صليب المسيح
“أما انا فحاشى لي ان أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح”
(غلاطية 6:14)
لم يسجل في صفحات التاريخ الانساني كله عذاب أبشع وأقسى، ولا إهانة أفظع وأشنع من عقوبة الصلب.وقد كان يُحكم بها عادة على المجرمين والعبيد عند الرومان بعكس الشريعة اليهودية التي كانت تنص على عقوبة رجم المذنبين.
وبما أن المسيح رب المجد الطاهر البريء القدوس، الذي جاء الى العالم الارضي ليحرر البشرية من رق ابليس، ويعتقها من سلطان الخطيئة والموت، كان جزاؤه الصلب ظلماً وعدواناً (على عهد الحاكم الروماني بيلاطس البنطي). فمن تلك الساعة تسلمنا نحن المسيحيين فريضة تكريم الصليب المقدس، إجلالاً وتعظيماً لفادينا المصلوب وورثنا عن آبائنا القديسين أن نبدأ جميع أعمالنا ونختمها برسم إشارة الصليب لأنه يذكرنا برئيس إيماننا يسوع، والآلام المبرحة التي كابدها، وكأس المر التي تجرعها من أجل خلاصنا، فأصبح الصليب، كما يقول ترتليانوس ” العلامة التي تميز المسيحيين من غيرهم”، حتى إذا صدمتنا المشقات، ونزلت بنا الملمات، وتفاقمت علينا الخطوب، وتفرسنا في صورة المصلوب، تقبلنا كل ألم وشدة وتعب وضيق وحزن ومشقة بتؤدة ورحابة صدر، واحتملناها شاكرين بفرح وصبر وظفرنا في النهاية بالمجد والنصر.
ومما يوطد إيماننا ويقوي شعورنا في احترام الصليب أن القديس المعادل للرسل قسطنطين الكبير(1)- قبل اعتناقه الايمان المسيحي- رأى في رابعة النهار، صليباً متلألئاً في كبد السماء، مكتوباً عليه بأحرف من نور “بهذا تغلب”، ثم ظهر له السيد المسيح له المجد في الليل، حاملاً الصليب، وقائلاً له:” اتخذ هذا راية لك في حروبك تنتصر على أعدائك”(2)
هكذا فعل قسطنطين الكبيروانتصر على خصمه بعدما رفع شارة الصليب راية لجيشه، وعلى ألبسة وأعتدة جنوده، كما امره السيد له المجد. وأضحى من أتباع يسوع الناصري المصلوب(3) وكتب الى مختلف الأمم يستحثها على الامتثال لله الواحد الأحد، والتمسك بعرى المسيحية التي جعلها ديناً رسمياً لمملكته. وكذلك أمه القديسة هيلانة المعادلة للرسل، والتي أخذت على عاتقها البحث عن صليب رب المجد الفادي، وكان غير المؤمنين من يهود ووثنيين قد أخفوه عن أنظار الناس ليمحوا من ذاكرتهم وأذهانهم ذكرى الصليب والقيامة، وابى الله أن يتم نوره الا باظهار صليب ابنه له المجد، فقامت الملكة هيلانة، مزودة بأوامر ابنها الامبراطور قسطنطين العظيم، محفوفة بسامي رعايته الملكية، وسافرت من عاصمة المسكونة القسطنطينية “رومية الجديدة” الى مدينة الله وموطنه الارضي أورشليم حيث ولد وعاش وصلب رب المجد(4) ودفن في ترابها المقدس ومنها قام من القبر وصعد الى الميامن، ومن هناك عنصر الكنيسة المجتمعة في علية صهيون.
ظلت هيلانة هناك جاهدة باحثة منقبة في سبيل الحصول على الصليب الكريم. فبارك الله في جهودها، وكلل مساعيها بالنجاح. إذ تمكنت في عام 326مسيحية من اكتشاف الموضع الذي طُمِرَ فيه عود الصليب المقدس بالقرب من موقع الصلب الرهيب الجلجلة او الجمجمة. فرفعته وعرضته أمام الجماهيرة الغفيرة المؤمنة التي تقاطرت من كل فج وصوب للتبرك به. وظهرت بواسطته الآيات والمعجزات واقامت الشاب الميت. وعلى أثر ذلك عينت الكنيسة يوم 14 ايلول من كل سنة تذكاراً لرفع الصليب الكريم.
