الجوع، و في القرن الماضي سدت المغارة و بني على بابها مقام فيه عدد من قبور الصالحين.
–مغارة الشياح نسبة الى الشيخ محمد الشياح
مغارة الدم (مقام أهل الكهف أو الأربعين) التي سميت بذلك لأن فوقها مسجداً فيه أربعون محراباً نسبة للأبدال الأربعين، و تقع أعلى الجبل و يمكن زيارتها من خلال درج حجري طويل، و في زاويتها الشرقية الشمالية بارتفاع نحو متر يوجد فتحة تمثل فماً كبيراً و في سقف المغارة شق صغير يرشح منه الماء، و تروي هذة المغارة قصة أول جريمة قتل في التاريخ الإنساني، و التي وقعت في هذا الجبل حيث قتل قابيل (قايين) أخاه هابيل، و من الأساطير المحاكة عن هذة الحادثة أن الجبل بكى لهول هذه الجريمة و بقيت دموعه تتقاطر حتى الآن، و فتح الجبل فاه يريد أن يبتلع القاتل ففر و في كلام آخر أنه أي الجبل شهق من هول ما رأى، و معالم الفم ظاهرة و قام جبريل برفع الجبل الذي أراد أن يطبق على قابيل الذي قتل أخاه هابيل و تظهر معالم الأصابع واضحةً في الجبل و قيل أنه في يوم من الأيام كاد أن يسقط سقف مغارة الدم على أحد الأنبياء فقام سيدنا جبريل عليه السلام بوضع كفه على سقف المغارة فمنعه من السقوط, و بقي أثر كفه في سقف المغارة و بجواره توجد كلمة الله بارزة على الصخر، و يوجد قطعة من الحجر التي يقال أن قابيل قتل أخاه هابيل فيها و لا تزال موجودة في هذه المغارة منذ ارتكاب هذه الجريمة و في المغارة بقي لون الدم على صفحة الصخرة التي قتل عليها هابيل ظاهراً بادياً حتى الآن، و يقال أن (حواء)أم البشر قد ركنت إلى هذه المغارة بعد أن قتل ابنها هابيل، و يوجد محرابان يعتقد أن أحدهما للنبي ابراهيم و الآخر للخضر قيل أنهما كانا هنا في الماضي وكانا يصليان كل في محرابه، من هنا أصبح المكان مقصداً للزهاد و العباد و الراغبين في الخلوة، و روى (ابن عساكر) في (تاريخ دمشق) أنه صلى فيه أنبياء كثيرون (كإبراهيم و ذو الكفل و أيوب) عليهم السلام، كما ذكر (الخازن) في تفسيره أن مغارة الدم هي المكان الذي قتل فيه سيدنا هابيل.
مسيحيا يُنسب الاربعون وفق سير القديسين المسيحيين الى القديسين الجنود الاربعين الشهداء، والذين تسمت كاتدرائية حمص الارثوذكسية باسمهم، وكذلك كنيسة الاربعين شهيداً في غرزوز (قرنـة الـروم في قضاء جبـيل) من أبرشية جبيل والبترون للروم الأرثوذكس باسمهم.
وكان يمتلىء قاسيون بمغارات وكهوف الرهبان حيث سكنه الوف الرهبان بدءاً من القرن الرابع المسيحي ثم نشأت اديرة للرهبان والراهبات يجتمع فيها الرهبان سكان الجبال للصلاة الجماعية بينما يؤون الى صوامعهم وكهوفهم وقلاليهم…. ومن هذه الاديرة كان دير مران الذي صار ايام الحكم الأموي بالاضافة الى صفته الرهبانية مصيفاً للخلفاء والامراء…
ويذكر وجود نفق عظيم أثري في قاسيون شقه أهالي مدينة تدمر لجرّ مياه الشرب إلى مدينتهم من نبع الفيجه إبان حكم زنوبيا.
