متروبوليت اللاذقية وتوابعها جبرائيل دميان
السيرة الذاتية
في بلدة الصورية بالقرب من أنطاكية (العاصمة الرمز لكرسينا الانطاكي المقدس) الغافية في احضان الطبيعة الخلابة للواء الاسكندرون السليب، وفي جو مسيحي أرثوذكسي صرف وصافٍ، كما أرياف اللاذقية…
في هذا الموقع القروي الجميل والروحي الايماني الرائع ولد علمنا المطران جبرائيل في 25آذار شرقي سنة 1891م من ابويه التقيين دميان ورحمه صباح عيد البشارة فسماه والده جبرائيل على اسم الملاك المبشر.
استبشر والداه به خيراً وتوسما له بركة العيد، وعمداه يوم الاثنين المقدس (الفصحي) الواقع في 22 نيسان (ش) سنة 1891
أخذ الصبي ينمو ويترعرع في النعمة والقامة، وعندما زار مطران أبرشية اللاذقية الجديد أرسانيوس (حداد) بلدة الصورية سنة 1902، أعجب بنباهة الصبي وصوته الفضي الرنان والجميل، فتوسم فيه الخير للكنيسة، وأحضره إلى اللاذقية حيث ألبسه ثوب الابتداء في الرهبنة في 15 أيلول شرقي سنة 1903 ورتب حياته في المطرانية وتعهد أمر تدريسه.
دراسته ورسامته
واظب على دروسه مدة ست سنوات في مدرسة اللاذقية التابعة للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية- الروسية الارثوذكسية بتفوق واضح، وأظهر فيها اجتهاداً وذكاءً وتفوقاً مما حدا بإدارة المدرسة إلى إيفاده بمنحة إلى روسيا لمتابعة دروسه فيها.
فأوفد في سنة 1908 إلى مدينة سينغروبول في شبه جزيرة القرم، ودخل سيمنارها اللاهوتي (معهدها) وكان طالباً نشيطاً مجداً، حيث سار في صفوفه طالباً مجداً ناجحاً محبوباً تزينه التقوى والسلوك الحسن.
شرطن شماساً في 16تشرين الأول 1910 وفي صيف 1914 أنهى المعهد اللاهوتي، في عداد الخمسة الأول الذين يحق لهم دخول أكاديمية بطرسبرغ اللاهوتية، وفيما كان يتلقى دراسته العالية في الأكاديمية وجد لديه وقتاً كافياً فدخل معهد الأركيولوجيا الكنسية( علم الآثار)، وفي سنة 1918 أحرز شهادة المعهد مع شهادة الاكاديمية.
قيام الثورة الشيوعية في روسيا
في ذلك العام 1918 قامت الثورة الشيوعية في روسيا، لذا لم يستطع العودة الى الوطن، فرُسم كاهناً في 23شباط1919 وعين كاهناً لإحدى كنائس العاصمة موسكو، وعضواً في لجنة الرقابة على المطبوعات اللاهوتية وبقي كذلك حتى تيسر له الرجوع الى اللاذقية سنة 1925 وبقي حتى تيسرت له العودة إلى اللاذقية فوضع نفسه تحت تصرف معلمه مطران اللاذقية أرسانيوس فأناط به إدارة مدرستي البنين والبنات الارثوذكسيتين، والقاء الدروس الروحية فيهما، وتولى رعاية كاتدرائية القديس جاورجيوس باللاذقية، طوال عهدي المطرانين أرسانيوس حداد وتريفن غريب.
انتخبه المجمع الإنطاكي المقدس يوم الخميس 10/3/1960 مطراناً على أبرشية اللاذقية خلفاً للمطران تريفن غريب.
انتخابه ورسامته مطراناً
بقي يمارس مهامه ككاهن باللاذقية حتى تم انتخابه بفعل الروح القدس مطراناً على اللاذقية وتوابعها يوم الخميس في 10 آذار سنة 1960 حين انعقاد المجمع الانطاكي المقدس في الدار البطريركية بدمشق.
