أبونا الجليل في القديسين مرقس أسقف أفسس
مدخل: واقع الامبراطورية
تعرضت القسطنطينية منذ أول العقد الخامس في القرن 15 للحصارالخانق من قبل العثمانيين لاقتحام أسوارها، وإسقاط هذه المدينة المتملكة التي لم يبق إلاها رمزاً للأمبراطورية الرومية، عاصمة المجد الرومي الارثوذكسي الزاهي لعشرة قرون زاهية في خدمة كنيسة الله والدفاع عن العقيدة كتابة وتأليفاً ومجامع مسكونية حوفظ فيها على الكنيسة وتم قهر كل البدع والهرطقات.
لعبت القسطنطينية هذا الدور القيادي الروحي منذ تكريسها “مدينة لله” عاصمة للأمبراطورية الرومانية الشرقية (الرومية) بدون أوثان بيد قسطنطين الكبير عام 320م، وقد حظر فيها قسطنطين وجود اي وثني وإقامة اي معبد وثني أو طقس وثني فيها.
في تلك الفترة التي تعرضت لمحاولات العثمانيين لاقتحامها، وبعد خسارتها عسكرياً كل اراضيها في آسية الصغرى، لم يبق من الامبراطورية البيزنطية الا القسطنطينية المحاطة بأسوارها المنيعة ومحيط ضيق يحيط بالأسوارفقط، وكانت تقع على مدخلها البحري المغلق بأضخم سلسلة فولاذية لمنع المراكب البحرية المعادية من الدخول في هذا الخليج وذلك عبر تاريخها…
في تلك الفترة العصيبة من عمرها، كان عدد سكانها حوالي 150 الف يوناني، وكان يدافع عنها فقط كما يشهد المؤرخون المعاصرون جيش صغير ويستدل من افضل المراجع المعاصرة على ان عدد المحاربين الروم لم يتجاوز ال4973 رجلاً وان عدد الأجانب المقاتلين معهم تراوح بين الألفين والثلاثة آلافن وان سلاح هؤلاء كان ابيض، وانه لم يكن لديهم سوى بعض المدافع المتوسطة الحجم وان القوة البحرية كانت مؤلفة من سبع بوارج وان الذخيرة لم تكن كافية وان الأمبراطور اضطر ان يسك النقود من فضة الكنائس.
وكان وضع القسطنطينية الاقتصادي والعسكري إذن صعباً جداً نتيجة هذا الحصار، وكان الغزاة الأتراك (بقيادة أعظم القادة الحربيين وقتئذ وهو السلطان محمد الثاني) على أبوابها ووفق شهادات المؤرخين المعاصرين كان يبلغ عدد القوات العثمانية المحاصرة 150 الف جندي انكشاري (الانكشارية تعني الجيش الحديث) مع 150 الف من القوات الرديفة المسماة بالدراويش، وهم مقاتلون اشداء ومرتزقة من كل الجنسيات وقتئذ مهمتهم ان يكونوا طلائع الهجوم الضاري، وتنظيف الجيوب المعادية بعد الفتح، وكان أجرهم إطلاق أيديهم في السلب وهتك الاعراض والسبي. والقسطنطينية كانت تلك المدينة الدسمة بكل شيء وتسيل لعاب كل الغزاة عبر التاريخ… والقوات الغازية كانت تمتلك مئات المدافع المتنوعة الاحجام، إضافة إلى أكبر مدفع بالتاريخ صنعه مهندس مدفعية نمساوي بناء على طلب السلطان محمد من اجل حصار القسطنطينية، وكان يحتاج لتنظيفه دخول رجل الى داخل سبطانته الضخمة… إضافة الى عشرات المنجنيقات التي كانت ترمي بأحمالها التدميرية من الاحجار الضخمة والحمم من النار الاغريقية وكتل اللهيب المشتعلة على هذه المدينة الآمنة ببيوتها وكنائسها العظيمة…
كان أمام الإمبراطور والبطريرك والمجمع المقدس أحد خيارين لا ثالث لهما:
1- السقوط في أيدي الأتراك وبالتالي القضاء على الامبراطورية الرومية…
2- الاستسلام للاتين الذين يتوجب عليهم ان يكونوا حماة ظهر القسطنطينية وهي حاميتهم كونها بوابة البلقان واوربة الغربية.