وازدهرت المسيحية وتضوع أريجها العطرفي اورشليم وسائر أقطار المسكونة(5) فتمت كلمة الله عن الأم اورشليم(6) “صهيون المقدسة”، “أم الكنائس”، و”مسكن الله”(7) حيث قال تعالى بفم أشعياء النبي:” ها انا ارفع الى الأمم يدي، وللجزائر أنصب رايتي، فيأتون ببنيك في الأحضان، وبناتك على الأكتاف يُحملن، ويكون الملوك لكِ مرّبين والملكات لكِ مرضعات. بالوجوه الى الأرض يسجدون لكِ ويلحسون تراب قدميكِ”(8)
إن أسفار العهدين القديم والجديد قد أفصحت عن قوة صليب المسيح، وأوضحت أنه راية الغلبة والظفر، ومصدر التعزية والبركة ورمز النعمة والاخلاص وتروس الأمان والايمان.
أو لم يحارب العبرانيون عدوهم عماليق المتمرد حتى هزموه شر هزيمة بمجرد رفع موسى يديه وبسطهما يميناً وشمالاً بشكل صليب.(9)
ولما عبروا البحر الأحمر، اما كان ذلك بفضل اشارة الصليب، لأن موسى ضرب البحر بالعصا على خط مستقيم فاجتاز بنو اسرائيل سيراً على الأقدام ثم عاد فضربه عرضاً، فضمه على فرعون ومركباته وجيوشه.(10)
هذا هو الصليب الذي دعاه سمعان الشيخ “علامة تقاوم”(11) وداود المرنم سماه “موطئاً” لقدمي المسيح الطاهرتين (12) لأنه عليه سمرت قدما السيد له المجد.
وبقوة هذا الصليب بارك يعقوب ولدي ابنه يوسف، أفرايم ومنسى، بتصليب يديه على هامتيهما(13) كما أنه بسجوده على طرف عصا ابنه يوسف (14) أشار إلى ان الصليب المجيد يؤيد عز المملكة لأنه فخر انتصار للملوك وسلاح للسلام وخلاص للمؤمنين.
وهناك برهان أقطع على عظم فاعلية الصليب حامل الحياة وقوة تأثيره، وهو
“الحية النحاسية” التي صنعها موسى بأمر الله ورفعها على العود، وكان كل من لُدغ ونظر اليها يحيا (15) وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الانسان، لكي لايهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية”(16)
وذلك المنظر المبهج للنفوس ألا وهو اصطفاف الشعب الاسرائيلي قديماً، منقسماً إلى أربع رايات حول خباء الشهادة (17) أما كان رسماً بهياً لشكل الصليب الكريم المربع الأطراف؟
وما الذي تدل عليه” السمة” المقدسة (18) ” ختم الله الحي”(19) الذي سيطبع على جباه المؤمنين في مسحة الميرون بعد المعمودية؟ أليس هو رسم الصليب المحي كما أثبت ذلك القديسون أكليمنضوس الاسكندري واوغسطينوس وايرونيموس وغيرهم. لأن السمة الخلاصية (وهي حرف “تاف” العبراني واليوناني) تُرسم كتابتها بشكل صليب.
وسيأتي المسيح الرب في يوم الدين حاملاً علامة الصليب(20)وحينئذ ينظر اليه جميع الذين طعنوه وقبائل الأرض قاطبة فيبكون وينوحون (21) وقد اتخذ آباء الكنيسة من آية سفر الاشتراع القائلة:”ستعاين حياتك معلقة تجاه عينيك” (22) برهاناً على صليب المسيح، وعوقبوا عليها بهذه العبارات: “اليوم يرفع الصليب، فيعتق العالم من الضلالة. اليوم تتجدد قيامة المسيح، فتبتهج أقطار الأرض متهللة”.(23)
وهاهو بولس الرسول رسول الجهاد الأمين ورسول الامم، يحث أهل غلاطية على الإذعان للحق وهم “الذين أمام عيونهم قد رسم يسوع المسيح بينهم مصلوبا” (24)، “لأن اليهود يطلبون آية واليونانيين يطلبون حكمة، أما نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً”.(25)” انما نرى يسوع مكللاً بالمجد والكرامة… لأجل ألم الموت (الذي ذاقه على خشبة الصليب) من أجل الجميع” (26) لهذا يهتف كل مسيحي حقيقي مردداً قول الاناء المصطفى بولس:” أما انا فحاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح” (27)
