الأيقونة المُنقذة
في كنيسة “فرح المحزونين” في “سانت بطرسبرج” توجد أيقونة لسيدة “قازان”، كُتب عليها بالأحرف اللاّتينيّة wsu schizn”
وقد روت إحدى المؤمنات اللّواتي يرتدن هذه الكنيسة ويصلين فيها قصة هذه الأيقونة العجائبيّة.
الواقعة
ذات يومٍ دخلت إمرأة عجوز إلى الكنيسة ولوحّت بذراعيها عندما رأت أيقونة والدة الإله قازان المعلّقة في الكنيسة وصرخت بتعجّب: “من أين جاءت هذه الأيقونة؟!. فأنا أعطيتها لجنديٍّ ألمانيٍّ!. أعرفها من ثقبٍ مميّز يوجد في إطارها”. فأخبرتُها أنّ القنصليّة الألمانيّة هي الّتي وهبت هذه الأيقونة لكنيستنا. فانفجرت السّيّدة بالبكاء، وقالت لي إنّ اسمها “فيرا”. وقصّت عليّ كيف وصلت أيقونة عائلتها الأرثوذكسيّة إلى ألمانيا…
كانت قريتي ساحةً للمعارك وأردت أن أغادرها مع أختي وأولادي الثّلاثة، لكنّ والدتي مرضت مرضاً خطيراً وما كانت لتنجو في الرّحلة. فوعدت أختي أن ألاقيها في وقت لاحق، وأرسلتها مع أولادي إلى مكانٍ قرب “ريازان” حيث كانت تسكن عمةٌ لي ضمن “مزرعة تعاونية” وبقيت أنا مع والدتي الّتي ما لبثت أن رقدت بعد شهر من رحيلهم، لكن قبل رقادها باركتني بأيقونة والدة الإله “قازان” الّتي للعائلة. وكان جدي قد باركها بهذه الأيقونة قبل زواجها وهي باركتني أنا وزوجي “ساشا” قبل زواجنا رغم أنّه كان في الحزب الشّيوعيّ.
إثر وفاتها، غادرتُ منزلي لاجئةً والأيقونة في حقيبتي البالية. جلستُ تحت الخيمة في محطة القطار، متأمّلةً العاصفة الثّلجيّة الهوجاء، لم يكن باستطاعتي التّفكير بأي شيء آخر، كنت أحاول فقط أن أُخفي أصابعي في كُمَّي معطفي الرّقيق.لم أكن أشعر سوى بالبرد والجوع.
وصل القطار إلى المحطة وانفتحت أبوابه. وقف الجنود الألمان في صفٍّ وكانوا يناولون بعضهم بعضاً علباً كبيرة، ففكّرت في نفسي غير مبالية “إنّهم ينقلون الأسلحة”. لكن فجأة، أحسست بألمٍ في قلبي: “إنّهم يسيرون إلى الأمام، حيث يُقاتل “ساشا”! وسيطلقون النّار عليه بهذه البنادق، وعلى كلّ الجنود الرّوس…آه كم هم ملعونون.”!!!
والغريب أنّ الدوريّة الألمانيّة لم تُعر أيّ انتباهٍ لي، وأنا امرأة وحيدة، هزيلة من كثرة الجوع… لم أكن أذكر متى تناولت الطّعام لآخر مرّة…!
كنت، منذ زمن، قايضت ساعتي وخاتم زواجي وأقراط والدتي من أجل الحصول على طعام. وضعت يدي على حقيبتي وقلتُ: “يا والدة الإله الكليّة القداسة، تشفّعي من أجلي أمام الله… خلّصي واحفظي أولادي وأختي “ناديا”… خلّصي واحفظي زوجي، عبد الله ساشا.”
فجأة سمعتُ كلمات في أذني تقول لي: “ما بك؟!”. رفعتُ رأسي ورأيت جندياً ألمانياً جالساً بقربي على المقعد. أحسست بالودِّ في كلماتِهِ، فأجبته: “الحالة سيّئة”.
كان الألماني جالساً بقربي واضعاً حقيبة ظهره المملوءة على الأرض، وبعد التّفتيش في داخلها، مدّ يده وناولني قطعةً من الخبز عليها شريحة رقيقة من اللّحم وقال لي: “نيمت!” (أي “خُذي” باللّغة الألمانيّة). أخذت الهدية والتهمتها. ثم أخرج الألمانيّ “ترمساً” وسكب لي بعضاً من الشّاي وقال: “هيسّ! غوت!…” (ساخن! لذيذ!)… ربّما كان هذا الجندي من حرّاس هذه المحطّة. كان يبدو في العشرينات من عمره، عيناه زرقاوان، نظرته طفوليّة. ربّما كان شعره فاتحاً مثل شعر ابني “أندرَيْكا”، لكنّي لم أستطع رؤيته بسبب القبّعة.
