التعليم اللاهوتي لأنساب السيد المسيح في بشارتي الإنجيليين متى ولوقا
يقابلنا في تسجيل الأنساب التي وُضعت عن المسيح في الإنجيليين حسب القديس متى وحسب القديس لوقا أوجه شبه كثيرة كما يوجد اختلافات غير قليلة. هذا التشابه والاختلاف يدل على استقلال كل من البشيرين الواحد عن الآخر في ما كتبه، واعتماده على مصادر تختلف عن مصادر الآخر، دون أن يقلل من أهمية ومصداقية واحد عن الآخر.
هذه المشابهات والاختلافات هي
1- يقدم إنجيل متى سلسلة أنساب السيد قبل أحداث الميلاد ليعلن أن كلمة الله المتجسد وإن كان هو نفسه بلا خطيئة، لكن يوجد في نسبه بعض الأشخاص المعروفين بأنهم خطأة، وذلك لأنه جاء ليحمل خطايانا. أما إنجيل لوقا فحينما أراد كاتبه أن يتحدث عن عمل الرب الكرازي بعد العماد قصد أن يعرفنا أولاً بنسبه البشري من آدم (انظر لو4:3، 38:23). وهو إذ يأتي بالتسلسل أيضاً بعد المعمودية يريد أن يعلن لنا عن عطية الله التي من خلالها يرفعنا حتى يردنا إلى حالتنا الأولى “آدم ابن الله”.
فالإنجيلي متى يُعلن المسيا حامل خطايانا والإنجيلي لوقا يُعلن المسيا الذي فيه نتمتع بالبنوة لله.
2- جاء النسب عند القديس متى في ترتيب تنازلي، يبدأ بإبراهيم وينتهي بيوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع. أما عند القديس لوقا، فجاء النسب في ترتيب تصاعدي من يسوع إلى آدم. وهذا يفسر لنا سبب تكرار البشير متى للكلمة “ولد” (إبراهيم ولد اسحق، واسحق ولد يعقوب … الخ). وتكرار البشير لوقا للكلمة “ابن” (ابن شيث ابن آدم).
3- قصد إنجيل متى أن يبشر اليهود، بينما قصد إنجيل لوقا تبشير اليونانيين والعالم أجمع. ولذا بدأ القديس متى بالقول: “كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم” (1:1). لأن الله وعد هذين الاثنين صراحة بالمسيح إذ قال لإبراهيم “ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” (تك18:22). ولداود “قطعت عهداً مع مختاري، حلفت لداود عبدي، إلى الدهر أثبت نسلك، وأبني إلى دور فدور كرسيك” (مز3:89، 29، 11:132). وهكذا بالإعلان السابق وبميلاد المسيح يكون قد بدأ فعلاً التاريخ المقدس حسب “كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم.”
أما القديس لوقا فقد وصل بسلسلة الأنساب إلى آدم الذي هو أب لجميع البشر. كما يجب علينا ألا ننسى أن كون القديس لوقا ينسب المسيح لآدم ابن الله فذلك لكي يشير إلى أن المسيح جاء ليمحو التشوه الذي أصاب الإنسان صورة الله ومن بعده الخليقة كلها وليعود بالصورة إلى أصلها ومثالها الإلهي الذي خلقت عليه. وبالتالي ليس من الغريب أيضاً أن يأتي جدول الأنساب هنا بعد المعمودية.
هكذا يرجع “متى” النسب إلى إبراهيم موضحاً أن يسوع على صلة قرابة بجميع اليهود. أما “لوقا” فيعود بالنسب إلى آدم مبيناً أن يسوع على صلة قرابة بكل البشر. وهذا يتفق مع الصورة التي رسمها متى ليسوع كمسيا إسرائيل، والتي رسمها لوقا ليسوع كمخلّص للعالم كله.
4- واضح أن القديسين متى ولوقا لا يتبعان في قائمتيهما خط المواليد الطبيعية بل يستقصيان عن الإختيار الإلهي الذي بدأ بإبراهيم صاحب الوعد والعهد، ثم باسحق وهكذا. ويمكن ملاحظة أن ابن إبراهيم من الجارية، إسماعيل قد نُحى من النسل الموعود (انظر رو8:9) ونفس الأمر نلاحظه في اختيار يعقوب دون عيسو، ويهوذا من بين اخوته الأحد عشر، وداود من بين اخوته السبعة.