و قد قيل للتعريف بشرف قاسيون(بين برزة و أرزة أربعون ألف نبي)، و برزة و أرزة منطقتان شرق و غرب قاسيون (أرزة الشهداء)، و هناك (بيت أبيات) الذي تذكر الأساطير أن (آدم)أبو البشر عليه السلام سكن فيه و يعتقد أنه قرب (التربة البدرية و كهف جبريل)، حيث جاء جبريل عليه السلام يعزي آدم بابنه (هابيل)، و من الأماكن المقدسة في جبل قاسيون قبر النبي (ذي الكفل) و مقام النبي يونس. (يونان)
في منطقة برزة الواقعة على تخوم دمشق و إلى الشمال منها على سفح جبل قاسيون، يوجد مقام النبي (إبراهيم الخليل)و هو عبارة عن مسجد مصغر في داخله مغارة ضيقة و عميقة، يقال أن إبراهيم الخليل اختبأ فيها أشهرا و هو في طريقه من سوريا إلى فلسطين، كما يقال في رواية أخرى أن إبراهيم الخليل عليه السلام ولد في هذه المغارة، و في السابق كانت تأتيه الوفود من كل أنحاء دمشق و غوطتها و من مناطق أخرى بأعداد كبيرة محملة بالهدايا بمهرجان عظيم كان يدعى (جمعة برزة) أو (النوبة)، حيث تقام الاحتفالات و تقدم عروض الشيش و إستعراضات الخيل و تقدم طبخة الهريسة لكل الحاضرين، و تؤكد الروايات التاريخية بأنابراهيم الخليل قد مر بهذا المكان عبر مسيره من حران في الجزيرة السورية إلى فلسطين و مما يؤكذ صحة ذلك ان مدينة دمشق كانت في ذلك الزمان أكبر المدن، و قد عرف الموقع و المغارة و اشتهر عبر كافة الحضارات حتى في ايام الرومان.
إنتشر في جبل قاسيون العديد من الأديرة أكثرها كان مهجوراً و أشهرها(دير مران) الذي عُرف الجبل به أحيانا، و من الأماكن المقدّسة في الجبل قبر النبي ذي الكفل في كهفِ جبريل و مقام النبي يونس وقبر الزاهد محي الدين إبن عربي و فيه إحترس نبي الله يحيى من رجل من قوم عاد في الغار، كما فعل أسفل منه النبي الياس احتراساً من ملك قومه، و فيه صلى ابراهيم ولوط و موسى و عيسى و أيوب، و فيه قبور لإبراهيم و إلياس واليشع و هم أنبياء مكرمون، وفيه أربعون محراباً تذهب الأسطورة إلى القول إنها محاريب الأبدال من أهل الله في الشام الذين لا تخلو منهم الأرض وكلما مات منهم ولي ظهر ولي آخر و لن تخلو الشام من أربعين قائماً لله بحجة!، بهذا التاريخ الغني يجسّد جبل قاسيون الحياة الروحية لأبناء هذه المنطقة بكل تجلياتها الدينية و الوجدانية.
من معالم قاسيون التي ظلت قائمة إلى عهد ليس ببعيد (قبة النصر)، التي بناها (برقوق الصالحي)نائب دمشق سنة 841 في عهد السلطان (قايتباي) أحد سلاطين دولة الشراكسة في مصر و الشام في أعلى قاسيون، و ذلك تخليداً لانتصاره على الأمير (سوار بيك القادري)، و إلقائه القبض عليه و إعدامه و يقال أنه وجد بموضعها ذهب كثير مدفوناً، و كانت شامخة واقفة بجدرانها الثلاثة دون الرابع فدكّها الفرنسيون الفيشيون في مايو 1941 م، حينما كانوا يدافعون عن مراكزهم حول دمشق ضد الجيش الإنجليزي الزاحف من فلسطين لئلا يتخذها هدفاً.
صخرة اذكريني
من الطريف ذكر صخرة الحب، التي تنتصب على الجبل بالقرب من منطقة الربوة، و تروى الاساطير حولها و قد حفرت عليها عبارتان هما (اذكرني دائما) و (لن انساك) حيث تقول الحكايات ان عاشقين دمشقيين كانا يلتقيان دائما و بعد فترة لم يتمكن العشيق من الزواج من عشيقته و اراد اهلها تزويجها لشخص اخر فقام العشيقان بتسلق الصخرة الشاهقة في قاسيون و كتب عليها عبارة (اذكريني دائما) ومن ثم قامت العشيقة بكتابة عبارة (لن انساك) و يقال انهما انتحرا فيما بعد و اصبحت الصخرة تعرف منذ ذلك الوقت باسم صخرة الحب “صخرة اذكريني” حيث يكتب عليها العشاق عبارات الحب.
