قام… وهو يسبقكم إلى الجليل
) (متى 28: 1- 10
يسوع قادم إلى أورشليم، وهو أتٍ إلى الصليب ليعتلي عرش أزليته ومجده، يعطي تلاميذه عبر مشهد الشعانين عربون المجد الذي له من قبل إنشاء العالم ليقوّوا على رؤية هوانه وألامه وسحقه كحبة الحنطة. كذلك فعل في مشهد التجلي، واختلط يومها الكلام عن مجده وآلامه.
في بشارة يوحنا نغوص في سر لاهوت السيد، وقد اعطانا أن نقرأ عن الشعانين مباشرةً بعد إقامته لعازر من الموت وتطييب قدميه من قبل مريم أخت لعازر وقد تركها تفعل، وهو الغاية والمنتهى في التواضع، فقط لأنه يُربّي ويتلمذ ويُعطي رموزاً يقرأها تلاميذه فيستطيعون أن يلجوا بقلب قويّ إلى ليل الآلام.
سمعت الجموع التي جاءت إلى العيد أن يسوع قادم إلى أورشليم. فحملوا أغصان النخل وخرجوا لاستقباله وهم يفرشون ثيابهم ويهتفون : “مباركٌ الآتي باسم الرب، اوصنا لملك اسرائيل” سمعوا أنه قادم، هذا يعني أنهم كانوا يتبعون أخباره وينتظرون ويأملون ويدرِّجهم ليفهموا عمق طريقه.
يسوع ملك طبعاً، لكنه من نوع آخر من الملوك والرؤساء… ملك يركب على جحش ابن أتان، وهذا يغيّر كثيراً فيي الرؤية. لم يركب حصاناً مطهماً مجللاً بالحرير
والذهب كما تعطينا صور الملوك الفاتحين وخاصة على حصان أبيض. بل جحشاً، كما تنبأ زكريا النبي عن زيارة السلام. وصرخوا بملء الحناجر “أوصنا” ومعناها “الرب يخلص”. وهم يقصدون الخلاص من الرومان المحتلين. تركهم يسوع يصرخون، لأنه بالفعل مخلِّص، ولكن من احتلال من نوع آخر، احتلال عالم الظلمة والشك. وهو عارفٌ أنهم سيصرخون ليس بعد أيام كتيرة صرخة أخرى مدوية :”اصلبه اصلبه دمه علينا وعلى أولادنا.”
كم يحبنا يسوع ! وكم يُذهلنا بحبه، كم يفرحنا !! يضعُ الأمان غير الموصوف في عمق وجودنا، ويخلق بنا فعل إيمان لأنه وحده الرب المخلص والمستحق كلَّ كرامة ومحبة فهو أحبنا حتى الثمالة ” وهل من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه…” الحب هو الأساس وهو يحتاج إلى العمق في المعرفة والفهم، معرفة: يسوع المسيح الإله الخالق مصلوباً، كيف هذا ؟ وفهم: لمَ تمَّ هذا! لأجل هذا الآدم الذي خالف وصيته كخالق فأوحل في التكبر…
كيف يتساوى الأمران الخالق يُصلب لأجل المخلوق المتوغل في خطيئته ضد الخالق فوق مدارك البشر… أيهما أوتينا في المعرفة والفهم…! يجب أن نكون على مقدار قامة الفادي لنفهم هذه المعادلة المستحيلة حتى لا يبقى هذا الحب الخالد على مستوى الإحساس والمزاج…
في معرفتنا وفهمنا نُعطى الوضوح في الرؤية من قبله وحده..يسوع المحرر والمخلص، فنعرف ماذا نختار لأنه مقياس للتميّيز، وبالتالي يُصَّيرنا أنقياء لأنه صقلنا على مستوى النوايا. والنقاء يُعطي الثمر بسبب شفافيته وطهره.
هذا هو الأمر العظيم العجيب الذي لم يستطع الإنسان أن يدركه قط أن المسيح له المجد تحمل الآلام ليجعلنا نحن الخطأة أنقياء لأنه في أيام جسده البشري، أيام حياته على الأرض تحملها حناناً بنا ما جعل أعين البشر المتطلعة أليه تمتلئ بالرحمة والعطف. وعندما سيق إلى موته الغير العادل على الصليب “كان يتبعه جمع غفير ونساء كنَّ يلطمن صدورهنَّ ويبكين نائحات” (لوقا 23 : 27) لم تتألم النسوة من أجله فقط بل بكاه أشعياء النبي قبل قرابة ألف سنة، عندما رأى بعين النبوة آلامه. لم يتمكن أن يحبس دموعه إزاء المشهد الذي رآه “رأيناه لا شكل له ولا جمال ولا صورة، رأينا شكله مهاناً” (أشعياء 23 : 27).
يا للسر العظيم، إن المخلص أثار عطف البشر عندما كان يمر في نزاع العذاب ليرحمنا، لم يرد أن يصير شريكاً بالألم فكرياً بل تنازل ليعافي كل ألم ليموت البريء من الخطأ.
