واجب تكريم الايقونات في الكنيسة الارثوذكسية
نبذة تاريخية بسيطة
من تاريخ كنيستنا الارثوذكسية ان تصوير الايقونات واكرامها ظهرا في اورشليم في زمن اول مصور للأيقونات القديس لوقا الانجيلي، وانتشر في مشرقنا المسيحي المسيحي نحو الجيل الرابع المسيحي، ونجد بهذا الخصوص شهادات عديدة عند آباء الكنيسة القديسين باسيليوس الكبير، غريغوريوس اللاهوتي، غريغوريوس النيصي، يوحنا الذهبي الفم، وكيرلس الاسكندري، ونيلوس السنابيتي وكثيرين آخرين هؤلاء، سيما المجاهدين العظام في سبيل إكرام الأيقونات في عصر اضطهادها: أبينا القديس البار يوحنا الدمشقي، اللاهوتي والمفسر والمحامي عن الايقونة، والقديس البطريرك نيكيفوروس والقديس ثيوذوروس الستوديتي.
هذا الاكرام للايقونات تأصل ورسخ خصوصاً في زمن النهضة الارثوذكسية في كرسينا الانطاكي المقدس واصبح واسطة اساسية لتعليم حقائق الايمان القويم، وبرزت اجيال من الشباب والصبايا الذين دفعتهم غيرتهم للتصوير المقدس.
مقارنة بسيطة
ايقونتنا الارثوذكسية المشرقية تمتاز جوهرياً عن الصور الغربية التي تأخذ انموذج اللوحات الفنية، فالأيقونة الأرثوذكسية خالية ومنزهة من “الراليزم” الحقيقة الواقعية والحماسية، والشعبية والتجديد او التجدد.
التصوير الأرثوذكسي للايقونة حفظ بصرامة الاسلوب القديم والقوانين والسننوالتقليد الارثوذكسي الشريف، والايقونات تُكتب او تُرسم كما يقول القديس يوحنا الدمشقي ( الكلمة الثالثة404،24): ” الكائنات الروحية تُصَّوَرْ جسدياً هكذا حتى تدل الصورة الجسدية على التأمل الفكري وغير الجسدي”.
بعد الإنشقاق الكبير بين الشرق والغرب عام 1053تفردت روما في الكثير من القضايا ومنها فن تصوير الايقوني فوجهت فنها التصويري الديني توجيهاً آخر، فقد وجه الاسلوبان الروماني (رومة) والغوطي او القوطي ولاحقا في عصر النهضة، والاصلاح بعدئذ الفن الى طريق الابداع الحر غير الخاضع للكنيسة وقراراتها والتقليد الشريف.
وقد ظهر الفن الديني الغربي. الذي لم ينظر الى الايقونة وفقاً لتقليد الكنيسة المفروض ان تكون حافظة للايمان، بل قربها الى الحياة الواقعية في ايامنا المعاصرة بكل مافيها من ليبرالية، ما سمح بتحريف وتشويه الصور المقدسة بالكامل، لقد ظهرت الايقونة الغربية كلوحة فنية جميلة لجهة الاشراقة اللونية كلوحات عصر النهضة وابرازالتفاصيل الجسدية الجميلة، بعكس الايقونة الارثوذكسية التي تظهر بعضا من بؤس الجسد البشري، علما ان كل نقطة في الايقونة الارثوذكسية لها رمزية لامجال هنا لايرادها.
الفن الغربي لم يعد يبالي بالقرارات الكنسية والقوانين الرومية والتقليد الشريف والعادة المقدسة، واندفع الى الناتيراليزم او الطبيعة واحوال الانسان الارضية، والاشياء الحسية حتى الشهوانية منها، وهكذا ظهر على بعض الايقونات المقدسة صور لأشخاص عراة والبسة وازياء عصرية حديثة واثاث كما في اللوحات الفنية. اما الجمال الروحي وكل شيء الهي مقدس فصار مبعداً ويُحط من قدره ويُنزل بالفن الى درجة الجمال الارضي والحوادث الدنيوية.
مثلا في تصوير الايقونات ( ايقونغرافيا) الارثوذكسي لوالدة الاله انه ليس من مجال بالكلية لتصوير امرأة ما في هيئتها الطبيعية وصورتها الانثوية الجميلة. وبالتأكيد عند النظر في وجه والدة الاله الدائمة البتولية في الايقونة الرومية، لايشعر الناظر اليها ابدا بالطبيعة الانثوية وجمال المرأة، ومع ذلك لاينقص فيها انها سيدة لأن دوام بتوليتها مع انه يتحلى بالمبدأ النسائي، لكنه ينفي البعد الجسداني بمفهومه الجنسي، والسبب في هذا انه ليس من موقع للحاسيات الجسدية المتحدة المرتبطة بالحقيقة (ناتيراليزم) في تصوير الفائقة الطهر ام الاله الرب يسوع له المجد.
