كيف تفسر أن العهد الجديد كُتب باليونانية في بيئة غير يونانية؟
نتابع في هذا المقال مع المعلم الانطاكي المرحوم الأب الشماس واللاهوتي المحامي اسبيرو جبور عن اللغة السريانية واليونانية في مقالنا الأول وهو بعنوان:”هل كانت اللغة السريانية هي اللغة الاولى لسورية الطبيعية، وماهو دور اللغة اليونانية في سورية؟”
نتابع في تسليط الضوءعلى لغة العهد الجديد وهي حصراً اللغة اليونانية لأن العهد الجديد ببشاراته كتب باللغة اليونانية عدا انجيل متى الذي كتبت نسخة منه بالآرامية وقد فقدت هذه النسخة وكتبت بالتالي باليونانية، ونضيف على ذلك الترجمة السبعينية الاسكندرية للعهد القديم الى اللغة اليونانية. وبذلك يكون الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد كتب باليونانية القديمة…
كتب الشماس اسبيرو مايلي
“العهد الجديد له قصة طويلة. الفتح الاسكندري للمنطقة ووصوله الى الصين ترك آثاراً يونانية في كل هذه المناطق، فتيوننت الدنيا وتكلمت اليونانية.
في الاصحاح الثاني من أعمال الرسل نرى في أورشليم يهوداً من أقطار عديدة من الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية. في سفر طوبيا (عند الكاثوليك سفر ثانوي، وعند الأرثوذكس سفر قراءة) المكتوب باليونانية فيه حوادث تجري في أفغانستان. فهذا الانتشار اليهودي الواسع في الامبراطوريتين الرومانية والفارسية وفي دولة الأنباط العربية، التي عاصمتها البتراء في الاردن الآن، واضح في الاصحاح الثاني من أعمال الرسل. أعمال الرسل والأناجيل واضحة أيضاً عن انتشار اليهودية في مناطق عديدة أيضاً، من روما الى تسالونيك، الى أفسس، إلى صيدا وصور، إلى حيفا ويافا، إلى الاسكندرية، الى ليبيا. فكلمة قيروان (الاصحاح الثاني من أعمال الرسل) ترجمة غير صحيحة. فالقيروان موجودة في تونس اسسها العام 721م عقبة بن نافع. المقصود هنا كيرينا، عاصمة ليبيا، حيث كانت توجد جالية يهودية مهمة وكان الناس ينطقون باليونانية. فإذاً الانتشار اليوناني لم يعد مرتبطاً بالعرق اليوناني وبأثينا، فالشعوب صارت تتكلم اليونانية وتتثقف باليونانية وسبقت أثينا في اليونانية، وآباء الكنيسة ليسوا من أثينا.
آباء الكنيسة من شرقي المتوسط ومن جنوبه. الآباء القدامى الذين كتبوا باليونانية ليسوا من أثينا. لذلك فالأناجيل كُتبت في مناطق معينة.
انجيل متى الآرامي مفقود. ليس لدينا الا النص اليوناني. النص اليوناني مكتوب بلغة يونانية لابأس بها. مكان الكتابة مختلف عليه. هناك مَن ويعرض التعليم المسيحي الذي هو أكمل بما لايُقاس من ناموس موسى يقول إنه تُجم في فلسطين، وهناك من يقول إنه ترجم في فينيقية، أو في سورية حيث كانت هناك احتكاكات بين اليهود والتبشير المسيحي. فإنجيل متى اليوناني الذي هو وحده بين يدينا هو بدون شك أطروحة مهولة جداً بدون جدل، مثل بولس في رومية وغلاطية والعبرانيين. بدون هذه الجدلية مع اليهود يعرض حياة المسيح بصورة لايبقى لموسى مكان إلا مكان العبد مثلما سمته الرسالة الى العبرانيين، ويعرض التعليم المسيحي الذي هو أكمل بما لايُقاس من ناموس موسى، ويعرض يسوع ابن الله المتجسد المولود من العذراء الذي هو أعظم من موسى بما لايُقاس، ويعرض عجائب المسيح التي هي أعظم من عجائب موسى بما لايُقاس أيضاً. فالفرق واضح جداً. ومن هذه الناحية إنجيل متى انجيل تبشيري ضد اليهودية وهو انجيل قوي جداً. وفي الكنيسة إنجيل محترم جداً وأقدم الأناجيل وأكثرها استعمالاً في الكنيسة منذ القدم. ووثيقة “تعليم الرسل القديسين” الذي يُقال إنه مؤلَّف مابين سنة 50-100 (والعلماء مختلفون) أورد “أبانا الذي في السموات” من إنجيل متى وليس من إنجيل لوقا، وباليونانية ايضاً.
