لماذا نُعيِّدُ للقيامة؟
يتبيَّنُ من النُّصوص اللِّيتورجيَّة أنَّ الاحتفال بالقيامة يبتدئ في السَّبت العظيم. يجري الكلام عن هذا في خدمة السَّبت العظيم، وكذلك أيضاً في مواعظ الآباء القِدِّيسين الّتي كُرِّسَت في هذا اليوم للقيامة والغلبة.
هذا ظاهرٌ أيضاً في تقليد التَّصوير الإيقوناتي. إنَّ الإيقونة القانونيَّة لقيامة المسيح هي تصويرٌ لنزولهِ إلى الجَّحيم. بالطَّبع، فهناك إيقوناتٌ للقيامة صُوِّرَ عليها ظهور المسيح لحاملات الطِّيب والتَّلاميذ. ولكنَّه في المعنى الأعمق للكلمة تُصوِّرُ إيقونة القيامة الحقيقيَّة سحق الموت، عندما انحدرت نفسُ المسيح المتَّحدة بالألوهة إلى الجَّحيم وأعتقت نفوسَ جميع الّذين كانوا يتواجدون هناك وينتظرونه كمخلِّص. “نُعيِّد لانسحاق الموت وتحطُّم الجَّحيم”، نُرتِّل في الكنيسة. تحطيم الجَّحيم وإماتة الموت هو المعنى الأعمق للعيد.
فلنتفكَّر ما الّذي نعنيهِ حينما نتكلَّم عن الجَّحيم ونزول المسيح إليهِ. كلمة “جحيم” في العهد الجَّديد ترادف اللَّفظة العبريَّة القديمة “شيول”-مملكة الأموات المظلمة غير المنظورة. ففي العهد القديم عُرضت الجَّحيم على أنَّها مكانٌ ما في صُلبِ الأرض، ولكنَّ هذا ينبغي فهمه رمزيَّاً حسبَ مفاهيم تلك الحقبة – وبالتَّحديد، أنَّ الأرض كانت واقعةً في مكانٍ وسط ما بين الجَّحيم والسَّماء. منطلقين من هذا، أنَّ النُّفوس ليست ماديَّةً، ولكنَّها عديمة الأجساد ولا ماديَّةً، فنحن لا يمكننا أن نحسب الجَّحيم مكاناً ما محدَّداً.
يمكننا القول أنَّ نفوس النَّاس المتواجدين في سلطان إبليس والموت، تتواجد في الجَّحيم. بهذا المعنى بالضَّبط ينبغي لنا أن نفهم نزول المسيح إلى الجَّحيم أيضاً. لقد دخل المسيح في سلطان الموافق، وافق على أن يموت الأمر الّذي بعده بقوَّة لاهوته قد غلب الموت تماماً، وأضعفه تماماً وأعطى بقوَّته الذَّاتيَّة فرصةً لكلِّ إنسانٍ أن يتجنَّبَ سيادة وسلطان وقوَّة الموت وإبليس.
إنَّ ما يعيننا على فهم هذا هو مقال القِدِّيس يوحنَّا الذَّهبيُّ الفم للموعوظين، الّذي يُقرأ في كلِّ سنةٍ بعد قُدَّاس الفصح. فإلى جانب الأمور الأخرى يُقال فيه، بأنَّ الجَّحيم، حين استقبلت المسيح، قد “تمرمرت وفقدت قوَّتها واستُهزئَ بها وأُميتت وأُفرزت وقُيِّدت”. وبعد هذا يُقال بأنَّه بموت المسيح على الصَّليب، تقبَّلت الجَّحيم جسداً ميِّتاً، ولكنَّها قد تبيَّن أنها واقفةٌ بإزاء الله، لقد تقبَّلت أرضاً وتراباً، ولكنَّها قد لاقت سماءً، تقبَّلت ما كانت تنظرهُ-وهو بالذَّات الجَّسد البشريَّ والطَّبيعة البشريَّة، ولكنَّها قد غُلِبَت ممَّا لا تراه أي من الألوهة.
إنَّ يومَ السَّبت العظيم، حينما نفس المسيح، قد تواجدتْ مع الألوهة في الجَّحيم، وأمَّا جسده فكان في القبر، حينما غُلبت قوَّة الشَّيطان والموت، تعتبره الكنيسة الأرثوذكسيَّة يوماً عظيماً، حيث أنَّه متَّصلٌ بيومِ القيامة.