الطريق التي سلكها الإنسان بعد خروجه من باب الفردوس الضيق كانت عريضة ومتعبة منها تشعبت دروب انفتحت على فلوات زمنية من الغربة، حَصَد الشوك، والقتاد وذرف العرق، وسكب الدموع، وتعفر بالتراب وغرق في الوحول، ولعق الحمأة، واكتوى بنار، وتاه في وديان وضلَّ في براري، وقرّ بجوع وذاب عطشاً، ونام يحتضن ناراً يغطيها صقيع، عيناه اكتحلتا بالرمضاء وقلبه احترق بالشوق أراد الدنيا فضاقت عليه، وأراد الحياة فصارت وهماً بين كفيه…
الإنسان خالق مآسيه ومهازله، الموت هو الذي وضع الإنسان أمام قدره فيجب أن يقضى على الموت بالموت وأن يعود الإنسان إلى حيث كان، وأن يتطور من الصورة إلى المثال ولكي يتحقق ذلك يجب أن يمر بالصليب، يجب أن يصلب الخطيئة فوق عود الشجرة التي سببت ثمرتها الموت، الصليب الذي حمل العنقود البالغ أينع وأصبح ثمرة حلوة المذاق، وكل من قطفها وذاقها نال الحرية والعتق.
كان يجب أن يُقضى على الموت، وأن يتحول من قصاص إلى طريق يُعيد الإنسان في الفردوس… كان قلب الآب السماوي ينفرط حزناً على خليقته آدم وحواء وذريتهما، هذا الإنسان الذي غرته القوة التي أُعطيت له وخدعته النعم والمواهب والخيرات التي وضعها الله بين يديه نظر إليها وأهتم بها، ونسي الواهب، نسي مصدر الخيرات، واستمر قلب الآب واهب الخيرات يُدمى على ابنه الإنسان الذي فقد سعادته ومواهبه.
في ملء الزمان دبَّر الآب وسيلة فعالة لخلاص ابنه إذ أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له أخذ طبيعتنا الجسدية، ولبس هذا الثوب البشري المتسخ ” آخذاً صورة عبد صائراً في شبه البشر، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب”. من هو هذا الفادي العظيم ؟ هو كلمة الله الذي كان عليه بدافع المحبة أن يقضي على الموت لأنه الوحيد الذي يمكنه أن يتغلب عليه كحمل خال من الخطيئة، يُسفك دمه الطاهر لينقي الإنسان من وسخ الخطيئة، فالإله المتجسد محبة، كان لابد أن يسلك طريق الصليب ليخلص الإنسان لا مُكرهاً بل بكل الحب.
” من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحل صليبه ويتبعني”
فيا أيها المسيح المصلوب المعلق على خشبة، أيها القادر وقد جعلت من نفسك ضعيفاً كالخروف الذي سيق إلى الذبح نسجد لآلامك صانعة الحياة.. مهيب أنت في آلامك الممدودة على سنين التاريخ، عشتها قبلنا ولا تزال تعيشها حتى نهاية الأيام مع كل متالم ومريض ومظلوم ومضطهد…
لك المجد أيها البريء المصلوب، أعطيتنا أن نرى ألم البريء فنفهم معنى آلامنا ونقبلها. آلامك أنت هي الكلمة الأخيرة التي قلتها وتقولها، وهي كلمة الفصل بين الحق والباطل، بين النور والعتمة، آلامك يا سيد جاءت تقول ما لم تعد الأبجدية تستطيع قوله، فأسلمت جسدك للسياط والصليب وجبينك لإكليل الشوك يا ملك… وأنت تقول لنا :” إلى هذه الدرجة أنا أحبكم”
لك المجد يا وجه الآب فارتضيت بهوان التراب ومعمودية الدم وتركت وجهك في وجوه الناس تُصلب حتى نهاية الأيام.
لك المجد يا جسداً معلقاً على الصليب، اعطانا أن نرى الجسد بعين القداسة…
لك المجد أيها المعلم المصلوب وتعطينا كل يوم شرف التشبه والصيرورة من أحبائك الذين يصلبون أجسادهم من أجلك.
نحن في سورية والمشرق نصلب كل يوم من أجل إسمك فاعطينا مجد القيامة يا سيد الرجاء ليزهر ربيع النعمة من قبل جرح الدم لك المجد يا حبة الحنطة وخبز الغذاء الطيب.
ومع فجر القيامة تُقلب أيها الناهض من القبر المفاهيم كلها، وتخلق ابعاداً ومواقع لم تخطر على بال بشر، كل ذلك تفعله قيامتك أيها المعلم ونقول مع بولس :” فإن لم يكن المسيح قد قام فتبشيرنا باطل وإيمانكم باطل… وإذا كان رجاؤنا في المسيح لا يتعدى هذه الحياة فنحن أشقى الناس جميعاً.”
يُحزننا أحياناً أن نرى وجوهاً كالحة مظلمة، يائسة وكأن المسيح لم يمت عنها وكأن قيامته لم تُشرق فيها إشراقاً واستنارة من الداخل. غاندي رأى وجوه بعض المسيحيين الحزينة فقال : ” لا أفهم كيف يطيقون العيش في الحزن بعد أن مات يسوع من أجلهم.”
نتساءل اليوم بعد نيف وألفي سنة على حدث القيامة الذي لم ولن يتكرر، هل المسيح الحيّ حيّ فينا، من خلالنا ؟ هل نُسلم له حياتنا ليقيمنا معه ؟ هل نصغي لأمره اليوم في تحديد موعده في الزمان والمكان ونطيعه ولو كان الموعد في الجليل ؟ هل نجرؤ أن نتمسك بجروحه علامة حضوره فتصبح جراحنا وجراح الوطن سورية والمشرق وأنطاكيتنا مطلاً نطل من خلاله بفخر على الأخرين.. وكما قيامته له المجد هي وسيلة قيامتنا هي وسيلة قيامة أوطاننا من وسط القبر…