أشار الألماني نحو القطار ثم ليّ، كان يحاول أن يجد الكلمات ثم سألني: “بعيد؟ بعيدًا!”…
على الفور حاولت أن أفسّر له أنّي كنت آمل الذّهاب إلى بيت عمّتي، لكنّي الآن لست أملك شيئاً… وفي نهاية المطاف أنهيت الحديث بقولي: “عندي أولاد هناك “كيندر” هل تفهم ما أقول؟!”. ورسمت شكلهم بيدَيّ كأنّهم واقفون أمامي. فأومأ الشّاب برأسه وقال: “آه، نعم، كيندر!”… وأكملتُ: “لكنّي لن أصل إليهم لأنّي سأتجمّد هنا”… لم أكن أشعر بأنّي أبكي.
ومن جديد أخرج الجندي من حقيبته حزمة ثقيلة وقال: “هاكِ، خذي” وفتح الحزمة ولمس محتوها، ولحس إصبعه وقال: “غوت”.!
كانت الحزمة تحتوي على الملح، الملح… الّذي كانت قيمته كالذّهب في تلك الأيّام. كان بإمكان المرء أن يحصل على الخبز والحليب وأي غرض آخر بالملح… وكانت الحزمة فيها أكثر من ثلاثة كيلوغرامات من الملح. وكان الجندي يُقدِّمُ لي هذه الحزمة، وأنا امرأة روسيّة غريبة. وإذ رأى الدّهشة على وجهي، ابتسم وقال كلمات لم أفهمها. ثم وقف، وأغلق “التّرمس” ووضعه في حقيبته ولوّح لي بيده وانصرف.
انطلقت وراءه قائلة: “قِفْ!”، فقال لي “واس إيست إيس؟(ماذا هنالك؟)”، فقلتُ له بكلّ ثقة: “هذه الأيقونة ستحفظ حياتك كُلَّها”، فلم يفهم، فردّدتُ الجملة عينها. فأخرج قلماً من جيبه، وأدار الأيقونة وطلب منّي أن أعيد ما قلته له، فردّدتُ له ببطءٍ متهجّيةً الأحرف، أما هو فكان يكتبها بالأحرف اللّاتينيّة : “Eta ikona budit hranit was wsu schizn”
لم نلتقِ بعد هذه الحادثة… لكنّي استطعت أن أقايض الملح بملابس دافئة وحذاء مبطّن وخبز ووصلت إلى “ريازان”، وعاد زوجي ساشا من الحرب عام 1945
يتابع كاهن الكنيسة
استمعتُ بانتباه إلى هذه المرأة المضطربة، وقلت لها بفرحٍ ما سمعناه من ممثّلي القنصليّة الألمانيّة الّذين وهبوا هذه الأيقونة لكنيستنا، لأنّ هذا الجندي الألماني خرج من الحرب من دون أي ضرر. مات زملاؤه أمام عينيه، مرّة انفجرت شاحنة كان فيها، لكنّه استطاع أن ينجو إذ رمى بنفسه في لحظة الانفجار، أما الجنود الباقون فقد لاقوا حتفهم. ومرّة أخرى في نهاية الحرب، سقطت قنبلة على ملجأ تحت الأرض كان قد غادره منذ لحظات. فكان يشعر أنّ القوّة الخفيّة في هذه الأيقونة الرّوسيّة كانت تنجّيه في كلّ مرّة.
أدرك هذا الجنديّ الأمور الأساسيّة في الحياة بشكل أفضل وأعاد تقييم حياته، وأنفتحت روحه على الصّلاة.
عاد إلى بيته وتزوّج وأنشأ أولاده على التّقوى. ووضع الأَيقونة في صندوق جميل من الزّجاج في منزله في مكانٍ مكرّمٍ وكان يصلّي أمامها طيلة حياته.
عندما شاخ، طلب من إبنه البكر أن يُعطي الأَيقونة إلى القنصليّة الرّوسيّة بعد موته. قال له: “هذه الأيقونة عاشت في روسيا ويجب أن تعود إلى هناك. فليذهبوا بها إلى “لينينغراد”، المدينة الّتي قاومت الحصار، وماتت من البرد والجوع ولم تستسلم.
هكذا وصلت أيقونة “والدة الإله قازان” مع الكتابة الغريبة المنقوشة عليها في منتصف التّسعينات إلى إحدى الكنائس الّتي أُعيد فتحها في سانت بطرسبرج، وكان كاهنها في تلك الفترة المتقدّم في الكهنة “ألكسندر تشيستياكوف”
(الأرثوذكسي)