5- يذكر النسب عند القديس متى أسماء أربعة نساء بينما لا يذكر النسب عند لوقا أي اسم نسائي. والأسماء الأربعة التي ذكرها البشير متى ليست لنساء عظيمات يفتخر بهن اليهود كسارة ورفقة وراحيل وليئة، إنما ذكر ثامار التي ارتدت ثياب زانية (تك38)، وراحاب الكنعانية الزانية (يش2)، وبتشابع التي يلقبها بـ “التي لأوريا” ليشير إلى ما فعله داود الملك معها (2صم1:11-5)، وذلك ليكشف الإنجيلي أن طبيعتنا التي أخطأت وسقطت ومرضت، هي التي جاء المسيح ليشفيها ويقيمها مرة ثانية. إن مَن جاء من أجل الخطأة يوجد في نسبه الجسدي خاطئات. لقد قال مرة للفريسيين: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لأنى لم آت لأدعو أبراراً بل خطأة إلى التوبة” (مت12:9-13). أما المرأة الرابعة التي ذكرها القديس متى في جدول الأنساب فهي راعوث (الموآبية أي الغريبة عن شعب اليهود).
6- يضاف إلى هذا أن هذين الشخصين كانا موضع إعجاب اليهود الأول إبراهيم كأب (انظر يو31:8-39) والثاني داود كملك (انظر مر9:11-10).
7- وربما قصد لوقا بإنهاء سلسلة الأنساب بوصف المسيح “كابن لله” إلى تأكيد القول الإلهي الصادر قبل هذا مباشرةً وقت المعمودية “أنت ابني الحبيب بك سررت” (لو22:3)
8- من سفر الخروج (23:6) نعرف أن زمن نحشون هو نفس زمن موسى ولكن في جدول الأنساب لمتى وللوقا لم يرد اسم موسى البتة، وذلك لأنه لم يكن من نسل يهوذا بل من نسل لاوي (انظر سفر العدد ص3). كذلك لم يُذكر اسم يشوع بن نون لكونه من سبط افرايم (انظر عد8:13، 16). وذكر البشيران، سلمون بن نحشون (مت4:1، لو32:3) بطل اقتحام أرض كنعان والذي اتخذ راحاب جاسوسة الشعب في أريحا زوجة له (مت5:1).
9- بعد موت سليمان انقسمت المملكة إلى قسمين، قسم تكوّن من سبطي يهوذا وبنيامين (مملكة يهوذا) تحت حكم رحبعام بن سليمان. وقسم تكوّن من الأسباط العشرة الأخرى التي خرجت من تحت تاج داود وصارت تحت حكم خادم سليمان يربعام بن نباط (مملكة إسرائيل) (انظر 1مل11). ونلاحظ أن النسب من بعد داود قد تفرع إلى فرعين، الأول من سليمان الملك ورحبعام وأبيّا … وهو ما يذكره إنجيل متى، والثاني من ناثان ومتاثا ومينان وهو ما يذكره إنجيل لوقا، ثم التقى الفرعان مرة أخرى في شألتئيل وزربابل (مت12:1، لو27:3)(1) وبعد ذلك افترقا ليلتقيا مرة أخرى في متان (أو متثان) جد يوسف (مت15:1، لو24:3). ولما كان إنجيل متى يخاطب اليهود وقصد أن يبين أن يسوع المسيح هو الملك الموعود به ليملك على بيت يعقوب، لذا فإنه تتبع السلسلة الملوكية، ولذلك نلاحظ أن كلمة ملك تذكر كصفة لازمة لداود (انظر مت6:1). أما لوقا فقد تتبع الأسماء التي كان أصحابها من أفراد الشعب، سائراً بها ابتداء من ناثان ابن داود الذي لم يجلس على العرش.
10- أعقب سبي بابل حكم دولة مادي وفارس (من 536-333ق.م) وبعد حكم مادي وفارس جاء حكم اليونانيين (من 333-203ق.م). ثم حكم المكابيون (من 203-63 ق.م). وبعدهم الرومان (من63 ق.م). ولذا جاءت الآيات في (مت13:1-16، لو24:3-27) فيما يسمى بفترة ما بين العهدين، والأسماء التي سجلها البشيران هنا لم تُذكر في أي سفر من الأسفار.
11- يقول القديس متى: “ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح” (مت16:1).
يقدم القديس متى الميلاد العذراوي للمسيح، إذ يضع الميلاد من مريم “التي وُلد منها يسوع …”. ففي جدول الأنساب يقول مثلاً ويعقوب ولد يوسف، لكنه لم يقل أن يوسف ولد يسوع، إذ بحسب تداعي الألفاظ في الرواية كان يتحتم أن يقول: “ويوسف ولد يسوع”، ولكن قلب الرواية عن قصد وقال: “مريم التي وُلد منها يسوع.”