اكيد كان يجب ان تتوجه القسطنطينية إلى إخوتها في الإيمان المسيحي لمساعدتها في صد هذا الخطر المخيف القادم على الجميع وهي في الواقع كانت تصده عبر كل تاريخها خلال القرون العشرة ضد الغزو الفارسي والاسلامي الناشيء…
بالرغم من القطيعة، قام الأمبراطور قسطنطين الحادي عشر بترميم الأسوار وذَّخر المؤون وراسل يوحنا هونيادي والفونس الخامس ولوح بامتيازات هامة لكل من البندقية وجنوا وكتب الى البابا نيقولاوس الخامس، ولكنه لم يتلق من الغرب شيئاً سوى شخص ايسيدورس الذي كان قد اصبح كاردينالاً، فإنه جاء من رومة موجباً اعلان اتحاد الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية في كاتدرائية الحكمة الالهية وذكر البابا في الذبتيخة (تسلسل البطاركة)
لكن الأمبراطور قسطنطين الحادي عشر كان يسعى لاستدرار معونات رومة واوربة الغربية عسكرياً، لكنه لم يتلق الا وصول سبع مائة محارب جنوي بقيادة الأميرال يوحنا الجنوي، والح سفير البندقية والكاردينال ايسيدورس على الأميرال تريفيزانو الذي كان قد واكب الكاردينال ان يبقى في مياه القسطنطينية لكن ربابنة البوارج آثروا الخروج على البقاء وحذا حذوهم أهل الحل والربط من رجال الجالية الجنوية فقالوا بأن بقاءهم على الحياد يكون في صالح الروم.
شرط الخضوع لرئاسة البابا
هؤلاء يوحنا والفونس وافقوا على تقديم المساعدة وخاصة العسكرية في مقابل إعلان الوحدة بين الكنيستين الأرثوذكسية الكاثوليكية. وكان هذا يعني “خضوع الأرثوذكسية لبابا رومية كونه رأس الكنيسة” وفق شروطه التي فرضها على الامبراطور قسطنطين الحادي عشر ليقدم ملوك أوربة المساعدة العسكرية للقسطنطينية في مواجهة الغزو التركي،
هذه الشروط “أولوية البابا ورئاسته للكنيسة” هي التي أدت الى “الانشقاق الكبير بين الكنيستين منذ 1053م كنتيجة لمحاولة فرض الهيمنة والرئاسة البابوية، مع محاولات الاستيلاء على رومانيا والبلقان الارثوذكسية واوكراينا تبشيرياً.
في تلك الفترة لمع نجم القديس مرقس في وقت من أصعب الأوقات التي مرت بالإمبراطورية البيزنطية.
نبذة في سيرته الذاتية
ولد القديس مرقس في كنف عائلة تقية في القسطنطينية حوالي العام 1392م. درس على خيرة المعلمين وكان لامعاً. أضحى، منذ سن مبكرة، أستاذاً في المدرسة البطريركية القسطنطينية.
الحياة الديرية
ترك كل شيء وهو في السادسة والعشرين من عمره، وترهب في دير صغير قريب من نيقوميذية، ثم انتقل إلى دير القديس جاورجيوس في القسطنطينية بعدما اشتدت وطأة الأتراك على تلك الناحية.
انصرف في حياته الديرية إلى حياة الصلاة وخدمة الإخوة ودراسة آباء الكنيسة.
التأليف
وضع عدداً من المؤلفات العقائدية في خط القديس غريغوريوس بالاماس، كتب عن الصلاة. علمه وفضله لفتا الإمبراطور إليه.
أسقفيته على أفسس
كان الإمبراطور قسطنين الحادي عشر في صدد الإعداد لمجمع كبير بشأن مشروع الوحدة مع الكنيسة اللاتينية آملاً في الحصول على دعم البابا وأمراء أوروبا( كما مر) بناء على الوعد البابوي وشروط تنفيذه بالمقابل.