لا شك ان افضل شواهد الفن الكنسي هو ايقونات السيدة والسيد ولاسيما ان الاولى كانت بريشة لوقا الانجيلي وبشهادة العذراء الطاهرة لماصورها وعلى يدها الطفل يسوع فأقرته عليه، اذن ان التصوير الارثوذكسي في افضل شواهده هو مشهد ملكة السماء والارض والدة الاله الكلية الطهر والنقاوة، سواء على يديها الطفل يسوع او تحتضن جثمانه الفاقد الحياة، وتبقى السيدة العذراء سيدة جميلات الكون، وهذا الامر الطبيعي “فهي اكرم من الشيروبيم وارفع مجدا بغير قياس من السيرافيم”، افهل يعقل ان تصور والدة الاله كملكة جمال لابراز جمالها كأنثى!!! لايمكن لعقل ان يتصور ذلك، او كيف تقدر النفس الارثوذكسية ان تصلي أمام صورة كهذه او تبخرها اذ من المستحيل ان تسمى ايقونة.
من زمن بعيد ونتيجة صراع المدارس الفنية للرسم ومدارسه المتعدة، نظر الفنانون الغربيون الاوربيون والاميركيون في ايقونتنا الارثوذكسية واهتموا بها، وان نقاداً كثيرين في فن الرسم الكنسي لاحظوا الفارق والتفاوت الكبير بين الايقونة الأرثوذكسية وبين الايقونة الغربية الكاثوليكية، ولاشك ان نتيجة المفاضلة هذه كانت لصالح الايقونة الارثوذكسية.
لقد ادرك هؤلاء جمالية وعظمة الايقونة الأرثوذكسية، وانها هي ذكرى ابدية للناس وبها ترتقي القلوب والافكار والنفوس نحو السماء، لقد فهموا ان الصلاة أمام أقدام الفائقة القداسة سيدتنا والدة الاله مريم، ام النورهي الصلاة الحقيقية ان اقترنت بالتقوى والخشوع كما يليق بوالدة الاله.
فهي صاحبة الاستجابة السريعة، وام المراحم وسيدة المعونة بلا قياس، وان من اقتبل منها ما كان ينشد من الرحمة، صار يرتل لها دوما مادحاً بكلمات المديح
” افرحي يامن تمدين يديك الى الله من اجلنا توصية وخدمة لعبيدك نحن الخطأة الأذلاء الطالبين معونتك…”
لقد ساعد على الاهتمام بالايقونة الارثوذكسية بشكل متزايد في العالم الغربي بدءا من باريس، “جمعية الأيقونة الارثوذكسية” التي شكلها الروس المهاجرون ( البيض) من ديارهم الروسية الى فرنسا على اثر قيام الثورة الشيوعية في بلادهم عام 1917 وخاصة الى باريس حيث شكل هؤلاء وجوداً ارثوذكسياً متميزاً في وسط البيئة الكاثوليكية فأنشأو المدارس العلمانية والمعاهد اللاهوتية الروسية كمعهد القديس سرجيوس، واسهم في نشر الايقونة الارثوذكسية الرومية-الروسية كتّاب الايقونات الروس في باريس سنة 1926 في مراسمهم التي صارت اندية يرتادها عشاق هذا الفن من الفرنسيين، ومع المحاضرات المتتالية التي نظمتها هذه الجمعية، واعلنتها بمقالات منشورة في الصحف الروسية التي باتت تصدر بالفرنسية، لاسيما وان الروس المهاجرين كانوا يتقنون الفرنسية فهي اللغة الثانية التي كانت تمتلك النخبة الروسية ناصيتها في بلادهم ماقبل السقوط بيد البلشفية.
وحتى منتصف العقد الرابع من القرن 20 كانت هذه الجمعية مع رئاسة الكنيسة الارثوذكسية الروسية (ماوراء الحدود) في فرنسا قد اقامت 22 معرضاً للايقونات الارثوذكسية المقدسة الرومية ( البيزنطي) – الروسية. ولقد نشرت هذه الجمعية هذا الفن ليس فقط بين محبيه من الروس بل وبين الفرنسيين، واسهمت بتعليم وتهيئة مصورين كثر للايقونة الارثوذكسية حتى منتصف القرن 20في فرنسا وحدها في المراسم التي ذكرنا.