من المعروف أن انجيل مرقس كتب في روما. وفي روما كانت اللغة اليونانية منتشرة بقوة، ورسالة بولس إلى أهل رومية مكتوبة باليونانية. فاليونانية كانت معروفة جيداً في روما. إنجيل لوقا على الأغلب مكتوب في منطقة تتكلم اليونانية، وربما في منطقة من بلاد اليونان أو تركيا والبت بذلك ليس بالأمر السهل. ولكن لوقا كتب بلغة يونانية جيدة لأناس يتكلمون اليونانية، من جهة إنجيل يوحنا، من المعروف أنه كُتب بأفسس. ورسائله كُتبت في أفسس، والرؤيا في بطمس، وهذه بلاد تتكلم اليونانية. بولس الرسول رسائله خرجت من أفسس، والرؤيا في بطمس، هذه بلاد تتكلم اليونانية. بولس الرسول رسائله خرجت من أفسس، ومن كورنثوس، ومن مكدونية، ومن روما، ومن مناطق يونانية أخرى تتكلم اليونانية اجمالاً، ولناس يتكلمون اليونانية. رسالة بطرس الأولى كثتبت في روما باليونانية، والكاتب هو سلوانس رفيق بولس في الأسفار وفي التبشير. رسالة يهوذا باليونانية ولانعرف من أين.رسالة يعقوب الرسول كُتبت باليونانية، ويعقوب كان أسقفاً على اورشليم، ولكن كان في اورشليم مَن يجيد اليونانية. والأصحاح السادس من أعمال الرسل يتكلم عن الشمامسة المقامين لخدمة الأرامل الناطقات باليونانية. وأسماء الشمامسة يونانية. يخدمون أرامل ناطقات باليونانية في اورشليم. رسالة بطرس موجهة الى شتات موجودين في آسية الصغرى.
من جهة بولس الرسول نفسه، فهو موجود في طرسوس عاصمة كيليكيا التي كانت تنطق باليونانية. تربَّى في أورشليم، وتعلّم الديانة في أورشليم على يد غمالائيل المشهور، ولكنه يتكلم باليونانية والعبرية والآرامية. وبولس بشَّرَفي دمشق، بشَّر في منطقة العربية أي منطقة الأنباط ربما تعدَّى حوران فقد وصل الى الأردن، لأن العربية تعني منطقة البتراء، ولاتعني الحجاز. وبشَّر في مناطق تتكلم اليونانية.
الرسل القديسون، بعد اغتيال يعقوب أخي الرب، بقوا في اورشليم، ولكن الاخوة هاجروا، وهربوا الى السواحل، واتشروا على السواحل حتى بلغوا أنطاكية، وكانوا يبشرون اليهود فقط. إنما في أنطاكية بشَّروا اليونانيين. فإذا السواحل الفلسطينية، اللبنانية، السورية حتى أنطاكية وحتى كيليكية ولواء اسكندرون كانت تتكلم اليونانية وكان فيها جاليات يهودية. كما كانت توجد في الداخل جاليات يهودية أيضاً. فكانوا يبشرون هؤلاء اليهود.
في مصر نسيَّ اليهود الآرامية والعبرية فتُرجم العهد القديم الى اليونانية قبل الميلاد بمئات السنين، وهذه الترجمة هي التي كانت منتشرة بين اليهود في الشتات. إذاً هذه مسألة مهمة.
هناك الأسفار التي يسميها الكاثوليك في ترجمتهم العربية “القانونية الثانوية”، والتي هي كتب تلاوة عند الأرثوذكس، وهذه مكتوبة باليونانية لا بالعبرية، واذا كان لبعضها أصل عبري فنحن نجهل هذا الأصل العبري. فإذاً اللغة اليونانية لغة الحضارة والمدنية والثقافة في الحوض المتوسط، فلا غرابة أن تكون الأناجيل والرسائل قد كُتبت بها. وكلغة حضارية وثقافية كانت تشبه الانكليزية في انتشارها اليوم، مع فارق أن اللغة اليونانية لغة فكر وأدب على مستوى ثقيل أثّرت في الآداب والفكر العالمي. فلا يوجد فكر عالمي اليوم غير متأثر بالفكر اليوناني. والأوربيون يقولون عن بلادهم إنها بلاد الحضارة اليونانية الرومانية المتنصرة. أي ان اليونان والرومان والمسيحيين هم الذين صنعوا اوربة ثقافياً ودينياً وفكرياً ومن كل النواحي. ولذلك فكتابة
الانجيل والرسائل وأعمال الرسل باللغة اليونانية لاتستدعي الاستغراب أبداً بسبب انتشار المسيحية في مناطق تتكلم اليونانية في أعمال الرسل ورسائل بولس نرى نشاطاً لبولس واسعاً جداً في آسية الصغرى وفي أنطاكية، وبشر في بلاد اليونان والمسيحية تركت في هذه المناطق مع سورية الطبيعية آثاراً كبيرة جداً”.
(الأب اسبيرو جبور)