جُعل مرقس أسقفاً على أفسس وضُم إلى الوفد البيزنطي ممثلاً بطاركة أورشليم وأنطاكية والإسكندرية. كان في عداد الوفد البيزنطي الإمبراطور والبطريرك يوسف الثاني وخمسة وعشرون أسقفاً. أبحر الوفد إلى إيطاليا بهمة وحماس. كان يؤمل أن تتحقق الوحدة المرتجاة بسرعة. وصل أعضاء الوفد إلى فراري.
تبين، شيئاً فشيئاً، أنهم أدنى إلى المساجين. ولم يسمح لهم بمغادرة المدينة.
مجمع فراري في إيطاليا
افتتحت جلسات المجمع في فراري
تضمن جدول اعماله البنود البابوية التالية ادناه ليقبلها الجانب الارثوذكسي وهي
1- انبثاق الروح القدس من الآب والابن.
2- المطهر.
3- التقديس على الخبز الفطير، والتكريس بكلمات التأسيس وحدها أو باستدعاء الروح القدس.
4- أولية البابا.
عولجت، بدءاً، المسائل الأقل تعقيداً.
طرح موضوع المطهر. تكلم مرقس عن الفريق الأرثوذكسي. قال: “لا شك أنه يمكن لنفوس الموتى أن تنتفع وحتى للمدانين أن يتنيحوا نسبياً بفضل صلوات الكنيسة ورأفة الله التي لا حد لها. أما فكرة العقاب قبل الدينونة الأخيرة والتطهير بالنار المحسوسة، فغريبة تماماً عن تراث الكنيسة”.
انتقل البحث، بعد أسابيع، إلى مسألة “الفيليوكوي، أي انبثاق الروح القدس من الآب والابن”. مرقس كان واضحاً وحازماً. سبعة أشهر من المباحثات انقضت دون نتيجة.
نقل المجمع الى فلورنسا في ايطاليا
نقل البابا أفجانيوس الرابع المجمع إلى فلورنسا. بيصاريون، أسقف نيقية، وأيسيدوروس أسقف كييف وسواهما كانوا مع الوحدة تحت رئاسة البابا بأي ثمن. سعوا في الكواليس إلى إقناع الفريق الأرثوذكسي بأن اللاتين ليسوا على خطأ فيما يختص بانبثاق الروح القدس. زعموا أن العقيدة هي إياها، لكن اللاتين يعبرون عنها بلغتهم وبطريقتهم الخاصة. اللاتين ضغطوا. كان الأرثوذكس في وضع صعب للغاية. لاسيما ومصير القسطنطينية والإمبراطورية البيزنطية في خطر والأتراك على الأبواب. الاستعداد لدى الأكثريين كان إلى التمييع والتساهل والتخفي وراء كلامية تترك للجميع أن يفسروا الأمور، كلاً حسب هواه وعلى طريقته. المهم أن تتحقق الوحدة ولو كلامياً.
موقف القديس مرقس من الوحدة
هذا كان الجو المسيطر، كل الأرثوذكس بدوا مستعدين للتنازل والرضوخ للأمر الواقع تحت ستار الوحدة إلا مرقس فقد ثبت على موقفه ولم يتزحزح. لسان حاله كان:
“لا مسايرة في مسائل الإيمان!” وقرر أن ينسحب ويتألم بصمت.
أخيراً وقع الجميع مرغمين اتفاق الوحدة المزعومة كما رغب فيه اللاتين، وحده مرقس امتنع. فلما علم البابا افجانيوس بالأمر هتف: “أسقف أفسس لم يوقع، إذن لم نحقق شيئاً!” دعا مرقس إليه وأراد الحكم عليه.
تدخل الإمبراطور وعاد الوفد إلى القسطنطينية بعد سبعة عشر شهراً من الغياب. في القسطنطينية، رفض الشعب المؤمن الوحدة المزعومة. الشعب، عند الأرثوذكس، هو حافظ الإيمان. اعتُبر مرقس بمثابة موسى جديد وعمود الكنيسة. خرج من صمته. كان همه أن يعيد اللحمة إلى الكنيسة الأرثوذكسية. سعى إلى ذلك بالكتابة والوعظ والصلاة والدموع.