اذا الفخر لنا في كنيستنا الارثوذكسية اننا نكرم في هذا اليوم رفع الصليب ونحتفل بعيد رفع الصليب الكريم:
– لأنه بعد أن كان أداة للعار والخزي واللعنة عند الهالكين، أصبح عنوان الشرف والفخار والبركة لدى المسيحيين(28)
– لأن فيه شفاء للناس من أمراض الخطايا (29)
– لأن به تم الصلح بين الله والعالم بواسطة ابن الله، وزالت كل عداوة بينه تعالى وبين الانسان.(30)
– لأن فيه قوة الله.(31)
– لأنه مشكاة العالم ومرشد الناس الى المسيح الحق الذي اقتنصنا به واجتذبنا جميعاً الى شخصه الالهي ورفعنا الى السماوات. (32)
– لأنه انصع دليل على محبة الله للجنس البشري.(33)
– لأنه يشير الى مانلاقيه في حياتنا ونقاسيه من آلام الزمان الحاضر، وفي الوقت نفسه يسمو بعقولنا الى عرش الخلاص والرحمة لكي لاتخور عزائمنا ونفشل. (34)
نختم بالقول
ليباركنا الله بيمينه القديرة، وليدم علينا نعمة الفداء التي نلناها بصليبه الكريم، ولنرتل مع الكنيسة نشيدها العذب قائلين:
“الصليب حافظ كل المسكونة، الصليب جمال الكنيسة، الصليب عزة الملوك، الصليب عضد المؤمنين، الصليب مجد الملائكة، وجرح الشياطين” (35)
حواشي البحث
(1) هو أول ملك خُلِّدَ اسمُهُ في تاريخ الكنيسة بمداد الفخر والمجد، ورفعته المسيحية الى أسمى درجات القديسين العظام، وقد أصدر مرسوه الشهي من مدينة ميلانو في ايطاليا السنة 313 مسيحية وهو عبارة عن منشور في الأمبراطورية الرومانية دعي ببراءة ميلان ، أطلق فيه حرية العبادة لجميع الرعايا المسيحيين وابطل حمامات الدم والاضطهادات العنيفة بحقهم، وحدديوم الأحد يوم راحة اسبوعية عامة، وأمر بعقد المجمع المسكوني الاول في نيقية سنة 325 مسيحية وقد رئسه بنفسه، كما أنه كان أول من ألغى عقوبة الصلب في كل انحاء الامبراطورية.
(2) قسطنطين الكبير هو من يحق له حمل لقب “صليبي”…فهو المسيحي الحقيقي او الصليبي الحقيقي، وليس اولئك الفرنج الغزاة الذين اتخذوا شارة الصليب شارة لهم للفتح والاستعمار والقتل لأبناء الكنيسة الشرقية فرضاً لمعتقدهم الغربي…
(3) (مرقس 6:16)
(4) ( كورنثوس الأولى 8:2)
(5) يشهد بهذه الحوادث العظيمة عدة مؤرخين وآباء ومعلمين وكتبة كنسيين منهم القديس كيرلس الاورشليمي والقديس امبروسيوس أسقف ميلان وروفينيوس…
(6) ان داود النبي يسمي صهيون أماً بقوله “الأم صهيون” (مز5:86) حسب الترجمة السبعينية. وآباء المجمع المسكوني الثاني، في رسالتهم الى بابا رومية وأساقفة الغرب، يسمون كنيسة أورشليم “أم الكنائس”.
(7) كتاب المعزي: اللحن الأول، بلسان القديس يوحنا الدمشقي.
(8) (أشعياء49: 23،22)
(9) ( خروج17: 13-11)
(10) (خروج 14: 29-16)
(11) (لوقا 34:4)
(12) (مز 98: 5 و 7:131)
(13) (تك14:48)
(14) ( تك 31:47 حسب الترجمة السبعينية وعبرانيين 21:11)
(15) (عدد 9:21)
(16) (يوحنا 3 :15 و14)
(17) (عدد3:2 و25و18 و10)
(18) حزقيال 9 :4 و6)
(19) (رؤيا 7: 2و3)
(20)(متى30:24)
(21) (زكريا 10:12 ويوحنا73:19 ورؤيا 7:1)
(22) (تثنية 66:28)
(23) ( ميناون14 ايلول- كانين الايذيومالات)
(24) (غلاطية 1:3)
(25) (كورنثوس الأولى 22،23:1
(26)(عبرانيين 9:2)
(27) (غلاطية 14:6)
(28) (تثنية 32:21 وغلاطية 13:3 و14:6)
(29) (يوحنا 3: 15 و14)
(30) (رومية 10:5 وأفسس 16:2 وكولوسي 20:1)
(31) (كورنثوس الأولى 18:1)
(32) (يوحنا 32:12)
(33) (يوحنا 13:15)
(34) (لوقا23:9 وأع 21:14 وغلا 24:5 وعب 3:12 ،2)
(35) اكسابوستلاري عيد الصليب.