في نشأتنا، تصاحبنا قناعات بالعديد من المفاهيم وتترسّخ فينا حتى نعتقد أنها حقائق لا تحتمل الشك. وأيضاً، لم تكن نقبل النقاش أو التساؤل حول ماذا أو لماذا.
مثل غيري، نشأتُ على أنه من سوء الأدب ومن قلّة الدين أن أتساءل عن أشياء مثل التعدد ولماذا هو متاح للرجال دون النساء؟ كان عليّ أن أقبل بصمت الإجابات المتاحة مثل أن السبب هو الخوف من اختلاط الأنساب. وفي حال تابعت بالتساؤل الطبيعي: إذاً، ماذا الآن وقد أصبحت هناك بصمة وراثية؟ تأتي الإجابة بخشوع كالتالي: “ربما لا ندرك حكمة الله في كل شيء”. هكذا، تنتهي الإجابة التي يراها المجيب كافية ووافية وشافية على أي سؤال وكل سؤال، لكنها أبداً لم تشفِ أي من السائلين.
في هذا الإطار، كان من أبرز المسلمات زواج الرسول من السيدة عائشة وهي بنت ست سنوات، والدخول بها وهي في التاسعة، ولا داعي لذكر أن قصة كهذه من شأنها أن تثير العديد من التساؤلات، ربما أهمها يدور حول استخدامها لتبرير جريمة بشعة كتزويج الأطفال.
ما مدى صحة هذه “الحقيقة”؟
ولكن ما مدى صحة هذه “الحقيقة”؟ فبالرغم من شيوع هذه الرواية، إلا أن هناك العديد من الأصوات التي قدّمت طرحاً مختلفاً بالكامل، ومنها دراسات قدّمت أدلة علمية تدحضها.
يقول المحاضر في مادة الحديث في المعهد الحكومي للدراسات الإسلامية في إندونيسيا فقيه الدين عبد القدير لرصيف22 إن “هناك خلافاً بالفعل بين خبراء الحديث والمؤرخين حول عمر السيدة عائشة وقت الزواج، لكن لا يجب بأي حال، أن يُستخدم كتبرير لزواج الأطفال، بل يجب أن يبقى المقصد من وراء الزواج هو أخلاقيات الزواج ومآلاته وهي رجل وامرأة متساويين”.
ومن ضمن الدراسات التي بحثت في عمر السيدة عائشة واحدة أجرتها المحاضِرة في “مركز اللاهوت الإسلامي” في جامعة مونستر الألمانية د. ياسمين أمين حللت فيها الموضوع من أكثر من زاوية، وحملت عنوان: “إعادة النظر في زواج القُصر: اجتهاد متعدد التخصصات حول المشاكل الأخلاقية المعاصرة”، وهي جزء من كتاب “تراث التفسير الإسلامي والعدالة بين الجنسين”Islamic Interpretive Tradition and Gender Justice، الصادر عن جامعة ماكغيل الكندية.
فصّلت أمين العديد من النقاط ذات الصلة بعمر السيدة عائشة وقت زواجها من الرسول، بالإضافة إلى دراسة الأدلة القرآنية والفقهية التي تبيح تزويج الصغيرة، وجمعت أدلة من التاريخ، والسنّة، والسيرة النبوية، تشير إلى أن عمر السيدة عائشة وقت دخول الرسول بها لا يمكن أن يكون تسع سنوات.
فما هي الإشكاليات التي تطرحها أمين والتي من شأنها أن تغيّر قناعة “راسخة” فينا؟
صحيح البخاري
عند البحث في الأحاديث الواردة في موضوع سن السيدة عائشة وقت زواجها، نظرت أمين فقط في ما جاء في صحيح البخاري الذي يعتبره العديد من المسلمين المرجع الأكثر صحة في ما يتعلق بالأحاديث النبوية.
في هذا الإطار، نجد أن الأحاديث المذكورة في صحيح البخاري تروي أن السيدة عائشة كانت في السادسة من عمرها عند زواجها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي التاسعة عند الدخول بها.
تلفت أمين إلى أن جميع الروايات ترجع للسيدة عائشة نفسها، ومن ثم فإن تلك الأحاديث تندرج تحت قسم “الموقوف” من الأحاديث، بمعنى أن الحديث توقف عندها، بدون أن يتصل سنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء هذا التصنيف وفق تعريف ابن حجر للحديث بأنه ما قاله النبي فقط، بينما الآثار والأخبار، فيمكن أن يرويها غيره، ومن هنا، فإن هذه “الأحاديث”، لا تُعتبر أحاديثَ بالأساس، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
واستكمالاً للبحث، تطرقت أمين للنظر في علم الرجال، والذي يفرق الرواة الثقات عن غيرهم، إذ رأى عدد من المحدثين، أبرزهم ابن حجر (ت. 1449)، والذهبي (ت. 1348) أن هشام بن عروة (أحد رواة الحديث) لم يكن من الرواة الثقات، فقد كتب ابن حجر أنه لم يكن يدري ماذا يروي عندما كبر في السن، وتم اعتباره مدلساً على أسوأ الفروض، وضعيف الذاكرة في أحسن الأحوال.
