*الخميس العظيم والمناولة الإلهية*
تحتفل الكنيسة الأرثوذكسيّة المقدّسة بسرّ الشكر الذي أقامه الربّ يسوع المسيح مع تلاميذه يوم الخميس العظيم. بعد القيامة بدأ المسيحيّون يحتفلون بسرّ الشكر (الإفخارستيّة)، هذا السرّ الذي فيه تحلّ نعمة الروح القدس على القرابين، الخبز والخمر، وتجعلهما جسد ودم الرب، فنتناولهما لنيل مغفرة الخطايا والمصالحة مع الله والشركة معه، والحياة الأبديّة، والشفاء، والخلاص. إنّ إقامة القدّاس الإلهيّ هو أعظم عمل يقوم به الشعب، لأنّه يرفع الإنسان إلى السماوات ويعطيه تذوّق خبرة الملكوت الآتي منذ الآن. وبعد ألفي سنة من تجسّد الرب، يستمرّ المسيحيّون بالدُّنُوّ من الكأس المقدّسة بإيمان وخوف ورعدة وشوق ومحبّة، للاِتّحاد بملك المجد.
إنّ المناولة الإفخارستيّة هي لشفاء النفس والجسد، هذا ما تعلنه الأفاشين المختلفة التي تُقرأ قبل المناولة وبعدَها، كما يقول القدّيس باسيليوس الكبير: “لتكن هذه القدسات لشفاء النفس والجسد”، وأيضاً في إفشين القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: “لصحّة النفس والجسد”. فكلّ من يتناولهما يتّحد بالمخلّص. لذا، ينظر الآباء إلى الإفخارستيّة ليس فقط كدواء عاديّ، بل كالدواء الشافي كلّ الخطايا وجروحاتها وأمراضها. يؤكد القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم أنه “لا يوجد مرض يعسر على هذا الدواء”. ويكتب أيضًا القدّيس غريغوريوس النيصصيّ أنّ “هذا الدواء عندما يدخل فينا يطرد بقوّته كلّ تأثير السموم التي دخلت فينا. ما هو هذا الدواء؟ إنه ليس سوى الجسد الإلهيّ الذي ظهر لنا أقوى من الموت والذي صار من أجلنا مصدر حياة”.
كما ويوضّح القدّيس نيقولاوس كاباسيلاس، وهو من القدّيسين الذين تميّزوا بكتابتهم حول الأسرار الكنسيّة، أنّ الإفخارستيّة هي “الدواء الوحيد لأمراض طبيعتنا. أعطنا يا رب أن نلتجئ إلى هذا الدواء ليس فقط مرة واحدة، ولكن بشكلٍ مستمر: يجب على الطبيب أن يمنحنا بشكل مستمرّ عنايته لكي نشفى”. ويشرح أيضاً القدّيس يوحنّا الغزّاويّ: “يتقدّم الخطأة إلى المناولة كما يتقدّم الجرحى الذين يحتاجون عناية سريعة، ولكن هنا يتقدّمون من الربّ الذي يشفي”. المناولة الإلهيّة هي إذًا مصدر الحياة والصحّة وشفاء النفس والجسد. إنّ جسد المسيح الكريم ودمه اللذَين امتصّهما الإنسان بكليّته بواسطة المناولة يظهران قوتهما الشفائيّة في كلّ كيان الإنسان. بالتأكيد فإنّ الشفاء الذي يتمّمانه يتمّ أوّلاً في علاج الأمراض الروحيّة، أي الخطايا والأهواء التي تُضعف النفس والجسد.
هذه الكلمات التي تشير الى الشفاء مختَبرة من قبل المؤمنين على مدى الأجيال، إذ تفرز الكنيسة كهنة لمناولة المرضى في المستشفيات والمرضى المعزولين بسبب أوبئة وأمراض مُعدية (كالبرص، والجدري، والخناق، والكورونا)، ومن ثمّ يتلمذ الكهنة الكأس دون التقاط أيّة عدوى، وذلك لأنّ الوباء يفقُدُ فعّاليّته بتأثير من القوى الإلهيّة الموجودة في الجسد الإلهيّ والدم المحيي للربّ يسوع المسيح المصلوب والقائم.
وبحسب قول القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ إن المناولة دواء للخلود والحياة الأبديّة ليس لأنّها تحمي من الموت الجسديّ، ولكن لأنّها تسمح للمؤمن بأن يعيش بالمسيح يسوع إلى الأبد وتمنحنه الحياة الخالدة في ملكوت السماوات. ” من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه” (يوحنا 6: 56).
تقتضي المناولة، كما سائر الأسرار، عملاً مشتركاً بين قوى النعمة الإلهيّة والقبول الفعّال لعملها من قبل الشخص المؤمن. السرّ يفعل فعله في المؤمن بحسب الحالة الروحيّة لهذا المؤمن، وذلك لأنّ عمل الله في العالم يحترم حرّية الشخص ولا يفرض نعمته، بل يتركها تعمل بحسب انفتاح المتلقّي ورغبته.
إذًا، قوّة الشفاء التي تعطيها المناولة المقدّسة مرتبطة، بشكل جزئيّ، بإيمان المتناول. وهذا ما يشير إليه القدّيس بولس في رسالته إلى كورنثوس عندما يتكلّم عن التأثير السلبيّ على النفس والجسد بسبب ضعف الإيمان والاستعداد للمناولة: “إذًا، أيُّ مَن أكل هذا الخبز، أو شرب كأس الرب، بدون استحقاق، يكون مجرمًا في جسد الرب ودمه.ولكن ليمتحن الإنسان نفسه، وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس. لأنّ الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه، غير مميّز جسد الربّ.من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى، وكثيرون يرقدون” (1 كور 12: 27-30).
وكما نقول في صلاة المطالبسي: “نعم أيّها الربّ يسوع المسيح إلهي لا يكن لي تناول أسرارك الطاهرة المحيية لدينونة، ولا أصبح ضعيفًا بالنفس والجسد من جرى تناولي إيّاها بغير استحقاق” (الأفشين الأول للقديس باسيليوس الكبير).
ونحن نستعدّ لفرح قيامة الربّ مخلّصنا، يبقى أن نتذكر حين نقترب من المناولة يوم الخميس العظيم كلمات الأب ألكسندر شميمان: “الإفخارستيا هي دخول الكنيسة إلى فرح سيّدها”. هكذا نَلِجُ إلى سرّ الفرح الأبديّ البازغ من القبر الفارغ بهجةَ خلاصِ الجميع.
*+الأب بسّام ناصيف*