لحظة من غمرات الفصح
قصة حقيقية رائعة …
“من بركات الفصح”
في منتصف القرن الماضي، في سجون “سيبيريا” الرّهيبة وبالتّحديد في مدينة “توفولسكي” بالقربِ من جبال “الأورال”، كان هنالك مجرمٌ يُدعى “توما ريزكوف” تميّز بوحشيته وغضبه الجامح. كان عملاقًا بالجسم، أشقر، عمره حوالي أربعة وعشرون سنة، عيناه زرقاوان، يتطاير منهما شرر الكراهيّة والشّر. كان محكوماً عليه بالسّجن المؤبّد نتيجة جريمة قتل لم يعترف بارتكابها!، وكان الرّأي السّائد في السّجن وفي كلّ المنطقة أنّ حكماً غاشّاً قد صدر بحقّه إثر وشاية أعداءٍ له. وكان يصرخ في لحظات يأسٍ وهيجان رهيب:
“أنا بريء، أنا بريء، لم أفعل شيئاً، أتركوني أذهب…”
ويضمر الحقد والكراهيّة في قلبه. كانت حياة توما في السّجن استشهاداً وجحيماً لا يُطاق!، إذ كان ملزماً بتحمّل، من ناحية استهزاء المساجين له الّذين كانوا يسمّونه بـ”توما الذّئب” نظرًا لهيئته المرعبة، ومن ناحية أخرى جلدات السّجّانين له بغية تأديبه، فما إن سنحت له الفرصة حتّى هرب وقتل السّجانَين اللّذين كانا يلاحقانه بطريقة وحشيّة. على الأثر وُضعت جائزة نقدية كبيرة لمن يستطيع العثور عليه. لكن مرّ الوقت وأخذ ذكره يضمحلّ شيئاً فشيئاً، غير أنّه وبعد سنتَين أقدم على قتل أحد السّجّانين القساة بطريقة وحشيّة أيضاً، فاستبدّ الذّعر بسكّان النّاحية وتأهّبت السّلطات المحليّة والمجاورة.
حاولوا العثور عليه، لكن دون جدوى. وتتالت الأعوام، وتوما لا يزال كابوساً رهيباً، والمنطقة تعيش في قلقٍ وخوفٍ دائمَين حتّى إنّ الأديار هناك كانت تقيم السّهرانات متضرعة إلى الله لكي يُعتق المنطقة من سوط توما. ضاعفوا المكافأة المادية لكن أحد لم يقبض على “توما الذّئب.”
ومضت عشر سنين، واقترب الفصح، فتمّ تمشيط المنطقة، ليلاً ونهاراً، من قبل مقفتي الأثر وكلاب الصّيد… لكن لا أثر لهذا الإنسان المتوحش.
أعتقد النّاس أنّه ربّما افترسته الوحوش، وابتدأوا من جديد يتحرّكون بحريّة وطمأنينة. وحلّ الفصح وقُرعت الأجراس معلنةً قيامة المسيح، وأُقيمت الحفلات في ساحة المدينة.
وفي اليوم الثّاني من الفصح، إثر انتهاء هذه اللّقاءات في السّاحة في وقتٍ متأخّر من الليل أخذ النّاس ينسحبون كلٌّ إلى منزله ومن جملة هؤلاء تاجر كبير في توفولسكي اسمه “ألكسي شايلوفسكي” وزوجته “تاتيانا”. وإذ وصلا إلى منزلهما الضّخم، كان الهدوء يخيّم على المكان وكان الباب الرّئيس للمنزل مفتوحاً قليلاً. أخذت تاتيانا تفكّر: “لماذا لم يخرج خادمانا الطّيّبان والمخلصان “ديمتريوس وكيرللس” لاستقبالنا كعادتهما والمربيّة “دومنا” أيضاً، أين هي؟”… وأخذ الخوف يتسلّل إلى قلبَيهما وشرع ألكسي ينادي: “دومنا! ديمتريوس”… ولكنه لم يلقَ جواباً. دخلا المنزل فوجدا خادميهما مقتولين بطريقة وحشيّة. هرعت تاتيانا مثل المجنونة منادية ابنها الغالي الوحيد ميخائيل، استيقظ ميخائيل لدى سماعه صوت أمّه المدوّي وانتصب في سريره وقال لها بعذوبةٍ:
“أنا هنا، يا أمّي، لماذا تناديني هكذا بقوة وخوف؟”.
