العنصرة في الميراث الإسلامي
في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، وضع أبو الريحان البيروني كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية”، وفيه ناقش ماهيّة التواريخ واختلاف الأمم والشعوب في تحديدها، ونقل سلسلة من التقاويم المعتمدة في الكنائس المسيحية، وذكر في هذا السياق: “وبعد الفطر بأربعين يوماً، عيد السلاق ويتفق أبداً يوم الخميس، وفيه تسلق المسيح مصعداً إلى السماء من طور زيتا، وأمر التلاميذ بلزوم الغرفة التي كان افصح فيها ببيت المقدس، إلى أن يبعث لهم الفارقليط، وهو روح القدس”. والفطر هنا هو الفصح المسيحي، والسلاق هو صعود المسيح، أما طور زيتا، فهي قرية الطور، أي جبل الزيتون الواقع في شرق القدس القديمة، والفارقليط هو البراكليتيس، وهي كلمة يونانية الأصل، وتعني مُعزّ ومعين وشفيع ومحام، ترد مرّة واحدة في الأناجيل: “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يوحنا 14: 26)، وتشير إلى عمل الروح القدس.
قبل البيروني، وضع أبو العباس اليعقوبي في القرن التاسع، كتابه المعروف بـ”التاريخ”، وهو أول كتاب اتصف بالعمل الموسوعي من كتب التاريخ في العالم الإسلامي، بناه المؤلف على قسمين، فتناول في الأول تاريخ العالم منذ بدء الخليقة، وجعل الثاني خاصاً بالتاريخ الإسلامي حتى أيام المعتمد على الله العباسي. في تأريخه للمسيحية، اعتمد اليعقوبي رواية الأناجيل بشكل كبير، ونقل خبر نزول الروح القدس في صيغة مختصرة: “ولما رُفع عيسى المسيح، اجتمع الحواريون إلى أورشليم، في جبل طور الزيتون، وصاروا إلى علية كان فيها بطرس، ويعقوب، ويوحنا، واندراوس، وفيلبس، وتوما، وبرتلموس، ومتاوس، ويعقوب… فقام سمعان (أي بطرس) على الحجر، فقال: يا معشر الاخوة، قد كان ينبغي أن يتم الكتاب الذي سبق فيه روح القدس. وأرادوا أن يجعلوا رجلا يتمّ به الاثنا عشر، فقدموا متى وبرسبا، وقالوا: اللهم أظهر لنا من نختاره. فوقع على متى، فأصابتهم ريح شديدة، امتلأت الغرفة التي كانوا فيها، ورأوا مثل لسان النار، فتكلموا بألسن شتى، ثم قالوا لبطرس: ماذا تصنع؟ فقال لهم بطرس: قوموا واعمدوا كل انسان منكم باسم المسيح، وتنحّوا عن هذه القبيلة المعوجة”.
بحسب ما ورد في الفصل الأول من “أعمال الرسل”، بعد صعود المسيح، عاد تلامذته “إلى أورشليم، من الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، الذي هو بالقرب من أورشليم” (12). “ولما دخلوا صعدوا إلى العلية التي كانوا يقيمون فيها” (13)، حيث “كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء، ومريم أم يسوع” (14). وأرادوا أن يختاروا تلميذاً يأخذ موضع يهوذا الأسخريوطي، التلميذ “صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع” (16)، “فأقاموا اثنين: يوسف الذي يدعى بارسابا الملقب يوستس، ومتياس” (23). واسم متياس الصيغة اليونانية للاسم العبري “متثيا” الذي يذكره اليعقوبي باسم متى، وهو تلميذ من تلامذة المسيح، لازمه من ابتدأ خدمته إلى صعوده. “ثم ألقوا قرعتهم، فوقعت القرعة على متياس، فحسب مع الأحد عشر رسولا” (26). يأتي خبر نزول الروح القدس في الفصل الثاني من “أعمال الرسل”: “ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معا بنفس واحدة. وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا”. صًعق الحاضرون، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟” (37)، فأحابهم بطرس: “توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس. إن الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين على بعد، كل من يدعوه الرب إلهنا” (39). وأضاف: ” إخلصوا من هذا الجيل الملتوي” (40).