تمت رسامته في الكاتدرائية المريمية بدمشق في 20/3/1960 برئاسة البطريرك ثيوذوسيوس السادس، باشتراك مطارنة زحلة (نيفن سابا)، حمص (ألكسندروس جحى)، حماة (إغناطيوس فرزلي)، صور وصيدا(بولس الخوري)، المعاونين البطريركيين الأسقفين سرجيوس (سمنة) وألكسندروس (عسّاف)، وعدد من الاكليروس البطريركين وخدم القداس الالهي المرتل الشهير ايليا سيمونيذس وكان المرتل اليسار توفيق الحداد احد اهم الاصوات النادرة في تاريخ الترتيل الانطاكي ودمشق حصراً، بحضور جماهير غفيرة من دمشق ومن ابرشية اللاذقية.
سلم غبطته المطران الجديد عكاز الرعاية، ألبسه التاج المذهب. والشعب اللاذقي والدمشقي يردد بالهتاف “مستحق…”
وفي يوم الخميس 24 آذار 1960 دخل علمنا بموكب رسمي وشعبي إلى قاعدة ابرشيته اللاذقية برفقة مطراني زحلة نيفن، وحمص الكسندروس وقد رافقته الوفود الشعبية التي حضرت رسامته في مريمية الشام بموكب سيارات، وصحبته بقية جماهير الابرشية تقدمها الكهنة والرعاة حيث دخل كاتدرائية القديس جاورجيوس وهناك صلى صلاة الشكر مع الوفد البطريركي وتسلم مقاليد الأمور في ابرشيته هناك.
رعايته لحظيرة اللاذقية
ساس علمنا أمور أبرشية اللاذقية بهدوء وسلام، بعد نشوء الازمة العصيبة المسماة “الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة بزعامة المطران ابيفانيوس زائد وانسلاخه واتباعه عن الجسد الانطاكي الواحد، وبالتالي ظهورازمة النافرين من مطران اللاذقية السابق تريفن غريب آنذاك حيث انقسمت الرعية اللاذقية المعروفة بصدق انتمائها الارثوذكسي الانطاكي.
وفي عهدعلمنا المتروبوليت جبرائيل وبفضله وحسن رعايته عادت الأمور إلى طبيعتها وعاد لأبرشية اللاذقية مطران واحد، ويرعى رعية واحدة تلتف حوله. فقد عاش حياته ناسكاً متواضعاً زاهداً في متاع الدنيا، طاهر السيرة، ممدوح الخصال، محباً وعطوفاً على المحتاجين، راع من الطراز الأول لرعية تحتاج الى هكذا راعٍ، كان متفانياً في خدمة الرعية وإقامة الصلوات وزيارة المرضى متمثلاً بقول السيد له المجد”لأجلهم انا أقدس ذاتي”، مترفعاً عن المادة فقد وزع أمواله على الفقراء والمحتاجين والكنائس والمدارس والمشاريع والمؤسسات الخيرية، فوزع خلال مدة رئاسته للأبرشية خمسين ألف ليرة سورية وهي فيذاك الوقت تمثل ثروة، ولكن لسان حاله يردد قول السيد له المجد “أعط مالله لله”
كان علمنا متغرباً عن هذه الدنيا يتشوق الى الانطلاق للانضمام الى الآباء. وفي أيام مرضه كان يتكلم الغريب عن حلول موعد عودته الى وطنه وأهله.
وفاته
لبى علمنا نداء ربه، فجر يوم الثلاثاء 26/4/1966 في مستشفى القديس جاورجيوس لأرثوذكسي (مستشفى الروم) في بيروت، إثر نوبة قلبية لم تمهله أكثر من دقيقتين، فقد تعب هذا القلب الكبير بعد جهاد طويل، وطلبت نفسه الراحة في احضان ابراهيم مع مصاف القديسين الابرار حيث ” مالم تره عين ولم تسمع به اذن ولم يخطر على بال انسان ما اعده الله للذين يحبونه” (1كو9:21) وحيث “يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت ابيهم” (متى 43:13)
وتلقت اللاذقية التي تعترف بفضله واياديه البيضاء عليها، وبتفانيه في خدمتها قد آلمها هذا الخبر الحزين فتلقفته بألم شديد، وتشكلت الوفود وأتت إلى الحدود السورية اللبنانية بانتظار وصول جثمان الفقيد وقد وصلموكب الجثمان يرافقه الموفد البطريركي الاسقف اغناطيوس (هزيم) رئيس دير البلمند(البطريرك السابق)، يرافقه الارشمندريت اسبريدون خوري، ولفيف من كهنة الأبرشية.
