“حطلة”.. الجغرافية التي تحولت مثلاً فراتياً
صادفَ أن سمعت العبارة في أحد المسلسلات البدويّة التي عرضها التلفزيون السوري، العبارة هي “ياما مرت على حطلة ظعون”، عبارة مُتداولة بين أبناء الفرات في الشرق السوري، غير أنّ قلة من يعرفون حكايتها ولماذا قيلت؟،
ثم أخذت بُعداً آخر كدلالة تحدٍّ لما مر أو قد يمر به الإنسان من مشاكل أو اختباراتٍ لمواقف فيُقال بالمحكي: “أهوووو يا ما مرت على حطلة ظعون” للتقليل من شأن التحدي،
وقلةٌ أيضاً من يعلم أنّ لتلك المقولة جغرافية هي “حطلة” القرية التي تنام على كتف الفرات عند ضفته اليُسرى، وحملت توصيفها كأحد أحياء مدينة “دير الزور” منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي أيضاً أمُ البساتين ومهنة “الجص” حيثُ أرباب الكار الذين يقصدهم أهالي المحافظة لغرض طلاء المنازل بالجص الأبيض.
.
تقعُ “حطلة” على ضفة نهر الفرات اليسرى لجهة منطقة الجزيرة، هناك تغفو على شريط النهر بامتداد 7 كم، وعمق 7 كم، وصل عدد سكانها قُبيل الأزمة إلى قرابة 40 ألف نسمة، فيما عاد إليها ما بعد تحرير المحافظة أكثر من 80%،
.
التسمية هناك من يرى في اسم قرية أو حي “حطلة” أنه مُركب من حط الطعام، وهناك من يرى أنه جاء من “حط الرحال”، وما بينهما يدور سبب التسميّة، ومن يراها تجمع كلا السببين :
قُبيل إنشاء الجسور على نهر الفرات كانت وسيلة النقل بين ضفتيه هي القوارب النهرية، للوصول إلى مركز المحافظة مدينة “دير الزور”، كان الناس العابرون يتوافدون من أرياف الجزيرة الفراتيّة فتُصبح منطقة “حطلة” أشبه بمكان مبيت، أهل القرية يستضيفون العابرين، وحتى ما بعد إنشاء “الجسر المُعلق” حيث عبوره يتم على دفعات وكُثر يضطرون للمبيت في “حطلة” أي في بيوت أهلها، هناك يجري تقديم الطعام وإكرامهم، بل كانت المقولة الدارجة آنذاك بلهجة أهل الدير (خل نروح نحكلنا حكلة من حطلة)، يقولها العابرون لتأمين قوتِ إقامتهم، أي لنحصل على حصة من الطعام،
كانت قوافل العابرين لا تنقطع، ويظن ان اسمها جاء بصيغة الأمر من كلمة (حُطّلو) بالمحكي الدارج، أي ضع له طعاماً، وحتى مع إنشاء الجسر المدني (السياسية)، استمر الوضع كما هو كنتيجة لقلة وسائل النقل، ويُمكن أنه جاء من حط الرحال للعابرين، علماً أنّ سكانها هم من قبيلة أغلبيتها في “العراق”، ما نعلمه هو أن منطقة “حطلة” محطة عبور فهي الممر المؤدي لمركز المحافظة ومثل هذا الموقع فرضَ أن تكون قبلة الناس للاستراحة التي تطول بحكم أن وسائل النقل لم تكن سوى الجِمالْ أو الحمير وما إليها فيما سبق.
اما معنى الاسم لغوياً فكانت “حطلة” بمعنى البطن، وبطن الأرض ما احتوت من أقوام وأعراق، وحَطّ في المكان، مكث فيه : “في لسان العرب عن الأَزهري عن ابن الأَعرابي الحِطْل الذِّئْب والجمع أَحْطال،
.
ومن المتواتر على لسان أبناء منطقة “دير الزور” أن اسم “حطلة” جاء من التموضع في المكان،
.
وفي الروايات أنها كانت ملتقى لتجمع تبادل السلع بين ضفتي الفرات ويرتادها التجار والباعة ما أدى لإقامة بعض العشائر العربية في هذا المكان،
.
وهناك من يراها جاءت من حط الرحال، فالعشيرة التي تسكنها وهم “البوبدران” قدموا من “العراق”، وأغلبهم يقطنون محافظاته من جنوبه إلى شماله، بينما هم يقطنون “حطلة” في سورية بشكل رئيسي مع وجود محدود في بلدة “السوسة” التابعة لمدينة “البوكمال”،
.
ومن أبرز شخصيات تلك العشيرة الراحل الأديب الكبير الدكتور “عبد السلام العجيلي” الذي قطنت عائلته محافظة “الرقة”، وعائلة “بليبل” ومنهم المخرج المسرحي الراحل “حسين موسى بليبل” وشقيقه الفنان التشكيلي “إبراهيم موسى بليبل”، وهناك برلمانيون” مثل: “طعان الحمّيري”، و”قاسم هنيدي”، و”رمضان الخلف”، ومنهم “عبد الرحمن الهنيدي” الذي شغل وزارة الداخلية فترة ما بعد الاستقلال، و”عبد الرزاق الهنيدي”،
.
وتبدو المقولة الدارجة بدير الزور وهي: (يا ما مرت على حَطلَهْ ظعون) تحمل مؤشراً لكثرة المارين والوافدين للمنطقة بحكم موقعها،
.