ولنلاحظ القول فهي لم تَلِدْ يسوع بل وُلد منها يسوع، فالحبل كان بالروح القدس. ويوسف يذكر عنه أنه أبو يسوع فقط في الاعتبارات الرسمية ولدى عامة الناس. وبسبب نسب يوسف لبيت داود انتقلت وراثة ملك داود إلى ابن العذراء يسوع وُدعيَّ بالتالي “المسيح” بمعنى “مسيح الرب المختار” (انظر إش1:61).
أما قول لوقا: “وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي” (3:3)، لا يفيد كما يقول بعض العلماء أن القديس لوقا لم يكن متأكداً من التاريخ الذي يقرره، ولكن في الحقيقة القديس لوقا ينقل ما كان يظنه الناس خطأ عن يسوع أنه بن يوسف (انظر مثلاً يو41:6-42). أما قوله “بن هالي”، ففهمت من جانب بعض العلماء على أن هالي هو والد العذراء القديسة وبذلك يُحسب المسيح أنه ابن لجده هالي والد مريم. ولعل لوقا – كما يرجح هؤلاء العلماء – قد نقل هذا على لسان مريم العذراء شخصياً. بالإضافة إلى أنه يميل عموماً في إنجيله لإبراز دور المرأة، وأن اليهود كانوا يقولون عن مريم أنها ابنة هالي.
هذا وإذا صح هذا الرأي تكون عندئذٍ سلسلة نسب يسوع هي سلسلة نسب مريم
12- هناك رأي آخر يشرح قول القديس متى أن يوسف هو ابن يعقوب (16:1) بينما يقول لوقا إنه ابن هالي (23:3)، ولا يمكن أن يكون الاسمان هما لشخص واحد، والحل هو أن أبا يعقوب وهالي المدعو في متى “متان” (15:1) وفي لوقا “متثان” (24:3) وُلد له ابنان هما هالي ويعقوب. ولقد تزوج يعقوب ولم ينجب نسلاً ومات، فتزوج هالي أخوه بامرأته ليقيم نسلاً حسب الشريعة لأخيه (انظر تث5:25-7) وأنجب يوسف، والقديس متى نسبه في إنجيله إلى يعقوب أبيه الشرعي، بينما القديس لوقا نسبه في إنجيله إلى هالي أبيه الطبيعي.
وهناك رأي ثالث يقول، أن القديس متى أثبت جدول نسب يوسف الملوكي فهو يُعطي الخط الرسمي المنحدر من داود مُحققاً مَن هو المستحق بعرش داود. أما لوقا فذكر نسب يوسف الشخصي، أي المنحدرين من داود كفرع للأسرة التي ينتمى إليها يوسف من غير الفرع المالك، فيكون أحدهما قد أثبت سلسلة الوراثة لعهد داود وسليمان، والآخر جدول التسلسل الطبيعي بواسطة ناثان.
13- قال إنجيل متى أن عدد الذين أوردهم في قائمته “من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى سبى بابل أربعة عشر جيلاً، ومن سبى بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً” (17:1). بينما لو عددنا الأسماء من سبي بابل إلى مجيىء المسيح لوجدناها ثلاثة عشر فقط. وسبب ذلك إما أن متى بعدما ذكر رؤساء عشائر بيت داود الاثني عشر ووصل إلى يوسف، انتقل بعد ذلك إلى السيدة العذراء وبما أنها كانت أصغر من يوسف بكثير في السن لذا عدّها جيلاً، ثم حسب الرب يسوع المسيح وحده جيلاً وبذلك كَمُل العدد أربعة عشر. وإما أن القديس متى حسب السبي البابلي جيلاً والسيد المسيح جيلاً آخر.
14- في إنجيل لوقا نجد سلسلة الأنساب مطولة وتمتد بالتسجيل لتشمل (75) أسماء (من يوسف إلى آدم). بينما في إنجيل متى السلسلة تشمل (40) اسماً فقط (من يوسف لإبراهيم). أي هناك (35) اسماً في سلسلة لوقا زيادة عن سلسلة متى. ولشرح ذلك نقول:
1- إن جدول الأنساب عند لوقا يذكر أسماء مختلفة عن الأسماء في جدول الأنساب عند متى وأكثر منها، وذلك من بعد داود وابنه ناثان إلى يوسف. فعند لوقا (42) اسماً، بينما عند متى (26) اسماً بفارق (16) اسماً. بينما من داود إلى إبراهيم نجد أن التسلسل في إنجيل القديس لوقا يسير موازياً لتسلسل القديس متى [عند لوقا (13) اسم وعند متى (14) اسم بفارق اسم واحد هو زارح]. وباقي الأسماء بعد ذلك عند لوقا من تارح إلى آدم وعددها (20) اسماً لا تذكر بالمرة في إنجيل القديس متى.