وانتشر هذا الفن في كل فرنسا فحسب بل في اوربة الغربية كبلجيكا وايطاليا واسبانيا والمجر و…ثم انتقل الى اميركا الشمالية ايضا مع الوجود الروسي الارثوذكسي المتنامي هناك، الذي كان قد بدأ منذ ستينيات وسبعينيات القرن 19 وضم كل الوجود الارثوذكسي من انطاكي ومقدسي واسكندري وصربي وبلغاري… ولعبت دوراً كبيراً ابرشية آلاسكا الروسية الارثوذكسية التابعة للبطريركية الروسية الارثوذكسية في موسكو واصبحت مستقلة وتبعت ا”لكنيسة الروسية الارثوذكسية ماوراء الحدود” في تعزيز الوجود الارثوذكسي اثر الهجرة التي حملت حوالي مليوني روسي وُصفوا ب” الروس البيض” الى خارج روسيا في اوربة واميركا بنتيجة قيام الثورة الشيوعية في روسيا في 17 تشرين الاول 1917، وانشأوا كليات لاهوتية تعنى بتعليم اللاهوت الارثوذكسي وخاصة بين المنتمين الجدد من الكنائس الاخرى، ومنها الايقونة ولاهوتها، اضافة الى الأثر الكبير الذي لعبته الدياسبورا والانتشار الارثوذكسي اليوناني مع البطريركية المسكونية…
عبر هذه الكنيسة ومن تبعها من ابناء الكنائس الاخرى معتنقي الارثوذكسية وحتى منتصف القرن 20 عمل مئات ومئات من مصوري الأيقونات على الايقونة الارثوذكسية الرومية – الروسية. وقد انتشرت تبعاً لذلك الايقونة الارثوذكسية في كل انحاء العالم، ومازالت تغذ طريقها بين المؤمنين غير الارثوذكس باحترام عميق وتهليل واصبحت هي الجاذبة لهم الى الكنيسة الارثوذكسية.
ولخدمة هذا الاستقطاب للارثوذكسية ظهر قديسون ارثوذكسيون في هذا الانتشار وظهرت كتابات لهم في اللاهوت ولاهوت الايقونة وفي الحياة الارثوذكسية وفي مقدمها في فن الايقونة وكانت كتابات عميقة في اللاهوت وباللغتين الفرنسية والانكليزية، وانتمى العديد الى الارثوذكسية من كنائس واديان اخرى ممن صاروا فيما بعد احباراً في الكنيسة الارثوذكسية في الدول الغربية بسبب الوجود الروسي وسابقه ومساريه الوجود اليوناني…ثم في الانتشار الانطاكي الارثوذكسي وشموله كل المهاجرين من دائرة الكراسي الارثوذكسية الرسولية الناطقة بالعربية، اضافة الى مطبوعات شملت لغات بقية ارجاء اوربة تحفل بالايقونات الارثوذكسية القديمة التي باتت محدثة ومنتشرة…
وتبعهم العديد من احبار الكنيسة الرومانية اللاتينية في هذه المنطقة حيث تسود الكنيسة الكاثوليكية برئاسة البابا وحتى صار الاهتمام جدياً بالايقونة الارثوذكسية في الفاتيكان، منذ النصف الثاني في القرن 20، وانتشرت في السنين الأخيرة في الدوائر الكنسية الكاثوليكية ظاهرة الايقونة الارثوذكسية ولوحات الفريسك الجدارية والسقفية في بعض الكنائس الايطالية.
في بعض الأديرة الكاثوليكية في فرنسا جهزت مراسم لرسم الايقونات حسب المفهوم الارثوذكسي القديم الرومي – الروسي، وأطلق على الرسامين الروس لقب “معلمون”.