السكن على جبل قاسيون
يعتبر قاسيون السكن الأول للدمشقيين قبل أن يتجهوا إلى دمشق جنوباً، و نتيجة النشاط العمراني خلال القرنين التاسع عشر و العشرين و من خلال توسع مدينة دمشق أنتشرت بعض الأحياء على سفح جبل قاسيون منها :
حي الصالحية(حي الشيخ محيي الدين إبن عربي)، و الإسم (الصالحية) نسبة لأولئك الفلسطينيين الذين عرفوا بالصالحين لعلمهم و تقواهم، و الذين أتوا من القدس في عام 551 هـ حيث وصلت أول قافلة من لاجئي فلسطين إلى دمشق هرباً من الصليبيين يرأسها كبير قرية جماعة الشيخ (أحمد بن قدامة المقدسي)، ثم تتابعت الهجرة بعد ذلك فكان المهاجرون يعدون بالمئات و كان نزولهم و هم عدد غير قليل بمسجد موقعه غير صحي قرب الشيخ (رسلان) حالياً مما سبب تفشي الأمراض بينهم و موت عدد كبير منهم، فطلبوا لهم مكاناً فسيحاً صحياً، و وقع اختيارهم على سفح جبل قاسيون على مقربة من نهر يزيد (الحنابلة)، ثم شرعوا في بناء أول مدرسة في الجبل، و هي المعروفة بالعمرية و تتابع البناء حولها، عضد هذه الحركة السلطان (نور الدين) ثم الملوك الأيوبيون، فبنوا عدة مدارس مثل العلمية و الشرعية كالمدرسة الاتابكيه و الدلامية و العمرية والصالحية، و بنوا المساجد، فأصبحت تلك الأرض القاحلة مزدهرة بالعمران، فاخرة بالقصور و الأشجار و الأزهار، و تعتبر الصالحية من المناطق المهمة جدا من الناحية الأثرية فهي تضم أكثر من 70 موقعا أثريا تم توثيقها حديثا و العمل جاري على رعايتها و المحافظة عليها.
* ويقول المهندس أسامة البيك في مقال اعده عن جبل قاسيون يشكل جزءاً وافياً من مقالنا هذا:” اقتبس من ترجمتي الخاصة لمذكرات زوجة القنصل البريطاني فريدريك لايتون السيدة إيزابيل بيرتون (1831-1896)، حيث أنهما إختارا حي الصالحية للسكن، فقد وصفت الحي بما يلي ((خلال الأسابيع الأولى كان عملي الوحيد في دمشق هو العثور على منزل مناسب لنستقر فيه، في أي حال لن يكون مناسبا” لنا أي منزل داخل أسوار المدينة، على الرغم من أن بعض هذة المنازل جميل جدا في الواقع، قصور رخامية مزينة بشكل رائع و مفروشة كما البيوت الشرقية، و مع ذلك هناك دائما الشعور بالسجن فيها، فجميع النوافذ مزودة بمزاليج و حواجز معدنية، و تغلق أبواب المدينة عند غروب الشمس، كل هذا لن يكون مناسبا” لميولنا للعيش بحرية و هو يشعرنا كما لو أننا في قفص، بعد التفتيش لعدة أيام اتخذنا منزلا فيالضواحي نحو ربع ساعة من دمشق عاليا” قي أعلى التل حيث الأرض كأنها رمال صحراء و في الخلفية جبل ملون كالزعفران معروف باسم جبل البابونج، و كانت رائحة البابونج تفوح في بيتنا و جميع أرجاء دمشق. كان منزلنا في ضاحية الصالحية حيث الهواء و الضوء الجيد، المناظر الجميلة و المياه العذبة و الهدوء، و قبل كل شيء الحرية، يمكننا الهبوط من فوق الجبال بفرس تعدو خلال خمس دقائق و الوقت متاح حتى غروب الشمس، و أود أن أصف منزلنا في الصالحية، يقع بيتنا على الطريق و يطل على الحدائق المقابلة التي يجاورها المسجد و من الجهة الأخرى يجاورها الحمام ( الحمام التركي) و هناك حدائق في الخلف أيضا”، و على الجانب الآخر من الطريق أشجار المشمش التي تبدو جميلة بورقها و براعمها و أزهارها أما ثمارها فالخيال يفوق الوصف، و من بين بساتين المشمش هذه و أبعد من ذلك و مرة أخرى حديقة صغيرة يمر من خلالها نهر يأتي من مسافة بعيدة في الخارج ليصل لداخل المدينة، يؤدي مدخل المنزل إلى الفناء الداخلي الملون بالأحمر و الأبيض و الأزرق كما هو أسلوب جميع الأفنية في دمشق، و في الفناء مورد ماء فيه نافورة ترش الماء بغزارة، و في كل المحيط هناك اشجار البرتقال و الليمون و الياسمين، – – ، أما شرفة السطح فكانت لطيفة في المساء البارد، نشرنا فيها الحصر و الأرائك و كنا نجلس بين الزهور و الشجيرات، و كانت تطل على دمشق حيث كنا نستنشق الهواء الآتي من ما بعد الصحراء)).