2- كان لفظ “وُلد” يستعمل لدى العبرانيين بمعنى واسع، كان يدل على الابن أو الحفيد، كما يقول سفر التكوين مثلاً “هؤلاء بنو ليئة الذين ولدتهم ليعقوب مع دينة ابنته، جميع نفوس بنيه وبناته ثلاث وثلاثون” (15:46). وما كان الثلاثة والثلاثون أبناءً ليعقوب من ليئة فقط بل وأحفاده أيضاً من دينة (انظر تك18:46، 25). وقد استعمل إنجيل متى هذا اللفظ بهذا المعنى فحق له أن يسقط بعض الأسماء كما في (مت8:1) إذ يقول “ويورام ولد عزيا” بينما بمراجعة سفر الملوك الثاني الاصحاحات (8، 11، 14)، وسفر الأيام الثاني الإصحاحات (22، 24، 25) نجد أنه أسقط أسماء ثلاثة ملوك هم أخزيا ويوآش وأمصيا. كما أسقط يهوياقيم فيما بين يوشيا ويكُنيا(2) (انظر مت11:1، أي15:3-16).
3- من زمن راحاب ودخول الشعب أرض كنعان حتى زمن داود الملك يذكر القديس متى ثلاثة أجداد فقط للمسيح (سلمون، وبوعز، ويسى) بينما هذه الفترة تزيد على (480) سنة بحسب (1مل1:6).
والحقيقة أن القديس متى هنا حصر جدول في الأسماء والمعرفة للقارئ اليهودي ليؤكد الاختيار واستبعاد الشخصيات المرفوضة.
4- بحسب القديس متى الجيل يمثل الحقبة الزمنية التي تمضى بين أن يولد ولد وإلى أن يكبر هذا الولد ويتزوج ليلد ولداً له. وهي غير ثابتة، فقد تكون خلفة الرجل مبكرة وقد تأتي متأخرة. بالإضافة أن القديس متى استخدم في كثير من الأسماء الانتقال من الأب إلى الحفيد وليس إلى الابن وهذه تزيد مسافة الجيل كثيراً.
مراجع البحث
1- الكتاب المقدس
2- إنجيل متى، للأنبا أثناسيوس
3- الإنجيل بحسب لوقا، للقمص تادرس يعقوب، الأسكندرية 1985
4- الإنجيل بحسب متى (نص وتفسير) للأنبا غريغوريوس
5- شرح إنجيل متى، للقديس يوحنا ذهبي الفم، الجزء الأول، ترجمة د. عدنان طرابلسى، لبنان 1996
6- خطيب الكنيسة الأعظم، القديس يوحنا ذهبي الفم
أ- عظة في نسب المسيح
ب- عظة في جدول الأجيال
إعداد الأب إلياس كويتر المخلّصي، منشورات الكنيسة البولسية، لبنان 1988
7- دائرة المعارف الكتابية (حرف ن) دار الثقافة
حواشي البحث
(1) شالتئيل هو ابن يكنُيا أنجبه في الأسر البابلي. وشالتئيل ولد زربابل الذي قام ببناء بيت الرب وترميم مذابحه وإصعاد المحرقات عليه وذلك بعد الرجوع من السبى الذي استمر قرابة 70 عاماً من 567: 536 ق.م (انظر 16:13-17)
(2) لعل سبب إسقاط هؤلاء الأربعة الذين وردوا في أسفار العهد القديم، أن الثلاثة الأُول منهم (أخزيا ويوآش وأمصيا) كانوا من نسل يورام وزوجته ابنه إيزابل الوثنية التي اشتهرت باضطهادها عبادة الله وجعلت زوجها ينحرف إلى عبادتها وهكذا خلفاؤه (انظر 2مل18:8، 17:9، 21:12، 20:14). ولذا أسقطهم إنجيل متى إذ كانوا مكروهين من اليهود. أما يهوياقيم الذي أسقطه بين يوشيا ويكُنيا فقد جلب بشره غضب الله على المملكة، فسقطت في يد البابليين (انظر 2 .. 5:36-6).