وما لبث الموكب أن توقف مرات عديدة في الطريق حيث كانت وفود من قرى الأبرشية بانتظار الموكب باكية على الراحل الكريم.
ووصل الموكب إلى اللاذقية التي خرجت بكبيرها وصغيرها لتستقبل من رعاها بمحبته سنين طوالاً كاهناً ثم أسقفاً، واعاد لها اللحمة، وحملوا نعشه على الأكف يتقدمه الأرشمندريت يوحنا (منصور) المعتمد البطريركي في اللاذقية (مطران اللاذقية الحالي)
سجي جثمانه في كاتدرائية القديس جاورجيوس، وعرض للتبرك يومي الأربعاء والخميس حيث لثم يمينه آلاف من مؤمني الأبرشية
أجريت مراسم الجناز يوم الجمعة 29//19664 برئاسة سيادة المطران أبيفانيوس (زائد) متروبوليت عكار، ومشاركة: متروبوليت حلب المطران إلياس (معوض) (البطريرك) والأساقفة: فلاديمير المعتمد البطريركي الروسي في دمشق، والمعاونان البطريركيان في دمشق الأسقفان سرجيوس (سمنة)، ألكسندروس (عسّاف).
ألقى المطران أبيفانيوس عظة أبّن فيها الفقيد الكبير، مشيداً بمناقبيته وبأعماله على الصعيدين الروحي والوطني، وعدد صفاته، ثم وري سيادته الثرى في مدفن رؤساء الكهنة والكهنة في مقبرة الفاروس باللاذقية.
كان سيادته يتقن الترتيل الكنسي الرومي كما الروسي، كما كان يتقن اللغتين الروسية والسلافونية (الروسية القديمة) ويلم باليونانية والتركية والسريانية، له كتاب “رفيق المسيحي” في ثلاثة أجزاء، وقد طبعه على نفقته الخاصة ووزعه مجاناً لفائدة أبناء رعيته الأرثوذكسية وهو عبارة عن محادثات دينية بين شخصين حول الفروقات بين الطوائف والكنائس.
مشكلة انتخاب خلف للمطران جبرائيل
عانت أبرشية اللاذقية الأمرين بعد وفاة مثلث الرحمات المطران جبرائيل، فقد رشح المجلس الملي في جلسته المنعقدة في دار المطرانية برئاسة مطران حماه اغناطيوس حريكة فيها ثلاثة إكليركيين هم: الأسقف إغناطيوس هزيم، الارشمندريت جورج خضر (مطران جبل لبنان –استقال) والارشمندريت قسطنطين بابا استيفانو (مطران بغداد والكويت- استقال) لينتخب المجمع الانطاكي المقدس أحدهم مطراناً للاذقية
وذلك حسب القانون المرعي الإجراء آنذاك.
انتخب المجمع الأنطاكي الأسقف إغناطيوس (هزيم) متروبوليتاً على اللاذقية، ولكن في ذات الوقت اجتمع المطارنة: أبيفانيوس زائد (عكار)، باسيليوس سماحة (حوران)، بولس الخوري (صور وصيدا)، ميخائيل شاهين (توليدو أوهايو) وانتخبوا الأرشمندريت أنطونيوس الشدراوي مطراناً على اللاذقية
ولكن شعب اللاذقية ممثلاً بمجلسه الملي والمعتمد البطريركي قدس الأرشمندريت يوحنا أصرَّ ووقف إلى جانب الشرعية التي يمثلها غبطة البطريرك والمجمع المقدس، هكذا حتى استطاع المتروبوليت الجديد استلام زمام الأمور في أبرشيته
مصادر البحث
مجلة النور عدد3 و4 ص 112 و113 لعام 1960
مجلة النعمة، مجلد 1966
فايز فضول، تاريخ أبرشية اللاذقية الموثق، 2008
ميلاد جبارة- المنتدى