تراكضت تاتيانا لدى سماع صوت ابنها وضمّته إلى صدرها قائلة: “أنت بخير يا طفلي!” فأجابها ميخائيل: “نعم، يا أميّ! أنا بخير، لقد عدْتُ إلى النّوم في سريري بعد أن ذهب من ههنا رجل ضخم كبير جداً ذو لحية طويلة، كان قد دخل باندفاعٍ إلى غرفتي، وهو رافع بيده نحو الأعلى هذه اللّعبة!”. وأمسك ميخائيل بسلاح رهيب، كان قد وضعه على السّرير بجانبه وهو معروف باسم “كيستِن” وهو عبارة عن حبل جلديّ متين، تُربط في طرفه كرة حديديّة، يسبّب الموت الحتميّ لكلّ من يُضرب به على رأسه. نظرت تاتيانا برعب إلى زوجها وقالت بصوت متقطّع: “ألكسي! الويل لنا، إنّ توما الذّئب ما زال حيّاً، وهو هنا بالقرب منّا…”. لكنّ ميخائيل أكمل حديثه: “يا أمّي الحبيبة، كنت نائمًا هنا في سريري، عندما سمعته يدفع الباب ذلك العمّ ذو اللّحية والشّعر المنكوش، واستيقظت ولما رأيته يرفع بيده هذه اللّعبة، أخذْتُ من جانب رأسي، البيضة الجميلة الّتي بقيتُ طوال المساء أرسمها، وقدّمتُها له بمحبّة وابتسامة، وقلتُ له: يا عم، المسيح قام”. نظر إليّ وقتاً طويلاً، وحدّق في عينيّ وبدأ شيئاً فشيئاً يُنزل يده الحاملة السّلاح، ثم تركه على سريري، ومدّ يده وهي ممتلئة بالدّماء وأخذ بيضتي. نظر إليها بفضول وقتاً طويلاً ثم رفع عينيه نحوي… وتغيّرت هيئته، وابتسم وقال لي: “حقًا قام” وكان دمعتان تلمعان في عينيه! سألته: “لماذا تبكي؟”، عندئذ ضمّ البيضة إلى صدره وأسرع راكضاً نحو الباب واختفى.
استنفرتِ الشّرطة والمدينة برمّتها للعثور على المجرم… ويا للعجب إذ رآه النّاس واقفًا في الكنيسة يحدّق في أيقونة المسيح ويتمتم بلا انقطاع: “كريستوس فوسكرسي” ويضمّ إلى صدره بيضة الطّفل ميخائيل. كان توما قد تاب توبةً صدوق ولم يتوقّف عن البكاء.
قُبض عليه وأُخذ إلى التّحقيق لكنّه لم يتفوّه ولا بكلمة واحدة رغم قسوة المحقّقين، كان يقول فقط لكلّ من يراه: “المسيح قام”… منذ تلك اللّحظة الفصحية أصبح توما إنساناً جديداً يعيش من أجل المسيح فقط… تغيّرت هيئته بالكليّة وأصبح مثل حملٍ وديعٍ، لذلك لما دعت المحكمة النّاس ليشهدوا ضدّه لم يشهد أحد عليه لأنّه كان قد فاز بثقة الجميع وشفقتهم. جاؤوا بأطبّاء لفحص ما إذا كان قد فقد صوابه وقابله رئيس أساقفة كييف وهو شخص وقور محبّ لله، فكان تعليقه:
“إنّه ليس مجنوناً ولا مريضاً ولا يمثّل كما تعتقدون! بل قد تجدّد بنعمة الرّوح الكليّ قدسه على غرار الكثيرين من الخطأة”.
وإثر ولادة ولي العهد لـ”تسارِفيتس”، أصدر الملك “نيقولاوس الأوّل” عفواً عن كلّ المساجين، فأُطلق سراح “توما الذّئب”. لكنّ السّلطات استمرّت بمراقبته، غير أنّ توما الّذي تحوّل بنعمة المسيح القائم من بين الأموات أصبح إنسانًاً هادئاً يعمل بتفانٍ ويمارس أقسى الأعمال، لا يساوم على أجرٍ، لا يزعج أحداً ويخدم الجميع ويسارع إلى معونة من هم بحاجة.
