الأربعاء العظيم المقدّس
يواجهنا الأربعاء العظيم المقدس بشخصيتين متعارضتين، أو حالتين للنفس، عبر ذكر فعليَن إنجيليَين. أولهما، سكب الطيب الجزيل الثمن على رأس يسوع، من قبل امرأة في بيت عنيا؛ وثانيهما، خيانة يهوذا التلميذ لمعلِّمه. لكن ثمّة رابط ما بين هذين الفعلين، لأنّ التلميذ الخائن احتّج على إسراف المرأة.
بعد صلاة النوم الكبرى مساء الثلاثاء، وعلى غرار اليومين السابقين، تبدأ خدمة “الخَتَن”. وتلّمح التراتيل، بإشارات عديدة، إلى “التلميذ غير الشكور” و”المرأة الزانية”. أمّا إنجيل السَحَر (يوحنا 12/17-50) فلا يشير إلى حادثة بيت عنيا، بل يخبرنا كيف أنّ يسوع طلب من أبيه: “ليتمجد اسمك”، وذلك في أثناء أحد لقاءاته مع الجموع. (أيُّ نموذج للصلاة البَنَوية يشكِّل هذا المقطع بالنسبة لنا؟ أنموذجاً غير مرغوب، أم عباديّ ومُحِبّ؟). ويأتي صوت من السماء ليقول: “مجّدتُ وسأمّجدُ أيضاً”. سيكون هذا التمجيد آلامَ المسيح وقيامَتَه. تخبرنا بعض جمل هذا الإنجيل عن الآلام مباشرة: “الحقّ أقول لكم إنْ لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتَمُتْ فإنّها تبقى وحدها. وإن ماتت أتت بثمر كثير…قد حضرت دينونة هذا العالم. الآن يُلقى رئيس هذا العالم خارجاً. وأنا إذا ارتفعت عن الأرض جذبت إليَّ الجميع”.
نتابع القراءة من كتاب النبي حزقيال، في قدّاس السابق تقديسه. فنقرأ النص (4/3-3/3) الذي يأمر الله فيه النبيّ بالذهاب إلى الناس دونما خوف وإخبارهم بكلمات الرب التي سمعها. كذلك نتابع القراءة من كتاب الخروج (2/11-22). وهو النص الذي يتكلم عن قتل موسى للمصري الذي ضرب إسرائيلياً، ثم هروبه إلى أرض مديان وزواجه هناك. أما القراءة الأخيرة فمن كتاب أيوب (2/1-10)، حين يطلب الشيطان إذناً من الله لكي يجرِّب أيوب في جسده، لكن أيوب يرفض لعن الله على الرغم من قيحه وتحريض زوجته. يتكلّم إنجيل القدّاس (متى 26/6-16) عن مسح الرب بالطيب في بيت عنيا. تأتي امرأة حاملةً قارورة طيب من ناردين غالي الثمن، وتسكبه على رأس يسوع. فيغضب التلاميذ ويتساءلون: “لمَ هذا الإتلاف؟ فقد كان يمكن أن يُباع هذا بكثير ويُعطى للمساكين”. فيجيب يسوع بمدح صنيع المرأة قائلاً:
“المساكين عندكم كلّ حين وأمّا أنا فلست عندكم في كلّ حين. فإنّ هذه قد أفاضت هذا الطيب على جسدي إنّما صُنع ذلك لدفني”.
فيخرج يهوذا الإسخريوطي أحد الإثني عشر ليلتقي الكهنة قائلاً: “ماذا تريدون أن تعطوني فأسلمه إليكم”. فيتعهد الكهنة له بثلاثين من الفضة.
وافق يسوع على صنيع المرأة له لأنّه كان بمثابة عهد أو مبايعة له قبل موته ودفنه، ولأنّه، أيضاً، كان تعبيراً عن محبّة عظيمة أُظهرت تجاهه، في الفترة القصيرة التي تبّقّت له من الحياة، بينما الفقراء موجودون دائماً. ولكن هل نستطيع أن نجد في كلمات يسوع هذه إرشاداً واضحاً لأفعالنا؟ يبدو أنّنا قادرون. يبارك يسوع إسراف المرأة بسبب ظروف خاصّة جداً، تتعلّق بحقيقة حضور يسوع المنظور بين الناس، وحقيقة قرب دفنه. لكن هذه الظروف لم تعد موجودة، فالواجب الآن مختلف. فإنْ كنّا لسنا مضطرين إلى إدانة غنى وجمال التقدمات المقدَّمة لخدمة مجد الله، إلا أنّه يتوجّب علينا أن نعي أنّ التقدمات الموجهة لأعضاء الجسد السّري الذين يتألمون أكثر أهميّة. ففي أولئك نكرِّم رأس المسيح، لأنّه من المسيء لله أن تُبنى كنائس فخمة فيما الناس يموتون من الجوع.
حادثة بيت عنيا لها دلالة ومغزى يتجاوزان بكثير مجرّد تقدمة قارورة طيب. ولا ينحصر التعبير عن محبّتنا ليسوع في الأمور المادية فقط، بل أيضاً بتكريس ثروتنا غير المادية، كحياة الصلاة، أو حياة التأمل أو النسك، أو بعض التضحيات المكلفة التي تبدو ليست ذات فائدة. ما يزال العالم يحتّج كما فعل التلاميذ في بيت عنيا: لمَ هذا الإسراف؟ أليست حياة عادية مكرَّسة لخدمة البشر أكثر فائدة من التقدمات المادية؟
ويبقى تقديرُ “قيمة خسارتنا” عصبَ كلّ الدين الحيّ حقاً.. فإذا كان لنا الحقّ في أن نبذل كل ما باستطاعتنا عندما نواجه مصائب ومحنا واقعية وواضحة دون أن نحسب كم ما نخسره في سبيل الخروج من محنتنا، فلدينا الحق إذن، في ما يتعلّق بأنفسنا فقط، أن نسكب طيباً (غير منظور) على رأس يسوع – أي أن “نخسر” (لكننا نربح بالحقيقة) أفضل ما في حياتنا من أجله. قلبنا هو قارورة الطيب الأولى التي يجب أن نكسرها أمامه، ومن أجله.
إنّ حالة يهوذا رهيبة ومظلمة جداً إلى درجة لا نجرؤ على محاولة شرحها أو الدخول فيها. ولكن لنحفظ في ذهننا جملة من “خدمة الختن” للأربعاء المقدس: “التلميذ العاقّ من كانت فيه نعمتك قد شاء رفضها”. بالحقيقة، بوسع الإنسان أن يرفض نعمة، كانت تملؤه من قبل. ولكن ما أكثر المسيحيين الذين ما قالوا، عبر مسرى حياتهم، للهوى المسيطر عليهم – سواء كان جسداً أم مالاً أم كبرياء :”أنا مستعد لأن أبيعك يسوع. قل لي ما المسّرات التي ستعطيني إياها، وسوف أسلمه لك؟”.
في كنائس كثيرة، تقام خدمة الزيت المقدس مساء الأربعاء المقدس لكلّ المؤمنين الذين يرغبون بالحصول على العون والمؤازرة الروحية والجسدية.
المتروبوليت سابا إسبر