في النُّصوص اللِّيتورجيَّة يُقابَل اليوم السَّابع للخليقة، الّذي فيه الله قد “استراح من جميع أعمالهِ” بعد خلق العالم والإنسان مع يوم السَّبت العظيم، حينما المسيح أيضاً قد استراح من كلِّ ما صنعه لخلاص الإنسان. لذلك فإنَّنا نُرتِّل في هذا اليوم: “هذا هو السَّبت المبارك”.
نعلم من سفر التَّكوين، بأنَّهُ بعد أن خلق الله في ستَّة أيَّامٍ العالم بأسره والإنسان، فإنَّه قد استراح في اليوم السَّابع من أعماله (تكوين2: 3). لذلك أُوصيَ موسى في اليوم السَّابع-السَّبت، ما يعني “استراحة” “سبات”، بأن يستريح اليهود ويُكرِّسوا اليوم بأكمله للصَّلاة والخدمة الإلهيَّة (خروج12: 16).
ثمَّة تفسيرٌ الّذي حسب نصِّهِ فإنَّ وصيَّة ترك كلِّ عملٍ في السَّبت كانت قد أُعطيَّت من الله قبل كلِّ شيءٍ لأجل إعادة جبلة الإنسان وتجديده، الّذي كان ينبغي أن يتمَّ بموت المسيح على الصَّليب وبقيامته. لقد وُضِعت بدايَّة الخلق الجَّديد للإنسان في يوم السَّبت العظيم، ولكنَّ البدايَّة الظَّاهريَّة والملموسة للخلق الجَّديد قد أُعلنَ عنها في يوم القيامة. لذلك ونحن أيضاً، بالرُّغم من كوننا نكرِّم السَّبت بصفته “يوم إعادة جبلتنا”، إلَّا أنَّنا نكرِّم بالأكثر يوم القيامة.
إكرام يوم السبت في التقليد الأرثوذكسي
إكرام يوم السَّبت له في التَّقليد الأرثوذكسيِّ معنى آخر أيضاً. إنَّه يُشكِّلُ راحةً للإنسان، تسالماً وما يُسمَّى بالصَّمتِ المقدَّس-الهدوء، في ملء هذا المعنى كلِّه. إنَّ الرَّسول بولس، بقوله أنَّ السَّبت يبقى فرضاً على شعب الله يقول: “وهكذا، فلنجتهد أن ندخلَ في هذه الرَّاحة…” (عبرانيِّين4: 11). إنَّ القِدِّيس غريغوريُّوس پالاماس يقول بأنَّه حينما يفصل الإنسان عن ذهنه كلَّ فكرٍ وبوساطة الإصرار والصَّلاة غير المنقطعة يُعيد ذهنه إلى قلبهِ، فإنَّه حينئذٍ سيغطس في الرَّاحة الإلهيَّة، أي في رؤيَّة الله وتأمُّل الله.
إنَّ هذه الرَّاحة وهذا الصَّمتُ ليسا عبارةً عن بطالةٍ عن العمل، كما قد يظنُّ أحَّدٌ، ولكنَّهما عملٌ عظيمٌ. كما أنَّ الله، الّذي رغم كونه استراح في اليوم السَّابع، قد استمرَّ في حكمه للعالم، هكذا الإنسان أيضاً، بثباته في حالة التَّأمُّل الرُّوحيِّ، يبدع عملاً عظيماً – يتَّحد بالله، ومن بعد هذا يُحِبُّ كلَّ ما يُحِبُّه الله أيضاً. لذلك يمكننا أن نقول، بأنَّه في حالة هذه الرَّاحة يمكن لكلِّ واحدٍ أن يعيشَ قيامة المسيح. فكلَّما دخل أحَّدٌ ما في السَّبت الإلهيِّ، في الرَّاحة الإلهيَّة، كلَّما عاش القيامة. إنَّ التَّمنيَّات بـ “القيامة السَّعيدة” ينبغي أن تترافق مع التَّمنيَّات بـ “الرَّاحة السَّعيدة”.
(عن كتاب “الرُّوحانيَّة الأرثوذكسيَّة” لمطران نافپاكت إيروثيُّوس ڤلاخوس)