وعندما انتشر وباء الكوليرا في النّاحية، لم يجرؤ أحدٌ على خدمة المرضى إلا توما الّذي كان ينتقل من منزل إلى آخر ليهتمَّ بالمنبوذين الملقين على أسرّتهم ويداويهم قائلاً: “المسيح قام! أنا هنا! سأعطيك ما تشاء!”… عمل بتفانٍ وصبرٍ وأخيرًا لمّا لاحت تباشير برد الخريف تراجع الوباء…
طلب توما من السّلطات وسكان النّاحية أن يسمحوا له بالذّهاب إلى دير السّيّدة العذراء. فرح الجميع بطلبه وحمّلوه الهدايا والبركات ورافقوه إلى خارج المدينة، أما توما، فكان كعادته ينحني أمامهم باستمرار، يميناً ويساراً ويده اليمنى على صدره ويقول مبتسمًا: “المسيح قام…المسيح قام”
وصل إلى الدّير وطلب أن يرى رئيس الدّير تيخن. اعترف لديه بكلّ الخطايا الّتي ارتكبها من دون تردّد. لم يقدّم أي تبرير ولا تساهل مع نفسه!. الشّيء الوحيد الّذي أكّده أنّه لم يرتكب الجريمة الأولى الّتي حُكم عليه ظلمًا بسببها. أعطاه الأب تيخن الحلّ بعد أن قال له توما بثقة: “نعم، نعم، أيّها الأب الكريم، سأعيش للمسيح كلّ أيّام حياتي”. مكث توما في دير فترةً من الزّمن ثم شاء أن ينسحب ليتنسّك بعيدًا رغم حضّ الشّركة الرهبانية هناك على بقائه معهم. وفيما كان توما مغادراً قال الأب تيخن عنه:
“تائب عظيم، بارٌّ جديد، قدّيس معاصر!… يا له من شرف عظيم لديرنا بمرور هذه النّفس المباركة فيه.”
وانقضت ثلاثون سنةً، وفي أحد أيّام الشّتاء القارس حين كانت الثّلوج تتساقط بكثرة، كان بعض الأمراء والعظماء وغيرهم من النّبلاء قد جاؤوا إلى البرية ليصطادوا الخنازير حول جبال الأورال، وكان بينهم الأمير “ميتيسلاف كانييف”، الّذي كان سابقًا رئيساً للحرس في كييف، وإذ كان يطارد خنزيراً وجد نفسه فجأةً أمام مغارة بدا فيها شيخ وقور أبيض الشّعر طويلاً نحيلاً جداً من شدّة النّسك… اختبأ الأمير وأخذ يراقبه، خرج هذا الشّيخ وركع ورفع يديه عالياً وافتتح صلاته متمتماً:
“المسيح قام المسيح قام المسيح قام… اكفف يا رب غضبك ولتكن رحمتك على شعبك”.
كان الشّيخ يتنفّس بصعوبة وعيناه تلمعان ببريق الموت يتمتم:
“أيّها الرّبّ، يا ربّي، افتح لي أبواب السّماء…”
صُعق الأمير إذ عرف في وجه هذا الشّيخ من كان معه في الفصيلة العسكريّة: إنّه “توما ريزكوف”!…
سقط الشّيخ على الأرض واهناً وأسرع الأمير وأمسك به ووضعه على حضنه، فمال جسده المتعب وقال له: “إذًا، لقد عرفتَني، يا سموَّ الأمير، أنا عبد الرّب الحقير؟…آه، كم بكيت، كم تُبتُ وكم صليت، منذ تلك اللّحظة الّتي أعطاني فيها طفل صغير بيضة فصحيّة حمراء… كم حوّلتني تلك اللّحظة الفصحيّة، وأرشدتني إلى طريق العودة إلى الله، وجعلتني أطلب راكعاً، ليلاً نهاراً الغفران ورحمة ربّنا يسوع المسيح… ها أنذا راحل، راحل متعباً ومنهكاً من شعوري بالذّنب، لكن يا ترى هل غُفرت خطاياي؟” ثم رفع عينيه نحو السّماء وقال: “أيّها الرّبّ، ربّي، افتح لي أبواب السّماء!”، وأمال رأسه وأسلم الرّوح. فجأة عبق المكان برائحة الطّيب ونزل من السّماء الّتي انقشعت غيومها شبه خيوطٍ ذهبيّة لامعة، كأنّها جوق من الملائكة جاءت لتتمّ الخدمة الجنائزيّة. وإذ عاينهم الأمير سمعهم يقولون:
“طوبى لمن اخترته وقبلته يارب، أسكنه في ديارك”… و”كريم لدى الرّب موت بارّه”… و”قليلة هي عذابات الصّديقين، وعظيمة مكافآتهم لأنّ الله اختبرهم فوجدهم أهلاً له، ومحّصهم كالذّهب في البوتقة…”
بقي الأمير مذهولاً أمام هذه الخدمة المرتّلة إلى أن جاء رفقاؤه فأخذوا الجسد وواروه الثّرى بإجلال عظيم وكان النّاس يأتون ليقبّلوا جسده المفيض الطّيب ومئات العصافير تقف على أغصان الأشجار حوله مغرّدة ومرتلةً.
المسيح قام…حقاً قام