في ذات السياق، هناك راوٍ آخر للحديث عن سن السيدة عائشة وقت زواجها بالنبي، وهو سفيان، والذي قد يكون سفيان بن عيينة الكوفي أو سفيان الثوري، وكلاهما من الكوفة، ورصيفهما ابن حجر بالمدلّسيْن كذلك.
الروايات التاريخية
للفصل في هذا الموضوع، ربما يلزم تتبع الأدلة والسياقات التاريخية للوقوف على الحقائق ذات الصلة. في كتابه “السيرة النبوية”، كتب محمد بن إسحق عن السابقين والسابقات الذين أسلموا مبكراً، وذكر أن من ضمن مَن أسلموا بعد البعثة بسنة واحدة أسماء بنت أبي بكر وأختها عائشة.
كما أورد نفس القائمة ابن كثير، في كتابه “السيرة النبوية”، مع ذكر أن عائشة كانت صغيرة. فلو أسلمت أسماء وعائشة في السنة الأولى من البعثة، كما هو مذكور في عدة مصادر، لا يمكن أن يكون عمر عائشة تسع سنوات في السنة الثانية من الهجرة، لأن معنى هذا أنها لم تكن قد وُلدت عندما آمنت بالرسول قبل الهجرة!
أيضاً، من البديهي أنه من أجل الإيمان والنطق بالشهادة، يجب أن يكون الشخص مميِّزاً، وبالتالي لا يُفترض أن تكون السيدة عائشة قد وُلدت، بل أن تكون في سن يسمح لها بالتمييز.
أما الطبري، فقد أخبر بأنه لما تجهّز أبو بكر للهجرة إلى الحبشة (قبل الهجرة إلى المدينة بنحو ثماني سنوات)، ذهب إلى “المطعم بن عدي”، وطلب منه أن يتمم زواج عائشة من ابنه “جبير”، وكان قد خطبها قبل ذلك، فرفض المطعم لأن أبا بكر أسلم. فلو كان عمر عائشة وقت زواجها من النبي ست سنوات، فلا يمكن أن تكون كانت قد وُلدت وقت تلك الواقعة. كذلك، قال الطبري، في كتابه “تاريخ الأمم والملوك”، أن أبا بكر كان له أربعة من الأبناء، ولدوا جميعهم في الجاهلية.
هذا وقد أفاد ابن حجر العسقلاني، في كتابه “تمييز الصحابة”، بأن السيدة فاطمة الزهراء كانت تكبر السيدة عائشة بخمس سنوات. وولدت السيدة فاطمة وقت كان عمر النبي 35 عاماً، وهاجر النبي إلى المدينة بعمر 52 عاماً.
وعليه، فإذا أخذنا بصحة هذه الروايات، فإما أن تكون السيدة عائشة قد أخطأت في تقدير عمرها، أو أن الحديث الذي روي بعد نحو 100 عام من الواقعة، لم يكن صحيحاً.
هل يمكن تزويج الفتاة بغير رضاها؟
في حديث رواه البخاري عن أبي هريرة، قال الرسول: “لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال ‘أن تسكت’”، وفي رواية أخرى: “الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها”.
كذلك يُروى عن النبي أنه قال: “أشيروا على النساء في أنفسهن”.
ولا يخفى أن استئذان فتاة للزواج لا يمكن تصوره، فضلاً عن حدوثه، في سن ست سنوات. وكيف يخالف الرسول قوله، وهو مَن تعتبر سنّته الفعلية نبراساً للمسلمين في كل العصور؟
في معرض حديثه عن سن السيّدة عائشة وقت الزواج، أشار الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إلى صعوبة تحديد سن الشخصيات في التاريخ بشكل دقيق، وقد تختلف الفروق من سنة إلى عشر سنوات، إذ لم تكن توجد إحصائيات أو أي حصر بالمواليد، كما أضاف أنه بعد العديد من القراءات، يرى أن سن السيدة عائشة وقت زواجها من النبي لا يمكن أن يكون أقل من 13 عاماً.
وتقول الكاتبة والباحثة في الدراسات الإسلامية د. سوسن الشريف لرصيف22: “هناك خطاب انتقائي من جانب علماء الدين، يركز كل الأعباء وكذلك كل العقوبات على المرأة، ويمنح الامتيازات كلها للرجل. نرى ذلك بوضوح في عرض بعض الأحاديث دون توضيح المناسبات التي وردت فيها، أو تفسيرها، مما جعلها تُفهم بشكل خاطئ”.
وعليه، ينبغي أن نكف عن اتخاذ زواج الرسول كدليل على إباحة تزويج الأطفال، ولنتلمس عوضاً عن ذلك، في سيرته عليه الصلاة والسلام، نموذجاً لعلاقة زوجية عنوانها المودة والرحمة.
تربينا على أن الصمت والانصياع هما أقصر الطرق إلى اليقين، لكن بعد أن مر العمر، تأكدنا أن طريق اليقين طويل، طريق مفروش بالأسئلة، بالبحث، والتفكير، والنقاش، لكننا أبداً لن نصل إلى نهايته إذا ظل مفروشاً بالخوف.
لم أكتب هذا المقال بهدف الإقناع، بل اعترافاً بحقي في السؤال، وأنتم لديكم الحق نفسه.
(رشا دويدار رصيف 22) راقت لي