البعض مؤخرا عاشوا قلقاً من اجل الايقونة الارثوذكسية بالرغم من كل محاولات الكنيسة الارثوذكسية وخاصة الانطاكية ومن خلال معارض متتالية في سورية للأيقونة السورية بالتعاون حتى مع الدولة السورية ووزاراتها المهتمة كالسياحة والثقافة والاعلام… وكذلك في لبنان مع وجود نخبة من المتألقين بهذا الفن امثال المرحومين الياس الزيات وميلاد الشايب… هذا القلق بات مشروعا مع دخول الكثيرين من المسيحيين او المسلمين الذين امتهنوا هذا الفن المقدس، ولكنهم ليسوا بتخصص وخرجت الايقونة الارثوذكسية الرومية والروسة والسورية والدمشقية من ضوابطها المميزة وادخلوا عليها تغييرات غربية من فن اللوحات، لقد خبا او كاد ان ينطفىء توهج الايقونة الارثوذكسية التي قدم لاجلها ذواتهم شهداء بالآلاف دفاعا عنها في عصر اضطهاد الايقونات، وهي العلامة المميزة للشعب الارثوذكسي الحسن العبادة واعتباره الايقونة ليس فقط وسيلة مرئية لتقديس اصحابها، بل ككتاب مفتوح يعد البشارة الخامسة للمؤمنين البسطاء ولكنهم شديدو التعلق بألايمان الارثوذكسي الحار…
كان هؤلاء يكرمون الايقونات بشكل عميق، كان في كل بيت بعض الايقونات وبعضها كان ينضح زيتا او تجترح معجزات وكان ذوونا ولايزال بعضنا يشعل امامها قنديل الزيت ويحرق البخور،في العهود القاسية على المسيحيين في بلادنا كان اجدادنا بتقواهم المنقطعة النظير يحفظون الايقونات بصرامة، ويصلون امامها في غروب وامسيات الاعياد ويحرقون امامها البخور وحتى في غروب السبوت كل اسبوع.
اما الآن ففي كل اسف لم يعد الامر كذلك فمن يضع ايقونة في بيته يضعها على انها من صمديات البيت، او في الادراج…
اننا في ذلك نلغي النعمة والقداسة من البيت افهل يقتلع المرء قلبه من جسده هكذا حالنا مع عدم وضع ايقونة العذراء في البيت او بدون ان نوقد امامها قنديلا ونحرق بخورا ليستمر حضورها في حياتنا البيت وتحفظ بيوتنا من كل نجاسة وبهيمية، ذات يوم حضرت فيلما روسيا قديما زمن انطلاق الشيوعية في روسيا، والمشهد يوضح فلاحا روسيا فقيرا ارتاع مما يجري واراد ان يمهي حياته باطلاق النار على نفسه وكان كعادة الروس يوقد سراجا امام ايقونتي السيد والسيدة فأطفأ السراج وادار وجهي الايقونتين الى الحائط واطلق النار على رأسه…
لقد احتشم وهو في لحظاته الاخيرة بحسه الايماني البسيط من نظرات السيد والسيدة فادارهما واطفأ القنديل، لاشك في فعل الانتحار ارتكب جناية بحق النفس التي خلقها الله ولكنه خاف الله وقتل نفسه…
من الضروري جدا ان يتحرك الاهتمام بالايقونة في اوساط الارثوذكسيين وفي بيوتهم، كما يجب على الاكليروس وعظ المؤمنين الى اقتناء الايقونات وبخاصة ايقونتي السيد والسيدة وتوقيرهما كما كان يفعل الاباء والاجداد، وان هذه الايقونات يحمي المصور فيها البيوت، وينقل اليها الرفاهية والسعادة، وعلينا ان نضعها في افضل واكرم مكان في البيت وفي هذا الفعل رفع وتثبيت لأرثوذكسيتنا المقدسة.
ثمة فعل يعتقد فيه مكرمو الايقونات انهم في مسح الايقونات بزيت الزيتون يحافظون عليها، ولكن في الحقيقة هو يسيئون لها لأن زيت الزيتون وان كان يمنح الايقونة طراوة ونضارة ولكنها مؤقتة الا انه يعرضها للتلف اذ ان العواقب هائلة ومخيفة فصبغة الوانها تبهت وتضعف.
ولما كانت الايقونات اصبحت اثمانها غالية جدا فانه من الممكن ان تطبع عنها ايقونات ورقية لتوضع في البيوت وتذكر اجيالنا الفتية بالقديسين الذين تمثلهم وافضل من ان لايكون في البيت ايقونة…
دور العائلة
المهم ان الايقونة هي بركة البيوت، والعائلة ومن واجب العائلة ان توفرها في البيوت ويجب ان تقدس في الكنيسة قبل وضعها في البيت، ويقدم الاهل لمن تمثل الاكرام من تبخير واضاءة القنديل امامها، كي يتربى الاولاد على ذلك، ويصبحون في كبرهم كذويهم، وبذا تستمر النعمة في البيوت وتستمر القداسة والبركة.