وهي أخذت كذلك دلالةً بمنحى آخر، فباتت المقولة كالمثل تُضرب حينما يُنذر شخصٌ شخصاً آخر بأمرٍ صعب، فيأتي الجواب بتلك المقولة التي باتت مثلاً بقياس أنّ ما يُمكن أن يحدث لن يُغير شيئاً، وسيمر كحال من مر بـ”حطلة” من عابرين.
.
تتجاوز مساحة أراضيها الزراعيّة 16 ألف دونم، وتُروى عبر مجموعتي ري من جمعيتها الفلاحيّة التي أعيد تأهيلها،
.
اشتُهرت ببساتينها التي تُغطي مساحات واسعة فيها، غلبت عليها الأشجار المُثمرة من المشمش والدراق والجانرك والتفاح والإجاص، ناهيك بالتين والرمان والكرز،
.
تتبع لها كجزءٍ منها “حويجة صكر” التي تتوسط الفرات، و”الحويجة” تسمية محليّة وتعني الجزيرة النهرية، يربطها بالمدينة جسرٌ مدني هو مُتنفس أهالي الريف الشمالي وعموم “دير الزور” لجهة كونه شرياناً اقتصادياً ومعيشياً، فعبره يجري نقل البضائع ومختلف المستلزمات الحياتيّة، ناهيك بتسويق المحاصيل الزراعيّة والثروة الحيوانيّة، فهو كما بقية الجسور ممر نقل بين ضفتي النهر،
.
وقد أدى استهدافها من قبل طيران الاحتلال الأمريكي لضرب بنية الوضع الاقتصادي بالمحافظة وعطّل تعافيه سواء بالنسبة للزراعة أو مجمل الوضع الخدمي، وأدت الأحداث لغياب الزراعة في المنطقة، ولاحقاً نتيجة افتقاد الوقود لجأ الأهالي لتحطيب الأشجار، ومنها المثمرة، كما ولا تزال مقصد تجار الخشب، كل ذلك أفقد “حطلة” بساتين عدة كانت تُغطيها مُشكلةً لوحات جميلة من الخضرة خصوصاً في الربيع والصيف،
.
هي ولا شك بنت الفرات ومياهه العذبة التي أكسبتها هذا المشهد وهو اليوم يعود شيئاً فشيئاً إثر عودة الأهالي،
.
في سالف سنواتها كانت مقصد تُجار الأشجار المُثمرة أو ما يُسمون بـ(الضمّانة) وخاصةً المشمش، وأغلبهم يأتون من محافظة “حلب”، حيث يشترون ناتج البستان بأكمله ويسوقونَهُ لمناطقهم، وأغلب من يعملون بقطافه كانوا فتيةً وصغاراً، مقابل أجر يومي”.
.
يحرص أهالي “دير الزور” على طلاء منازلهم بمادة “الجص الأبيض”، إذ تؤمن تلك المادة برودة للمنازل في ظل صيف المحافظة اللاهب ودفئاً في الشتاء، فما من منزل في قرى وبلدات ومدن المحافظة إلا ويلجأ أهلها لطليه بمادة “الجص الأبيض”، وهي عادة مُتوارثة فطقس “دير الزور” الحار صيفاً، البارد شتاءً، يفرض هذا الأمر، وهي لا تزال تستخدم حتى زمننا هذا.
.
تعلم أرباب الصنعة في قرية “حطلة” على يد معلمي الكار، هم بين من يُزاولها أو ممن باتوا يُديرون ما يُسمى بـ”النوامير” وهي المواقع التي تُستخرج منها تلك المادة، والتي تمر بمراحل عمل عدة لتكون ناضجة ويجري بيعها لأصحاب الورش، من أرباب الكار في المدينة
ونستطيع القول بأن كل من برز بالكار وأتقنه هناك تعلمه على أيدي هؤلاء ليُصبحوا من أهله المُميزين وأداروا ورشهم الخاصة بهم،
وقد تنقل هؤلاء بالصنعة التي بدأوها صغاراً، بالأول يُسمى (نويش) أي من يحمل الجص للمعلم، ثم يُصبح (خَلْفة) أي بمنزلة نائب عن المُعلم”.
وباتت المنطقة الأولى بهذه الصنعة : فعمل صانعوها في المحافظة ككل، بل وصلوا إلى محافظتي “الرقة والحسكة”، كما وصلت ورشاتهم إلى “ريف دمشق”، في قرى وبلدات الغوطة، وجرت إضافات على العمل،
سابقاً كان يُكتفى بعملية الطلاء وفق موازين وكميات تخضع لتقديرات لجهة السماكة والامتداد وما إلى ذلك، في الوقت الراهن بات تشكيل مُجسمات وأشكال نحتية في سقف المنزل وسواه، من صلب العمل، وهنا تبرز العين الفنيّة لدى من يُنفذ.
.
صنعة “الجص” ولدت في “دير الزور” واختص بها حي “حطلة”، تُضفي عملية طلاء المنازل بالجص الأبيض جماليّة وسحراً، وهي أيضاً بمنزلة الأرضية المناسبة لما يتبعها من أعمال دهان وزخرفات إذ تُسهل من ذلك وتعكس رونقاً خاصاً للمكان”.
عثمان الخلف – مدونة وطن