الإفخارستيا: إتحاد أم استحالة
في سياق الجدالات أثناء الحرب على الإيقونات أوضح القديس نيكيفوروس (المعترف) القسطنطيني التعليم الآبائي الأرثوذكسي، بحسب رأيه: إن خبز الإفخارستيا المُتاح للإنسان كطعام هو جسد المسيح المتجلي الذي لا يزال مساوي في جوهره للجسد البشري والمُتأقنم في اللوغوس (الابن) والمُمتليء بالطاقة الإلهية.
حقيقة الحضور الإلهي الفعلي في خبز وخمر الافخارستيا يتحقق ليس باستحالة جوهري الخبز والخمر ولكن بقابلية استيعابهما في أقنوم الله الكلمة الذي فيه (الأقنوم) يكونان في اتحاد بلا انفصال وبلا اختلاط مع لاهوته تتخللهما النعمة الغير مخلوقة وبذلك يصيران جسد ودم حقيقيين للمسيح. (القديس نيكيفوروس ضد أوسابيوس وأبيفانيوس. يوحنا ميندروف. كتاب “اللاهوت البيزنطي” ص 287).
الأب يوحنا ميندورف يعلق على كلام القديس غريغوريوس بالاماس: “كان الارثوذكسيون لا يعتقدون بأن هناك تحوّل (استحالة) في سر الافخارستيا، بأن يتحوّل جوهر الخبز بشكل ما إلى جوهر آخر- جوهر جسد المسيح، ولكنهم رأوا في هذا الخبز نموذج أو بصمة بشرية- لبشريتنا، التي تغيّرت إلى بشرية المسيح المتجلية.”
ويضيف الأب يوحنا ميندروف في نفس السياق: اللاهوت الرومي لم ينظر إلى الخبز والخمر (في الافخارستيا) كرمز أو شكل لجسد المسيح ودمه بل اعتبرهما “جسد الرب” الذي أتى ليخلّص جسد الإنسان. ولم يذهب الارثوذكسيون أبعد من ذلك في تفسير الافخارستيا على منوال عملي وفعلي. فالافخارستيا بالنسبة لهم كانت ولا تزال “سر” وتفسير هذا السر يبقى خارج إمكانيات العقل البشري. (كتاب اللاهوت البيزنطي. ي.ميندروف ص. 287-288 ).
البروفيسور نيقولاي أوسبينسكي من أكاديمية سانت بطرسبورغ اللاهوتية، عالم الليتورجيا المشهور والباحث المدقق في هذه المسألة، كتب: “الكنيسة وعلى مدى وعيها قبلت وآمنت بأن خبز الافخارستيا وكأسها هما جسد ودم المسيح الحقيقيين ومع ذلك فهي لم تلغي طبيعة الخبز وطبيعة الخمر. ومن خلال عبارة “محققاً/مصيّراً إياهما بروحك القدوس” في صلاة الاستدعاء، أشار القديس يوحنا الذهبي الفم إلى إتمام القرابين بنار النعمة الإلهية، فبعد ذلك صار الخبز متحرراً من تسميته خبزاً وأصبح مستحق أسم “جسد الرب” مع بقاء طبيعة الخبز فيه. ونلاحظ بأنه وبعد الذهبي الفم وفي عصر الجدالات الخريستولوجية استمرت الكنيسة في ايمانها وقبولها الخبز والخمر في سر الافخارستيا كجسد حقيقي ودم حقيقي للمسيح بدون أي تغيير في طبيعتي الخبز والخمر”. (نيقولاي أوسبينسكي-كتاب الأنافورا-الخاتمة).
من الواضح أن خطأ المدافعين عن تعليم “الاستحالة” يتلخّص في أنهم تحت مُسمى كلمة “حقيقي” يتبادر الى ذهنهم المعنى “مادي” أو “واقعي” فيفهمون عبارة “جسد حقيقي” على أنها “جسد مادي” أو جسد بيولوجي” ونسوا أن الحديث عندما يدور عن الأسرار الإلهية إنما هو يدور عن الحقائق الروحية قبل كل شيء. الروح هو بداية الوجود (الواقع) وهو الحقيقة الأولى. الله هو بداية الوجود (الواقع) ومن ثم المادة.
القديس أثناسيوس الكبير: “جسد المسيح له نفس الجوهر مع سائر الأجساد وكان جسداً بشرياً مع أنه تشكّل من العذراء وحدها بطريقة غير اعتيادية”. ويقول أيضاً: ” الروح القدس وحده يتميّز عن الجوهر الواحد للعالم المخلوق”. (أثناسيوس الكبير. الخلق. مجلد 3 طبعة 1903 ومجلد1 “تجسد الإله الكلمة”).
لذلك فما هو الهدف من هذا “التحوّل” (من خبز إلى جسد “لحم”) وهل هذا هو المهم؟ نحن نتناول تلك الخصائص الإلهية والخلاصية التي يمتلكها جسد المسيح وليس الجزيئات والذرات التي يتكون منها جسد المسيح. لذلك سخر خومياكوف حينما قال بأن الكاثوليك يؤمنون بمعجزة الذرات وبالتفاعل الكيماوي الذي يزعمون انه يحصل عندهم على المائدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الخصائص الظاهرة (accidentia) للخبز والخمر حقيقية أم غير حقيقية؟ فلو كانت غير حقيقية وتبدو لنا وتُخيّل إلينا عندئذ نكون هراطقة دوسيثيون وإذا كانت حقيقية فعمّا يتكلمون؟ فهي إذاً خبز وخمر.
فالذي يحصل للخبز والخمر على المائدة إثناء التقديس (صلاة الاستدعاء) ليس “تحوّلا للمواد” ولكن هو اتحاد بنفس المفهوم الخلقيدوني للتجسد الإلهي الذي حصل في بطن العذراء الطاهرة عندما حل عليها الروح القدس فاتحد اللاهوت (أقنوم الإبن) بالناسوت بدون استحالة وبدون اختلاط وبدون انفصال وصار الجسد البشري (جسد يسوع) هو جسد الاله. هذا ما يحصل في الافخارستيا: يتحد لاهوت المسيح بواسطة الروح القدس مع مادة الخبز والخمر فيصيران جسد ودم المسيح بدون استحالة وبدون اختلاط وبدون انفصال. “والكلمة صار جسداً” (يو 1:14).
وكما في التجسد بقي الناسوت ناسوتاً تاماً واللاهوت لاهوتاً تاماً في اتحاد كامل ولم يفقد الناسوت خصائصة وجوهره بل بقي ناسوتا ولكن متحد باللاهوت وهكذا في الافخارستيا لم يفقد الخبز والخمر جوهرهما وخصائصهما بل بقيا خبزا وخمرا ولكن متحدين باللاهوت بكامل خصائصة الإلهية وقوته الخلاصية.
القديس يوحنا الذهبي الفم كان يفهم حقيقة أن الخبز لا يتحوّل الى جسد/ لحم) وإنما يتحد باللاهوت ويصير جسد الرب. لذلك نجد في الليورجيا الإلهية وبعد صلاة الاستدعاء وحلول الروح القدس على القرابين وتقديسهم… يرفع الكاهن الصينية ويقول: القدسات للقديسين فيجيبه الشعب: قدوس واحد رب واحد يسوع المسيح لمجد الله الآب آمين! وبعد ذلك يدخل الشماس ويقف عن يمين الكاهن ويقول: “فصّل يا سيد الخبز المقدّس”! نلاحظ بأن القديس يوحنا الذهبي الفم يسميه “خبزاً مقدساً” حتى بعد أن صار “جسد الرب”.
الرب يسوع في خميس العهد وبعد العشاء أخذ خبزا وكسر وقال لتلاميذه خذوا كلوا هذا هو جسدي! وكذلك الكأس قائلا: خذوا اشربوا هذا هو دمي! لقد كان الرب يسوع جالسا معهم بلحمه ودمه ويعطيهم الخبز بيديه ويقول هذا هو جسدي. وهذا حصل قبل الصليب والموت. فعن أي جسد وعن أي دم كان يتحدث المسيح هنا؟ بالتأكيد كان يتحدث عن جسده ودمه الحقيقيين في الخبز والخمر بعد أن ضمّ (أتحدَ) لاهوته إليهما حينما نطق بكلامه الجوهري (خذوا كلوا هذا هو جسدي… خذوا اشربوا هذا هو دمي…). هذه الحادثة تجعلنا نرتقي في مفهومنا لعبارة “جسد حقيقي” ولا نظن أنه هو الجسد البيولوجي (لحم ودم) للمسيح. ولكن بما أن جوهر الخبز هو نفسه جوهر الجسد البشري لأن جميع المخلوقات هي من جوهر واحد فبمجرد أن يتحد لاهوت المسيح بالخبز والخمر يصير هذا الخبز جسد المسيح الحقيقي ويصير هذا الخمر دم المسيح الحقيقي. ففي سر الافخارستيا نحن لا نكرر ذبيحة الجلجثة ولكن نشير إلى مطابقة واقعية وحيوية (actualization) محددة لمكان وزمان الحدث (here and now) “هنا والآن” ولا نقصد بذلك تكرار الحدث أو تكرار التجسد الإلهي عندما يتحد لاهوت اللوغوس مع الخبز.
لقد تغلغل مصطلح “الاستحالة” وانتشر بشكل كبير جدا في أدبيات كنيستنا الأرثوذكسية وخصوصا باللغة العربية. لذلك تجد أن كلمة (metaboli) اليونانية المستخدمة في النصوص الآبائية والكنسية والتي تعني التحقق (تحقق الحلم أي صار حقيقة. تحققت الأمنية أي صارت حقيقة وواقع) يترجمها المترجمون الى فعل “تحوّل” وذلك لانتشار المصطلح ولسهولة الترجمة. تكاد لا تجد نصاً واحداً في جميع المراجع اللاهوتية والافخاريستولوجية إلا وتجد فيه كلمة “تحوّل” و”استحالة” و”تحويل”. فالعبارة في صلاة الاستدعاء هي (Μεταβαλὼν τῷ Πνεύματί σου τῷ Ἁγίῳ) وترجمتها الصحيحة تكون: (مُحققاً إياهما بروحك القدوس) نجدها الآن في نص الليتورجيا مترجمة كالتالي: (محوّلاً إياهما بروحك القدوس) فالفعل (metaboli) يحمل في معناه التغيير الذي يتحقق في الخبز والخمر، فهناك تغييراً يحصل في الخبز والخمر ولكن ليس تحوّلاً. حتى سر الافخارستيا الذي تسميه الكنيسة والآباء القديسون ب “سر الشركة الالهية” صاروا يسمونه “سر الاستحالة” وهي تسمية جديدة ودخيلة غير موجودة في كنيستنا الأرثوذكسية وفي كتابات الآباء القديسين.
تجد الإشارة هنا بإيضاح الفرق بين المفهوم الآبائي التقليدي في كنيستنا الأرثوذكسية وبين نظرة البروتستانت لسر الافخارستيا. الجماعات البروتستانتية تسمي الافخارستيا ب (عشاء الرب) أو (كسر الخبز) وغالبيتهم لا يؤمنون بأن الخبز والخمر يتحققان ويصيران جسد المسيح ودمه الحقيقيين وهم يقيمون هذه المناسبة لتذكار آلام الرب وصلبه. أما اللوثريون الكلاسيكيون فهم رفضوا تعليم الاستحالة عند الكاثوليك، ولكن لو اخذنا نظرتهم الكلاسيكية للافخارستيا فهم يؤمنون بحضور المسيح في سر الافخارستيا ولكن حضوره هنا يكون رمزي وببصيرة الايمان. وعلاقة المسيح بالافخارستيا عندهم هي علاقة (نسطورية) بمعنى أن المسيح يكون حاضرا بجسده ودمه وإن كان ببصيرة الايمان وبشكل رمزي ولكن بمجرد أن ينتهي المجتمعون من تناول الخبز والخمر يترك المسيح الخبز والخمر ولا يعود له حضور ولا يعود هذا الخبز وهذا الخمر جسد ودم المسيح. لذلك فالخبز المتبقي من “عشاء الرب” ليس له أية قدسية وقد ينتهي به الأمر في حاوية الفضلات وفي أحسن الأحوال فهم يحتفظون بهذا الخبز لكي يستخدموه في العشاء القادم وهذا طبعاً لا يتفق مع تعاليم كنيستنا الأرثوذكسية وإيمانها (تقديس نفس الخبز والخمر مرة أخرى). فهم لا يؤمنون باتحاد لاهوت المسيح بالخبز والخمر وإنما هي علاقة زمنية وتنتهي (كما عند نسطوريوس).
كتب الرسول بولس إلى تلميذه تيطس ناصحاً: “مُقَدِّمًا نَفْسَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قُدْوَةً لِلأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، وَمُقَدِّمًا فِي التَّعْلِيمِ نَقَاوَةً، وَوَقَارًا، وَإِخْلاَصًا”.
والمجد لله دائماً
الآباء واللاهوتيون المعاصرون الذين دافعوا ضد بدعة الإستحالة
** البطريرك سيرجي (ستراغورودسكي). المتروبوليت يوحنا (زازيولاس). الاسقف فيلاريت (تشيرنغيفسكي). الارشمنديت كبريانوس (كيرن). المتقدم في الكهنة سيرجي بولغاكوف. م. في الكهنة باسيليوس زينكوفسكي. م. في الكهنة جورج فلوروفسكي. م. في الكهنة يوحنا ميندورف. م. في الكهنة ليفيريوس فورونوف. م. في الكهنة نيكولاي أفاناسيف. م. في الكهنة ألكسندر شميمن. م.في الكهنة فيتالي بوروفوي. م.في الكهنة توماس هوبكو. البروفيسور نيقولاي أوسبينسكي. البروفيسور خريستوس يانّاراس. البروفيسور بافل (بولس) يفدوكيموف. المتروبوليت هيلاريون (ألفييف).