في القرن الرابع عشر، سجّل شهاب الدين النويري في “نهاية الأرب في فنون الأدب” رواية أخرى لهذه الأحداث تحت عنوان “عيسى مع اليهود حين ظفروا به وأرادوا صلبه وقتله”. بحسب هذه الرواية الإسلامية، يتعرّض عيسى للتعذيب ويُكلّل بالشوك، غير أنه ينجو من الصلب حين يرسل الله ملائكته ليحولوا بين اليهود وبينه. يتحدث الراوي عن “ظلمة عظيمة لم تلبس الأرض مثلها”، وفي إنجيل لوقا: “فكانت ظلمة على الأرض كلها الى الساعة التاسعة، وأظلمت الشمس” (لوقا 23، 44-45). يُصلب يهوذا صاحب اليهود، ويُرفع عيسى إلى السماء حيث يقول الله له: “إن أعداءك اليهود أعجلوك عن الوصية والعهد إلى أصحابك، فانزل إليهم واعهد لهم وأوصهم، وانزل على مريم المجدلانية فإنها في غار في جبل الجليل”.
والمجدلانية في الأناجيل هي مريم المجدلية، كانت قد ابتليت بسبعة شياطين أخرجهم منها المسيح فتبعته (لوقا 8، 2-3)، وكانت معه عند صلبه (يوحنا 19، 25)، ودفنه (مرقص 15، 47)، وكانت واحدة من النسوة اللواتي أتين إلى القبر لدهنه بالطِّيب (مرقص 16، 1)، وقد ظهر لها المسيح عند قيامته، فذهبت “وأخبرت الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون” (مرقص 16، 10). أما في الرواية التي نقلها النويري فهي “من قرية من قرى أنطاكية يقال لها مجدل، وكانت من أوسط نساء بني إسرائيل حسبا، وكانت أجمل نسائهم وأكثرهم مالاً، وكانت تستحاض فلا تطهر أبداً، وخطبها أشراف بني إسرائيل وملوكهم وامتنعت من إجابتهم، فظنوا أنّ ذلك ترفعاً منهم، وإنما كان بسبب ما يُعر لها. فلما ظهر عيسى وشاع ذكره، أتته في جملة المرضى ليشفيها، فخجلت أن تسأله لكثرة الناس حوله، فجاءت من ورائه فمسته بيدها فزال عنها ما كانت تشكوه وطهرت وآمنت بعيسى، وأنفقت مالها فيما أمرها به من وجوه البر، وصارت فقيرة وتبتلت وتخلت للعبادة، وكانت تعد من أصحاب عيسى”. تختلط صورة المجدلانية هنا بصورة امرأة أخرى من نسوة الإنجيل، وهي المرأة التي كانت تنزف دما منذ اثنتي عشرة سنة، و”لما سمعت بيسوع، جاءت في الجمع من وراء، ومست ثوبه”، فبرئت للتو من الداء (مرقص 5، 25-34).
يكمل النويري هذه القصة، وفيها يأمر عيسى المجدلانية أن تجمع الحواريين ليفرّقهم “دعاة إلى الله عز وجل في البلاد”. يبلّغ النبي تلامذته رسالة ربهم، ويقول: “إن آية ذلك أن تأتيكم الملائكة في ليلتكم هذه بمغارف فيها نور من نور الله، فكل من تناول مغرفة منها، فليلحس النور الذي فيها، فإنه يصبح وقد تكلم بلغة القوم الذين بعث إليهم”. تقارب هذه القصة الغريبة واقعة حلول الروح القدس على الرسل بعد صعود المسيح إلى السماء في “أعمال الرسل”، حيث ظهرت ألسنة كأنها من نار، ووقف كل لسان منها على كل واحد من الرسل، “فامتلأوا جميعا من الروح القدس، وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم، على ما وهب لهم الروح القدس أن يتكلموا” (أعمال الرسل 2، 2-4).