البيزنطيون الوحدويون استمروا ولو نبذهم أكثر الشعب.
قال مرقس: “أنا مقتنع أني بقدر ما ابتعد عن الوحدويين بالقدر نفسه أدنو من الله وجميع قديسيه. وبقدر ما أقطع نفسي عنهم بقدر ذلك أتحد بالحقيقة”.
إلقاء القبض عليه
كان الصراع صعباً جداً، أكثر السلطة الكنسية في مواجهة أكثر الشعب المؤمن.
لجأ مرقص إلى قلعة الارثوذكسية “جبل آثوس الرهباني”. وقد قُبض عليه في الطريق وأُودع الإقامة الجبرية في جزيرة ليمنوس بأمر الإمبراطور. أطلق سراحه سنة 1442م. عاد إلى ديره ليواصل المعركة إلى آخر نفس.
علماً أن ماتسمى بفريق الوحدويين بقي يأمل في وصول المعونات من الغرب، وأعلن الوحدة من القسطنطينية رسمياً في كانون الأول 1452م. لكن التوقعات خابت…
استشهاد القسطنطينية
سقطت القسطنطينية شهيدة بيد الأتراك في 29أيار 1453م بعد صمود اسطوري استمر من 6 نيسان 1453 الى 29 ايار من العام ذاته، وكانت تحلم بمعونة إخوتها في الايمان الذين استغلوا ظروفها القاهرة، وأرغموها كنيسة وشعباً وإمبراطوراً على الخضوع للابتزاز على حساب العقيدة، وسقطت معها وحدة الزيف والقهر والارغام بعيداً عن روح الوحدة بالمسيح اي بالتسلط وحب الرئاسة والمجد البابوي الزائل…
التاريخ يشهد كيف خانت القوات البابوية الحليفة الإتفاق، ومع أول طلقة مدفعية أطلقها العثمانيين في خليج البوسفورفرت المراكب الجنوية التي أرسلها البابا لدعم القوات الرومية المحاصرة في القسطنطينية وعلى متنها فقط 700 بحار جنوي (ايطالي) مايشهد لخيانتهم بواجبهم في الدفاع عن مدخل اوربة، بتركهم ميدان المعركة والفرار.
وكانت هذه هي فقط القوات التي أرسلها البابا مقابلاً لخضوع القسطنطينية كنيسة وشعباً وامبراطوراً لرئاسة البابا. ومع ذلك صمدت القسطنطينية صموداً اسطورياً ثم سقطت شهيدة ضحية عدو عثماني غاشم لم يعرف التاريخ اكثر منه قي وحشيته، وضحية إخوة أشقاء غادرين استغلوا مأساة أشقائهم وظروف ذبحهم لإخضاعهم (كما في كل تاريخهم وحاضر كنائسنا الشرقية يشهد) وقد ندموا بعد ذلك لأنهم شاهدوا المدفعية التي صنعها مهندسوها لاسقاط القسطنطينية تضرب فيينا. وباستشهاد القسطنطينية فتحت ابواب اوربة الشرقية والغربية امام القوات العثمانية بقيادة سلطانهم محمد الثاني…
استباح السلطان العثماني محمد القسطنطينية للسلب والنهب والبطش وهتك النساء والغلمان وسبيهم لثلاثة ايام بلياليها وقد أمر بتحويل كل كنائسها الى مساجد، الا كاتدرائية آجيا صوفيا التي نهاهم عنها بقوله:” كل المدينة لكم الا هذه (يقصد الكاتدرائية) لي.”
+ رقاده في الرب
رقد في الرب في 23 حزيران 1444م، وسلم مشعل الأرثوذكسية. قبل موته، لتلميذه في الرهبنة جاورجيوس سكولاريوس الذي أضحى أول بطريرك على المدينة بعد سقوطها شهيدة في يد الأتراك آخر ايار 1453باسم جناديوس.
تعيد له الكنيسة الارثوذكسية في 19 كانون الثاني غربي من كل عام و1 شباط شرقي.
مصادر البحث
– سير القديسين
– د.جوزيف زيتون، سقوط القسطنطينية
– د. اسد رستم، كنيسة انطاكية
– خريستوموس، تاريخ الكنيسة