احياء من قاسيون
حي أبو رمانة نسبة لضريح كان يوجد في موضع جامع العدس عُرف بضريح أبي رمانة, و قيل فيه أنه كان أحد الأولياء الصالحين دون معرفة أسمه فأطلق الناس عليه أسم أبي رمانة لوجود شجرة رمان تظلل قبره.
حي المهاجرين الذي ظلَّ خلال التاريخ يحتضن أبناء الشعوب المضطهدة في العالم الاسلامي و التي تفرُّ من الحروب، ففيه حارة بخارية و شركسية و نابلسية و موصلية و بلقانية و قوقازية و افغانية و داغستانية و شيشانية و مغربية و تركية و ارناؤوطية و حارة للجزائريين، و من هؤلاء جميعاً يتكوَّن جبل قاسيون، و قد اختار الناس عن وعي اسم جبل المهاجرين للتعبير عن هؤلاء الذين ظلوا خلال التاريخ حافظين الودَّ للشام التي لم تفرط بهم و لم تخذلهم.
حي الاكراد وهم الذين وفدوا الى دمشق الشام مع اسد الدين شيركوه وابن اخيه صلاح الدين الايوبي.
كذلك هناك أحياء أخرى مثل حي ركن الدين و حي برزة وغيرهم.
وقد اصبحت احياء جبل قاسيون اليوم جزءاً رئيساً من مدينة دمشق بل ان الجزء الغربي من قاسيون أصبح من أرقى أحياء دمشق.
التغني بجبل قاسيون
من قاسيون أطل يا وطني …. وأرى دمشق تعانق السحبا بهذا البيت تغنت المطربة دلال الشمالي كما تغنى به الملايين من السوريين لما يعنيه لهم هذا الجبل من عزة النفس و الشموخ و الإباء، الأمر الذي دفع البعض باعتباره رمز سورية الأول.
كما تغنت به المطربة فيروز في قصيدة (قرأت مجدك) للشاعر اللبناني (سعيد عقل) حيث قال (و خلفوا قاسيونا للأنام غداً طوراً كسيناء ذات اللوح و الغلب)، http://shamcad.com/downloads/Fairuz_Qarato_Majdaki.mp3
تشجير جبل قاسيون
لقد تم مؤخرا انجاز غالبية مشروع التشجير و الذي يعتبر بمثابة زرع رئة جديدة بعد أن تم تدمير رئتي مدينة دمشق، و المتمثلة بأشجار الغوطتين الشرقية و الغربية من خلال العبث و زحف الكتل البيتونية عليها، و تقدر مساحة التشجير بـ1140 هكتاراً مزروعة بما يقارب 600 ألف شجرة حراجية و مثمرة، منها 110 آلاف شجرة زيتون إضافة إلى أشجار الصنوبريات المختلفة و الأكاسيا والنخيل وغيرها من الأنواع الملائمة لطبيعة المنطقة، حيث تم انشاء العديد من المدرجات و تغطيتها بطبقة من التربة الزراعية، وتم تجاوز الصعوبات الكثيرة في تشجير بعض المناطق ذات التضاريس الصعبة والصخور القاسية والمنحدرة بشدة و المطلة على مدينة دمشق، مع تأمين شبكة الري من آبار وخزانات، و تعيش بين هذه الأشجار بعض أنواع الحيوانات البرية كالأرانب البرية و الحجل والثعالب والطيورالمختلفة.
العلم السوري
منذ أشهر قلائل إرتفع أكبر علم سوري منصوبا على سارية عملاقة بإرتفاع 50م في حديقة تشرين الواقعة على سفح قاسيون
كمعلم بارز لمدينة دمشق، و حيث يعبر عن الهوية الحاضرة في حياة المواطنين كيفما توجهوا و دلالة على انتمائهم الوطني الموحد مهما اختلفوا في تركيبتهم الاجتماعية و الدينية، و تذكر المصادر التاريخية إن العلم السوري تغير عدة مرات خلال القرن العشرين لكن ألوانه الأبيض و الأحمر و الأسود و الأخضر بقيت على حالها دون تغيير، حيث ترمز هذه الألوان إلى علم الثورة العربية الكبرى عام 1916، فالأبيض يرمز إلى الحقبة الأموية، والأسود إلى الحقبة العباسية والخلفاء الراشدين، والأخضر إلى الفاطميين، والأحمر إلى النضال العربي ودماء الشهداء.
مراجع البحث: