أوليفييه كليمان
(17 تشرين الثّاني 1921
– 15 كانون الثّاني 2009)
أبصر موريس (أوليفييه) كليمان النّور في مدينة صغيرة تقع في جنوب فرنسا في العام 1921، في كنف عائلة متوسّطة الحال. عائلة أبيه كاثوليكيّة الأصل. أمّا عائلة أمّه فبروتستانتيّة. ولكنّ والديه وكلّ أفراد عائلته الّذين عايشهم في طفولته ألحدوا وفقدوا كلّ صلة لهم بكنيستهم. يقول في سيرته الذّاتيّة: “عندما كنت فتيًّا، لم يحدّثْني أحدٌ عن الله. وإذا سألت كما يفعل الأولاد عادة…لمَ نعيش أو نموت… كنت أفتقد مَن يكلّمني، أو أكلّمه على الله”. كلّ ما سمعه من أبيه كان جوابًا مقتضبًا يخلو من أيّ شرح أو تعليق. قال له: “لا يوجد بعد الموت سوى العدم. وعلى ذلك علينا أن نسعى إلى عمل البِرِّ وإحلال العدالة”.
هذا الواقع لم يكن محصورًا بعائلته، بل كان ثمّة أترابٍ لها، تأثّرًا بالعقيدة الشيوعيّة عمومًا، قد فقدوا كلّ ارتباطٍ بالكنيسة. فأهملوا معموديّة أولادهم وعادوا لا يتزوّجون، أو حتّى يجنّزون موتاهم، في الكنيسة. ناصبوا، باعتبارهم اشتراكيّين علمانيّين، كلّ العداء إن للكنائس أو لكهنتها.
في هذا الجوّ الموبوء ترعرع كليمان. إلّا أنّ والديه أصرّا على أن يزرعا فيه ضرورة الحفاظ على نقاوة الضّمير، والابتعاد عن الكذب، كما غرسا فيه حبّ الطبيعة، والسّعي إلى إنماء علاقات صداقة وتضامن وأُخُوّة مع الآخرين…
فكرة “العدم بعد الموت” شغلته كثيرًا في صمت اللّيل. أقلقه مصير أهله ومعارفه الصّائرين جميعهم إلى العدم. هذه الفكرة، أي فكرة أنّ النّاس والجمال إلى زوال، أوصلته يومًا فيومًا إلى العبثيّة. فأخذ يتساءل: “إذا كان “الموت يبتلع الحياة، فلِمَ العيش؟ ولمَ العدم؟ هل لكي ننسى يا ترى؟ هل كلّ شيءٍ صائر إلى النّسيان؟ ولكنّنا لا ننسى، لا يمكننا أن ننسى”.
رغم تساؤلاته الكثيرة الّتي كانت تجعل أنفاسه تتسارع من شدّة ضيقه، غير أنّه كان يشعر بفرحٍ غريب متى خرج إلى الطّبيعة. كان يحبّ تربة ضيعته حبًّا لا يوصف. وإذا لمس شجرةً يشعر بأنّه يلمس نبض العالم كلّه. وفوق كلّ شيء كان يحبّ موسم قطاف العنب. هذا القرب من الطّبيعة كان يُشعره بنوعٍ من القدسيّة. أمّا وجوه البشر، فكان جمالها يرميه في انذهال يدفعه إلى أن يسأل: “إذا كان كلّ شيءٍ يأتي من العدم ويصير إليه، فَلِمَ الوجوه؟”
……
في باريس لم يلتقِ كليمان وجهًا لوجه بالفيلسوف نقولا برديايف الّذي بدأ ماركسيًّا وانتهي هو الآخر مسيحيًّا، لكنّه التقى به في كتب أقنعته بأنّ المرء في أي جيلٍ كان، يمكنه أن يكون مسيحيًّا حقًّا. أوّل لقاء بينهما تمّ على صفحات كتاب “الّروح والحرّيّة”. هذا لمّا فتحه، لم يتركه قبل أن يختمه. سحره فكر واضعه. اكتشف فيه مسيحيّة قادرة أن تعطي الإنسان المعاصر أجوبة شافية عن تساؤلاته، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالموت والحبّ والجمال. وقرّر أن يتخلّى عن النّظرة إلى الله كعدو للإنسان، وإلى الإنسان كعدوّ لله. فالحقيقة كلّها تكمن في الإله-الإنسان الّذي يجمع بين الله والإنسان.
وما لبث أن أتى من الإلحاد إلى الأرثوذكسيّة على يدَي معلّمه اللّاهوتيّ الرّوسيّ الكبير فلاديمير لوسكي، متبنّيًا الخبرة الرّوحيّة الأرثوذكسيّة سبيلًا إلى الإنتصار على عدميّات العالم المعاصر.
وقد علّم كليمان، الذي أمسى مؤرّخًا ولاهوتيًّا، لزمنٍ طويل في معهد القدّيس سرجيوس للّاهوت الأرثوذكسيّ، في باريس، موادّ التّاريخ الكنسيّ واللّاهوت الأخلاقي، وتخرّج على يديه العديد من الطّلاب الّذين أصبح منهم أساقفة وكهنة.
توفّيَ أوليفييه كليمان في 15 كانون الثاني من العام 2009 بعد مرض عضال أقعده جسديًّا ولم يستطع أن يُقعده عقليًّا، استمرّ في الانتاج الفكريّ إلى آخر لحظة من حياته الممتدّة على سبعةٍ وثمانين عامًا.
وقد خلَّف أوليفييه كليمان وراءه العديد من المؤلّفات التي تناولت مواضيع شتّى من السّيرة الذّاتيّة، إلى تاريخ الكنيسة وتعاليم الآباء واللّاهوت الأخلاقي والصّلاة والتّوبة والأنتروبولوجيا المسيحيّة. كما أجرى حوارَين أخرجهما في كتابَين، حوار مع البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس، وحوار مع خلفه البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأوّل عنوانه “الحقّ يحرّركم”.
(مقتطفات من مقدّمة الأب جورج مسّوح لكتاب “أوليفييه كليمان- ناسك في المدينة” للأخ ريمون رزق، ومن الفصل الأوّل)
ومن كتابات أوليفييه كليمان التي ترجمتها تعاونية النّور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع:
-روما: نظرة أخرى (الأرثوذكسيّة والبابويّة)
-نشيد الدّموع، في التّوبة (تعليق على القانون الكبير للقدّيس أندراوس الكريتيّ.
– حوار مع البطريرك أثيناغوراس ( جزءَان)
فليكن ذكره مؤبّدًا